منذ أيام أرسلت تركيا إنذارًا بأنها ستقوم بأعمال مسح سيزمي (زلزالي) في الفترة من 21 يوليو إلى 2 أغسطس 2020، في منطقة شرق المتوسط التي تحاول فيها أنقرة خلق نوع من التوتر الدائم مع الدول التي تمتلك ثروات بترولية وغازية في تلك المنطقة ووفق اتفاقيات التقسيم ورسم الحدود البحرية المعترف بها دوليًّا وهي مصر واليونان وقبرص.
وبعد مرور 10 أيام من التاريخ المفترض لبدء التنقيب، جاء رد القاهرة على لسان المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، الذي أعرب “عن اعتراض مصر على تداخل النقطة رقم (8) الواردة بالإنذار الملاحي مع المنطقة الاقتصادية الخالصة المصرية، مؤكدًا أن ذلك الإجراء لا يتفق مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار ويخالف أحكام القانون الدولي، بل يشكل انتهاكًا واعتداءً على سيادة مصر وحقوقها في منطقتها الاقتصادية بالبحر المتوسط، ومشددًا على أن مصر لا تعترف بأي نتائج أو آثار قد تترتب على العمل بمنطقة التداخل. ونوه المتحدث باسم الخارجية إلى أن جمهورية مصر العربية قد أودعت إعلانًا لدى الأمم المتحدة بشأن ممارسة مصر لحقوقها في المياه الاقتصادية الخالصة وفق المادة 310 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في 11 يوليو 1983.”[i]
ويكشف هذا التصريح ثلاثة أمور تجري بالتوازي وبالتزامن:
الأمر الأول، يتعلق بماهية النقطة رقم 8 المشار إليها في التصريح، حيث أوضح وزير بترول مصري سابق لموقع قناة “العربية” أن “مصر وقبرص وإسرائيل تشترك جميعها في حدود بحرية تم ترسيمها والتوقيع عليها، والتقت جميعها في النقطة 8، وهي آخر نقطة مشتركة بين البلدان الثلاثة”، مضيفًا أن هذه النقطة تعتبر عند مصر رقم 8 وفق الترسيم، وعند قبرص رقم 12، وعند إسرائيل رقم 5”[2] وتوضح الخرائط الثلاث التالية موقع هذه المربعات.



وإذا صحت المعلومات بأن تركيا كادت تقوم بالمسح في مربع رقم 8 المصري، فهذا يعتبر اعتداء صارخًا من جانب تركيا، يرفع حالة التوتر في شرق المتوسط، حتى لو تراجعت تركيا بعد ذلك ولم تنفذ عملية المسح أو أجّلتها.
الأمر الثاني، أنه منذ يونيو 2020 تقترب تركيا بخطوات تصاعدية من المناطق الاقتصادية المصرية، واليونانية، وترسل إخطارات وإنذارات عبر نافتكس، وهي أحد مكونات خدمة تحذير الملاحة العالمية للمنظمة البحرية الدولية. مفاد تلك الإخطارات والإنذارات أنها تقوم، أو ستقوم، بعمل عملية مسح زلزالي للكشف عن حقول للطاقة، سواء من البترول أو الغاز الطبيعي. وفي النصف الثاني من يوليو 2020 كاد الإخطار الذي أرسلته تركيا لنافتكس أن يشعل الموقف بينها وبين اليونان، حيث ارتفع التوتر بشدة بعد إعلان تركيا عزمها التنقيب في منطقة تعتبرها اليونان مياهها الاقتصادية. ولم تهدأ حدة التوتر إلا بعد تدخل ألمانيا عبر محادثة هاتفية بين المستشارة الألمانية والرئيس التركي.
بالتزامن مع هذا التصعيد يأتي إعلان تركيا عزمها تنفيذ مسح زلزالي في مربع رقم 2 ومربع رقم 3 في مياه قبرص الاقتصادية، ما دفع نيقوسيا لطلب المساعدة من موسكو من أجل الحيلولة دون تنفيذ هذه الأعمال، وهو ما يجعلنا نشير إلى أن تركيا تقوم بإطلاق “بالونات” اختبار لكل من قبرص واليونان ومصر بغرض التعرف على ردة الفعل الأولى لهذه الدول حال تنفيذ تركيا فعلًا عملية مسح زلزالي. الملاحظة الجديرة بالانتباه أن تركيا لم تقم بإطلاق أي بالونات اختبار تمسّ مياه إسرائيل الاقتصادية.
الأمر الثالث، على المدى القصير قد يكون الاقتراب التركي من مصالح مصر الاقتصادية شرق المتوسط لتوهم مصر بفتح جبهة جديدة بالتزامن مع جبهة ليبيا بغرض تشتيت جهود مصر الأمنية. وعلى المدى المتوسط قد يكون المراد استمرار تركيا في اعتماد سياسة الضغط والتضييق على دول شرق المتوسط (اليونان، وقبرص، ومصر) بغرض فرض نفسها على مشاريع نقل الطاقة من المنطقة إلى الأسواق الأوروبية بعد أن تم تهميش دور تركيا كناقل من شرق المتوسط. وعلى المدى البعيد قد يكون هدف تركيا إثبات قدر من الهيمنة على شرق المتوسط، بغرض إقناع الولايات المتحدة بأن مشروع خط أنابيب شرق المتوسط، إسرائيل-قبرص-اليونان-إيطاليا، لن يمر بدون التفاهم مع أنقرة، حتى بعد إقرار الكونجرس الأمريكي لقانون 3+1 الذي يساند إنشاء الخط، ويدفع لتذليل العقبات أمامه.
الخلاصة، ستستمر تركيا في محاولات الضغط من أجل الوصول إلى أي مكسب لها شرق المتوسط. فما خسرته يفوق تحملها. فمن ناحية، كادت أن تكون الناقل المهيمن على خطوط أنابيب الغاز من شرق المتوسط، لكن هذا الحلم تبخر على إثر تأخر علاقتها بإسرائيل، وانتفاء مصالحها المشتركة مع قبرص اليونانية. من ناحية أخرى، لم يسعفها تعيين المناطق الاقتصادية في شرق المتوسط في الحصول على أي حقول للغاز. ومن ثم، تشعر تركيا بأن تعيين الحدود الحالي خانق لها، ويضيّق على مصالحها، ومن ثم فإنها تستمر في افتعال المشكلات والتوترات.
وأخيرًا، يمكن القول إن تركيا تقطع كل الجسور بينها وبين دول الإقليم، وأيضًا الكثير من الدول الكبرى، وأصبحت تعتمد على حكومات محلية غير معترف بها أو دول معزولة من أجل الترويج لسياستها. وهذا كله لا يحقق أي مصالح على المدى البعيد. بل على النقيض قد يزيد من حالة العزلة التركية في الإقليم. التفسير الوحيد المتبقي أن الرئيس التركي يهرب من تحديات ومشاكل الداخل المتفاقمة، لا سيما في المجال الاقتصادي، وارتفاع الديون ونزيف العملة، عبر افتعال المشاكل الخارجية، بعد أن قطع أوصال التعاون والمنافع المشتركة مع أغلب دول الإقليم. لذلك، كلما استمرت مصر في المواجهة السياسية الدبلوماسية، تراجعت كفة تركيا ورجحت كفة مصر، فالوقت ليس في صالح الحكومة التركية. الأمر الوحيد الذي يغير هذه المعادلة هو التحول إلى المواجهة بلغة السلاح.
المصادر:
[1] بيان صحفي. صفحة وزارة الخارجية المصرية، الفيسبوك. نشر في 1-8-2020. . اطلاع في 5-8-2020.
[2] أشرف عبد الحميد. “سر إنذار تركيا لمصر بالمسح في المتوسط. وزير يكشف”، موقع قناة العربية. نشر في 2-8-2020. . إطلاع في 5-8-2020.
[3] Nefeli Tzanetakou, “Energy – Decisiveness is doubted in the East Med”, Independent Balkans News Agency. Published 27-3-2018. Accessed 5-8-2020.
[4] Geopolitics of Energy a la mediterraneenne: key Issues, Latest Developments and Future Prospects for the Eastern Mediterranean Gas. European Centre for Energy and Geopolitical Analysis (ECEGA). Published 27-4-2017. Accessed 5-8-2020.
[5] Steve Marshall, “Egypt awards offshore blocks.” Upstream. Published 16-4-2013. Accessed 5-8-2020.