لم يكن الاتفاق على إقامة العلاقات الطبيعية بين دولتي الإمارات العربية وإسرائيل تطورا مفاجئا، وإنما كان تطورا ينتظر الحدوث، بعد أن تم التفكير فيه والترتيب له منذ فترة. الفلسطينيون غاضبون، ومثلهم الكثيرين من العرب، فيما لدى كثيرين آخرين مشاعر مختلطة تجاه هذا التطور الجديد. اتفاق الإمارات وإسرائيل يعكس حجم التغير الذي لحق بأوضاع المنطقة، فلم تعد علاقات العرب مع إسرائيل تقيم بميزان الهوية والانتماء، وإنما بميزان الأمن وتوازن القوى والمصالح الاستراتيجية. وفقا لميزان الهوية العربية والانتماء القومي فإن إسرائيل كيان غريب منبوذ؛ فيما ميزان الأمن وتوازن القوى والمصالح الاستراتيجية يقول بأن إسرائيل لاعب من ضمن لاعبين كثيرين، يتحالفون وينقسمون، يتصالحون ويتخاصمون، طبقا لقانون المصلحة، وحسابات العقل البارد البراجماتية.
الفلسطينيون غاضبون من الإمارات، هذا أمر مفهوم ومبرر تماما، وإن كان من غير المؤكد ما إذا كان غضب الفلسطينيين هذه المرة يخدم قضيتهم، أم أنه مماثل للمرات الكثيرة السابقة التي لم يؤد فيها الغضب لخدمة أي قضية. لقد وصلت القضية الفلسطينية فعلا إلى منعطف حرج، فقبضة الاحتلال المتواصل منذ أكثر من خمسين عاما تتعزز؛ والمجتمع الدولي يبدو فاقدا للاهتمام بمصير الفلسطينيين، والدول والشعوب العربية مشغولة بمواجهة تهديدات أمنية واحتياجات اقتصادية حالة وعاجلة، فيما إسرائيل تستغل كل هذا للتهيؤ لابتلاع المزيد من الأرض الفلسطينية.
غير أن الإمارات لم يكن لها بد في وصول القضية الفلسطينية إلى هذا الموقف الصعب. لم تكن دولة الإمارات قد ولدت بعد عندما تم فرض قرار التقسيم، وعندما تدخلت جيوش سبع دول عربية لإنقاذ فلسطين، ففازت إسرائيل بأرض أكثر من تلك التي خصصها لها القرار الأممي. لم تكن دولة الإمارات قد ولدت بعد عندما قامت حرب 1967، التي استولت فيها إسرائيل على باقي فلسطين. لم يتورط جيش الإمارات في حرب على المنظمات الفلسطينية، ولا يوجد في تاريخ العلاقة بين الإمارات والفلسطينيين يرموك، أو صبرا وشاتيلا، أو تل زعتر. لم تقدم الإمارات الدعم لأي فصيل فلسطيني بخلاف منظمة التحرير وقيادتها الشرعية، ولم تتورط في ممارسات من شأنها تمزيق الصف الفلسطيني. على العكس من ذلك، فقد وقفت دولة الإمارات منذ تأسيسها في عام 1971 إلى جانب الفلسطينيين، وإلى جانب الدول العربية التي دخلت في حروب مع إسرائيل، فقدمت المساعدات المالية، بالإضافة إلى مشاركتها في حظر النفط العربي إبان حرب أكتوبر عام 1973، عندما قال الشيخ زايد قولته الشهيرة أن النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي.
تمسكت الإمارات طويلا بربط التقدم في العلاقات مع إسرائيل بالتقدم نحو السلام مع الفلسطينيين، والتزمت بخطة السلام العربية التي طرحت التطبيع الكامل مقابل السلام الكامل. غير أن الانتظار قد طال، والسلام لا يأتي، فهناك الكثيرين في إسرائيل وإيران وحزب الله وحماس لا يريدون للصراع أن ينتهي؛ حتى باتت قضايا الحرب والسلام في المنطقة مرهونة لإرادة أطراف مغامرة، مستعدة لإشعال المنطقة كلها مقابل تحقيق مصالحها وأوهامها الإيديولوجية، وأصبح من الضروري كسر الحلقة المفرغة، وتحرير القرارات المصيرية من الارتهان لإرادات المغامرين.
يتضمن الاتفاق بين الإمارات وإسرائيل توافقا على إقامة علاقات طبيعية، ونحن المصريين، أكثر من أي شعب عربي آخر، نعرف المآل التاريخي لاتفاقات التطبيع مع إسرائيل، فبعد أربعين عاما من العلاقات الدبلوماسية مازال من الصعب وصف العلاقات بين مصر وإسرائيل بالطبيعية، والسبب في ذلك هو القضية الفلسطينية، فالمؤكد هو أنه لن تقوم علاقات طبيعية بين دولة عربية وإسرائيل مادام الفلسطينيون محرومون من حقوقهم الوطنية المشروعة.
المصريون، مثلهم مثل الشعوب العربية الأخرى، أذكياء ويعرفون مصلحتهم. عندما سألنا المصريين في دراسات استطلاعية عدة عما إذا كانوا يفضلون تطوير العلاقات مع إسرائيل أم تجميدها، اختار أغلبيتهم إبقائها على ما هي عليه، أي أنهم اختاروا الإبقاء على السلام البارد القائم بين البلدين. وعندما سألناهم ما إذا كان السلام مع إسرائيل مفيد لمصر، فإن الأغلبية الكاسحة أجابت بنعم، لأنهم ببساطة يعرفون أن السلام أفضل من الحرب، وأن الأمن له الأولوية على أي شيء آخر.
يعرف المصريون أن للتطبيع بين العرب وإسرائيل حدودا لا يمكن تجاوزها، ويعرفون أيضا أن الخصومة بين شعوب ودول العرب لها نهاية، وأن الغضب الفلسطيني سيتراجع تدريجيا، ليفسح المجال لحسابات العقل والمصلحة. هذا هو ما حدث مع مصر، ولا أظن أن الأمر سيختلف عن ذلك في العلاقة الناشئة بين الإمارات وإسرائيل؛ فالأمن سيظل هو المجال المرشح للتعاون بين البلدين، فيما ستفرض مشاعر الشعوب حدودا صارمة على التطبيع فيما وراء هذا المجال.
لم يختر الفلسطينيون جيرانهم ولا عدوهم؛ فالشعوب لا تختار الجيران والجغرافيا. لقد كان حظ الفلسطينيين عثرا بشكل ليس له مثيل وغير قابل للتكرار، عندما وضعتهم الجغرافيا والتاريخ في مواجهة غير عادلة مع الحركة الصهيونية. بالمثل فإن الإمارات لم تختر جيرانها وجغرافيتها، وكان عليها الإبحار في مياه الخليج الوعرة، التي كانت مسرحا لثورة عقائدية طائفية كاسحة، وثلاث حروب كبرى خلال الأربعين عاما الأخيرة، بما جعل الخليج الأعلى في معدل الحروب والاضطراب السياسي بين كل أقاليم العالم. هل يمكن لأحد أن ينسى أن إحدى دول الخليج – الكويت – قد تم احتلالها، وإلحاقها بدولة العراق الكبيرة المجاورة، وأن الأمر احتاج لتحالف دولي واسع وحرب كبرى لإنهاء الاحتلال العراقي للكويت. فالخليج منطقة خطرة، وتهديدات الأمن فيه كثيرة ومراوغة، وليس لأحد أن يشعر بالاطمئنان لا في الخليج، ولا في كل الشرق الأوسط.
فلسطين هي الجرح والتراجيديا والهم الأكبر في التاريخ والواقع العربي الحديث؛ والإمارات هي قصة النجاح العربية الأكبر في الحقبة نفسها. وبقدر ما تستحق فلسطين المساندة، فإن الإمارات تستحق الاعتزاز. الإمارات لديها النفط، لكن النفط موجود في بلاد كثيرة أخرى عجزت عن تحقيق نفس المستوى من التقدم الاجتماعي والاقتصادي الذي حققته الإمارات، حتى أوشكت على الاستغناء عن النفط. فلنواصل التمسك بفلسطين وحقوق أهلها، فيما نواصل الاعتزاز بالإمارات وإنجازاتها.