لا ريب أن الكتابَ السوداني ذا الثماني والعشرين صفحة، الذي أرسلته وزيرة الخارجية السودانية في 24 يونيو 2010، إلى رئيس مجلس الأمن، سَبَرَ أغوارًا كثيرة، وأماط اللثام عن حقائق قانونية مهمة لا تزال -حتى الآن- وفق الكتاب السوداني تُشكّل القضايا العصية على الحل بين الفرقاء الثلاثة، مصر والسودان وإثيوبيا.
سوف نحاول في هذا المقال التعرض لعدد من القضايا القانونية المهمة التي اشتملت عليها المذكرة الدبلوماسية السودانية التي اتسقت في جل ثناياها مع الموقف المصري الرسمي.
1- الإلزامية القانونية لأي اتفاق مرتقب لتشغيل سد النهضة: أشارت المذكرة إلى المطلب -بل الإصرار- الإثيوبي، والمتمثل في ألا يكون الاتفاق الفني المرتقب لتشغيل سد النهضة اتفاقًا ملزمًا، بل مجرد “خطوط إرشادية” هادية يسهل تعديلها، بل وإنهاؤها بشكل أحادي حين تخفق الأطراف الثلاثة في تعديله. وأشارت المذكرة -في هذا الصدد- إلى أن المقترح الإثيوبي يخالف المقترح السوداني الذي يحرص على أن يكون الاتفاق النهائي اتفاقًا جامدًا Hard Agreement لا يُعدل أو يُبدل بالطريقة التي تبتغيها إثيوبيا.
لا جرم أن الطرح الإثيوبي يبتغي -حتى الآن- أن تقوم دولة السد (إثيوبيا) من تلقاء نفسها وانفراديًّا بتعديل المحددات والمسائل الفنية الخاصة بملء وتشغيل سد النهضة، ما يمثل انتهاكًا صارخًا لكافة الممارسات الدولية المماثلة، وتدليلًا لا حصرًا نهرا “الأنزوس” في آسيا، و”أوروجواي” في أمريكا الجنوبية.
لا ضير أن نشير إلى أن التعنت الإثيوبي في هذا الصدد يخرق العديد من المبادئ القانونية الدولية، فضلًا عن اتفاق إعلان المبادئ المبرم في الخرطوم في عام 2015، حيث نص البند الخامس بكل وضوح على حظر قيام إثيوبيا بالملء للسد إلا بعد “اتفاق” مع مصر والسودان.
2- مفهوم الاتفاق في القانون الدولي: وفقًا لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الدولية، فإن “الاتفاق المعقود بين الدول ذات السيادة ينشئ حقوقًا والتزامات متبادلة فيما بينهم”. وبينت اتفاقية فيينا المشار إليها أن الدول لها مطلق الحرية والإرادة في تسمية الصك الدولي الملزم لها، فقد تسمي الدول المعاهدة: اتفاقية، أو اتفاقًا، أو اتفاقية إطارية، أو نظامًا أساسيًّا، أو ميثاقًا، أو تبادل خطابات، أو تبادل مذكرات، أو محضر أعمال، أو غيرها.
على هدي ما سبق، فإن إثيوبيا تبتغي من تسمية الصك المرتقب لتشغيل سد النهضة بـ”توجيهات عامة” التهرب من إلزامية المعاهدات الدولية الملزمة التي تطرقها الدول، وتتوسل بها لأجل تحقيق المنافع والمزايا المبتغاة من إبرام هذه المعاهدات.
3- اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان: أشارت المذكرة السودانية إلى الإصرار الإثيوبي على تضمين نص في الاتفاق المرتقب يتحدث عن “عدم اعتراف إثيوبيا بالاتفاقية المبرمة بين مصر والسودان”. وأجابت المذكرة السودانية بيسر عن المطلب الإثيوبي بأن الاتفاقية المشار إليها لا شأن لها بالاتفاق المرتقب لتشغيل سد النهضة.
4- اتفاقية عنتيبي الإطارية للتعاون عام 2010: أماطت المذكرة السودانية اللثام عن السعي الإثيوبي لتضمين اتفاقية عنتيبي للتعاون الإطاري بين دول حوض نهر النيل الموقعة في عنتيبي عام 2010. هذا المطلب الإثيوبي ليس غريبًا فحسب بل شاذًّا أيضًا، فمن بين أحد المبادئ الأساسية لقانون المعاهدات الدولية هو “الأثر النسبي للمعاهدات الدولية”، وذاك يعني أنه لا يمكن أن تُجبر دولة بغير رضاها على أن تلتزم بالمعاهدات الدولية التي لم تكن طرفًا فيها.
تدرك إثيوبيا وكافة دول “اتفاقية عنتيبي” أن السودان ومصر لم يوقّعا على هذه الاتفاقية التي تنكر بل تقوض كافة حقوق مصر والسودان وفقًا للقانون الدولي للانتفاع بالمجاري الدولية في غير أغراض الملاحة.
وتجدر الإشارة إلى أن أبرز الأحكام القضائية التي أصدرتها المحكمة الدائمة للعدل الدولية لعصبة الأمم، في ذات الصدد، قضت بأنه من المستحيل أن تمتد المعاهدات الدولية تلقائيًّا إلى الدول الغير؛ فالمعاهدة لا يمكن أن تكون شرعية إلا بين الدول الأطراف فيها فحسب.
مسودة الاتفاق السوداني
أرفق السودان في كتابه لمجلس الأمن مسودة للاتفاق النهائي الشامل لتشغيل سد النهضة، وأكدت أن هذا المقترح الذي يشتمل على 15 مادة، يتأسس في جوهره على مسودة الاتفاق الذي قدمه البنك الدولي للإنشاء والتعمير في واشنطن في جولة مفاوضات واشنطن التي تخلفت عنها إثيوبيا، فضلًا عن خلاصات المشاورات الفنية الأخيرة التي رعتها الخرطوم في شهري مايو ويونيو 2020.
شمل مشروع الاتفاق السوداني أبرز القضايا الفنية، والأهم أن السودان قام بالتعريف الاصطلاحي للقضايا الفنية الآتية: إجراءات تقليل الأضرار، الجفاف، الأثر البيئي والاجتماعي للسد، تبادل المعلومات بين الدول الثلاث، التنسيق بين الدول الثلاث، وأخيرًا تسوية النزاعات.
أما المبادئ القانونية التي تأسس عليها مشروع الاتفاق السوداني، وفق الكتاب الرسمي السوداني لمجلس الأمن، فهي المبادئ التالية:
– مبادئ القانون الدولي للاستعمال المنصف والمعقول لمياه المجاري المائية الدولية في غير أغراض الملاحة.
– الإخطار المسبق والتشاور بين الدول الثلاث.
– عدم إلحاق الضرر.
– التسوية السلمية للنزاعات.
صفوة القول، لقد كشفت المذكرة السودانية المقدمة لمجلس الأمن عن العديد من المغالطات الإثيوبية التي أماطت اللثام عن نية إثيوبيا تجاه المعاهدات الدولية، كما كشفت المذكرة في جلها عن الحقوق السودانية المتماثلة مع الحقوق والمطالب الشرعية المصرية تأسيسًا على مبادئ القانونين الدولي العرفي والاتفاقي، وتدليلًا لا حصرًا أشارت مسودة الاتفاق السوداني إلى أن “هذا الاتفاق لن يمسّ بأي من الحقوق الحالية والمستقبلية في استخدام مياه نهر النيل”.