يتخذ شكل الانتشار العسكري الأوروبي في شرق المتوسط تدريجيًّا نمط “الحصار” المضاد للعسكرة التركية على خطَّيْ تماس شرق المتوسط والساحل الإفريقي بدعوى حق التنقيب عن الغاز في المنطقة وتأمين المصالح المشتركة مع حكومة غرب ليبيا، وهي المزاعم التي تعترض عليها القوى الأوروبية الرئيسية باعتبارها سلوكيات غير مشروعة ومعادية لسياسات الناتو والاتحاد الأوروبي، في مؤشر يعكس اتجاهًا أوروبيًّا مختلفًا عما جرى في أعقاب غزو أنقرة لقبرص عام 1974 والذي يُلقي بظلاله على ما يجري اليوم في شرق المتوسط. إضافة إلى الدرس المستفاد من فشل تجربة العملية “صوفيا” للحد من الهجرة غير الشرعية وإمدادات الأسلحة إلى ليبيا، وربما إلى حد محاولة تقليل آثار الفوضى التي غرقت فيها ليبيا منذ عام 2011 بسبب تدخل الناتو لإسقاط النظام الليبي السابق.
العسكرة المضادة
الدائرة الأولى، هي دائرة اليونان؛ فعلى الرغم من دعوة الممثل الأوروبي “جوزيف بوريل”، يوم الأربعاء 12 أغسطس 2020، لعقد اجتماع بناء على دعوة يونانية لمناقشة الوضع في شرق المتوسط في ظل الاستفزازت التركية المتوالية والتي كان أحدث حلقاتها توجه سفنية “عروج ريس” للمسح الزلزالي بمرافقة سفن حربية إلى شواطئ جزيرة كاستيلوريزو اليونانية؛ إلا أن فرنسا اتخذت خطوة استباقية لأي حوار مع تركيا بانتشار عسكري واسع تضمن نشر طائرتي “رفال” والفرقاطة “لافايت”، إضافة إلى إبقاء حاملة المروحيات “تونير” التي اتجهت إلى مياه شرق المتوسط في إطار المساعدات الفرنسية للبنان في أعقاب تفجير مرفأ لبنان. وجرى الإعلان عن الانتشار بإطلاق تدريبات عسكرية فرنسية-يونانية مشتركة (الخميس 13 أغسطس).
وسبق الانتشار الفرنسي إجراء مناورات عسكرية يونانية–أمريكية، انضمت لها فرنسا وإيطاليا، ردًّا على خطوة تركية مشابهة لإعلان التنقيب عن الغاز الشهر الماضي في المنطقة نفسها، وتدخلت ألمانيا لوقف تصعيد الموقف، وهي الخطوة نفسها التي تكررها أنقرة بالإعلان عن اللجوء لألمانيا. وبحسب الإعلان الفرنسي الصادر بالتزامن عن الإليزيه بخصوص دوافع الانتشار الفرنسي بهدف دعم اليونان في مواجهة التحركات الأحادية التركية في شرق المتوسط، فهي عملية مؤقتة تهدف إلى تقدير الأوضاع في شرق المتوسط، بالتعاون مع الشركاء الأوروبيين، تتضمن رسالة مهمة لتركيا لأنها ليست دعوة للتصعيد وإنما “للتعقل”. وبالتالي، فإن المهمة الأوروبية هي التصدي لسياسة الجنوح التركي في المنطقة.
الدائرة الثانية، هي دائرة إيريني، التي تشارك فيها 20 دولة أوروبية، نحو ربع هذه القوة (فرنسا– ألمانيا– اليونان– إيطاليا- إسبانيا) هي الأكثر نشاطًا بدرجة أكبر في التصدي لاستمرار التدفق العسكري التركي إلى ليبيا بأشكاله المختلفة (أسلحة – مرتزقة)، وأسهمت نسبيًّا حتى الآن في الحد من إمدادات السلاح والمرتزقة في الشهر الأخير مقارنة بالأشهر الستة السابقة (التي عززت فيها تركيا تلك الإمدادات عقب مؤتمر برلين -يناير 2020- مباشرة). هذا الاتجاه أيضًا يعكس أكثر من مؤشر، منها -على سبيل المثال- لا الحصر فكرة التكتل الأوروبي في مواجهة تركيا باستخدام نفس الأداة (العسكرة المضادة). من المنظور الاستراتيجي هناك أكثر من دافع، فإذا كانت تركيا تزعم أن لها مصالح في تلك المناطق وتتحرك للدفاع عنها فهي لا تقل عن المصالح الأوروبية التي تفرض على القوى الأوروبية التدخل للدفاع عنها في المقابل، بل إن الدور التركي يشكل تهديدًا لأوروبا في إطار الخبرة الأوروبية من الدرس المستفاد من التجربة السورية.
كما يبدو أن فرنسا لم تطوِ صفحة الحادث الاعتراضي لقطعتها البحرية التي كانت في مهمة تابعة للناتو في المتوسط قبل شهرين من جانب سفينة حربية تركية. لكن الأهم من تلك الخطوة هو إقناع فرنسا لألمانيا بالانخراط عسكريًّا ضمن الاستراتيجية ذاتها، وهو ما نجحت فيه حيث أوفدت ألمانيا الفرقاطة “هامبورج” وهي الفرقاطة الرابعة والأحدث التي تنضم للعملية إيريني، بعد اليونانية “سبيتسي”، والفرنسية “جان بار”، والإيطالية “سان جورجو”. وبالتالي تطوق هذه البحريات تركيا في شرق المتوسط بشكل واضح.
تراجع إجباري
في المقابل، فإن رد الفعل التركي تجاه عملية العسكرة المضادة يعكس تراجعًا في اللهجة التصعيدية تجاه القوى الأوروبية، فالرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” صرح بأن “الحل الوحيد في البحر المتوسط هو الحوار والمفاوضات”، وأن “تركيا لا تلهث وراء مغامرة”، على حد قوله. وبالتالي، هناك مردود لاتجاه الردع الأوروبي في إطار تنامي كتلة المعارضة الأوروبية للسياسة التركية التي لم يعد لها حليف. لكن مراجعة المواقف التركية في مواقف مشابهة تدل على أن سلوك “أردوغان” هو اللجوء للمناورة بشكل متكرر بين التصعيد والتراجع، والانتقال من مسار لمسار، بحيث يفتح زاوية جديدة للتصعيد ثم يتراجع. ففي ليبيا بعد رفع القاهرة درجة الاستعداد والتأهب العسكري للدفاع عن الخط الأحمر الذي أعلنته في ليبيا، تراجع “أردوغان” خطوة إلى الوراء دون أن يتوقف بشكل تام عن سياساته العدائية في ليبيا. لكن مع ظهور تكتل مضاد اضطر للتراجع الإجباري، في ضوء تقارب التوجهات المصرية مع الأوروبية والأمريكية لوقف تركيا خلف الخطوط الحمراء.
مؤشر أمريكي
محصّلة هذه التفاعلات ربما تشير إلى اتجاه استراتيجي جديد من منظور الحسابات الأمريكية للإدارة الحالية، فعلى الأرجح تحاول التحركات الأوروبية ملء الفراغ في هذه المنطقة، لا سيما الأمريكي. فعلى الرغم من حضور القوة الأمريكية في المعادلة، لكنها تظل محدودة في ضوء الحسابات الأمريكية، ومنها التدخل في حالات التمدد الروسي على خطوط التماس في شرق المتوسط والساحل الإفريقي. وتشير واشنطن بشكل متكرر في هذا الصدد مؤخرًا إلى ليبيا. والأمر الآخر هو الحديث عن تولي أوروبا دور القيادة في المرحلة الحالية للتعامل مع التحديات التي تواجهها.
ليبيا والدرس اليوناني في مواجهة تركيا
ما قد يصعب قوله في هذا الصدد هو أن أحد الدروس الاستراتيجية التي يجب الاستفادة منها هو الدرس اليوناني في الحالة الليبية، فلا يمكن أن تدافع القوى الأوروبية نيابة عن المصالح العربية في ليبيا، على النحو الذي تدافع به تلك القوى ذاتها عن اليونان، وحتى مصالحها في ليبيا، ففي المقابل فإن قوى الجوار العربي الليبي تتعامل مع أزمة ليبيا بمقاربات مختلفة، أبرزها ربما المقاربة التنافسية، التي يصعب معها بناء “حلف مصالح مشتركة” في مواجهة الأطماع التركية الواضحة في ليبيا. فوفقًا للتجربة الأوروبية الحالية قيد التشكل هناك على الأقل معادلتان للاشتباك (سياسية، وأمنية) تعملان على التوازي دون مفاضلة لإحداهما على الأخرى.
في الأخير، الخطاب السياسي التركي كاشف عن أن أنقرة لم تتخلَّ عن عُقَدها التاريخية، أو ما أطلقت عليه صحيفة “واشنطن بوست” عقدة “متلازمة سيفر” (1920) التي مثّلت الحلقة الأخيرة في عملية تفكك تركيا العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وصيغة الخطاب الحالي التي تأتي تحت عنوان “الغطرسة القومية”، لا سيما ما يسمى بمشروع “الوطن الأزرق”. وبالتالي، لم يعد سلوك “المناورة” التركية “مجرد تكتيك تتبعه سلطة حزب العدالة والتنمية التركي، بل استراتيجية تنتهجها على الدوام. ومن ثم، لا يمكن الثقة في أن يحقق مسار “الردع الدبلوماسي” نتائج، وإنما “الردع الخشن” على طول المسار هو الذي يمكنه الحد من المطامع التركية التي تشكل طابعًا أساسيًّا في السلوك التركي لم تتخلَّ عنه أنقرة تاريخيًّا وتحاول إعادة إنتاجه في المرحلة الحالية.