بناء الدولة واستردادها من خاطفيها معركتان كبيرتان في مسيرة الأمم التي تواجه خطر التفكك الداخلي. عربياً هناك أكثر من حالة تواجه هذا الخطر مع اختلاف في الدرجة. وجود المؤسسات، سواء التنفيذية والتشريعية والقضائية، ودستور يحدد صلاحيات كل منها لا يعنى أن هناك دولة، فكثير من الحالات العربية التي تمر بهذه المرحلة الحرجة الأقرب إلى التفكك لديها هذه المنظومة، ولكنها مصحوبة بترهل وفساد وخلل إدارى رهيب، وجماعات نافذة في مفاصل المؤسسات، ولاؤها الرئيسي لجهة خارجية وليس للوطن، وتزداد حدة المشكلة حين تملك تلك الجماعات أسلحة ثقيلة وأفراداً مدربين على القتال وإرهاب المواطنين والمؤسسات وانتهاك الحقوق وفرض الإتاوات والاستيلاء على أملاك الدولة، وقتل الناشطين الذين يعبّرون عن رفضهم لتلك الممارسات غير القانونية.
قضية استرداد الدولة الفاعلة في العراق واحدة من أبرز القضايا الشائكة عربياً. والحديث عنها ليس وليد اليوم، بل يرجع إلى اليوم الذي احتل فيه الأمريكيون والبريطانيون العراق وسمحوا بتفكيك مؤسساته الأمنية والدفاعية والمدنية وفق فرضية إعادة بناء العراق من الصفر. كان التصور أن الاحتلال الأمريكي الذي نجح في إعادة بناء اليابان وألمانيا بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية، وخضوعهما التام للنفوذ والسطوة الأمريكية، قادر على استنساخ هاتين التجربتين في العراق، وبحيث تنشأ دولة متحررة من قيود الجغرافيا واللغة والتاريخ والقيم والدين لتصبح رصيداً استراتيجياً للهيمنة الأمريكية في المنطقة، وانطلاقاً منها يُعاد تشكيل المنطقة ككل.
هذا التصور فشل منذ اللحظة التي أعلن فيها بول بريمر، الحاكم الأمريكي العسكري للعراق، فتح حدوده بدون أية إجراءات تنظيمية معتادة، وإلغاء وجود الجيش والشرطة وعدد من الوزارات أبرزها الإعلام والتعليم، مع السيطرة الكاملة على وزارة النفط العراقية، تطبيقاً لتصور ضمني أن هذه السيطرة تعنى التحكم الكامل في موارد الدولة التي ينشد إعادة بنائها من الصفر. هذه الوصفة الأمريكية حملت في طياتها الخراب والدمار للعراق ولشعبه، وفتحت أبواب العراق مشرعة أمام النفوذ الإيراني المتطلع بدوره للهيمنة على العراق وجذبه من المظلة الأمريكية إلى طرف مناهض للولايات المتحدة وليس حليفاً لها، وبما يصب في النهاية لصالح المشروع الإيراني المتصارع مع واشنطن. والمفارقة الكبرى أن يحدث امتداد إيراني في ظل وجود عسكري أمريكي كبير على الأراضي العراقية.
ومنذ الاحتلال وحتى الآن يدفع العراق ثمن السياسة الأمريكية الخاطئة، ويدفع ثمناً آخر نظير الولاء العقيدي لبعض شعبه لإيران على حساب الولاء للوطن. والقضية التي يرفعها الموالون لإيران بضرورة انسحاب القوات الأمريكية التي لا تزيد على 4 آلاف جندى وعدد آخر من قوات التحالف الدولي الذي تم تشكيله لمحاربة «داعش» العام 2014، تحت شعار استرداد سيادة العراق، هى من نوع القضايا التي ظاهرها حق وباطنها الباطل، وهدف هؤلاء هو أن يتمتع النفوذ الإيراني بأكبر مساحة ممكنة بدون أى منغصات. هؤلاء أنفسهم هم الذين يقتلون النشطاء في بغداد والبصرة والموصل المطالبين بمواجهة النفوذ الإيراني، ممثلاً في منظمات الحشد الشعبي التي تتصرف بلا ضابط أو رابط رغم كونها شكلاً تحت قيادة القائد الأعلى للقوات المسلحة العراقية. آخر قتل النشطاء حدث أثناء زيارة الكاظمي لواشنطن بهدف إظهاره مسئولاً ضعيفاً لا يقوى على مواجهتهم.
الموالون لإيران هم الذين أشاعوا الفساد والخراب في المناطق التي تم تحريرها من «داعش»، ويقفون أمام عودة الأهالي أصحاب الأرض إلى بيوتهم وأملاكهم التي تم الاستيلاء عليها من منتسبي الحشد الشعبي في المناطق المحررة من داعش، وهم أنفسهم الذين يعطلون أي خطط تنموية تستهدف بناء محطات كهرباء عراقية بهدف استمرار العراق تحت رحمة الإمدادات الإيرانية من الكهرباء، وهم أنفسهم الذين يمتلكون الأسلحة الإيرانية والعربات المصفحة التي يجوبون بها العاصمة بغداد لترهيب المسئولين فيها إذا فكر أحدهم في اتخاذ قرار يرشّد ولو قليلاً تصرفاتهم المناهضة للدولة ومؤسساتها، وهم الذين يطلقون الصواريخ على القواعد العسكرية التي يوجد فيها جنود عراقيون وآخرون من القوات الدولية. تصرفات الحشد الشعبي وكل الأحزاب السياسية العراقية الموالية لإيران تخصم عملياً من سيادة الدولة العراقية، وتخصم من كل جهد وطني يسعى إلى استعادة عافية العراق كدولة محورية مستقلة في المشرق العربي، وهم الذين يعطلون جهود التقارب العراقي مع الدول العربية.
في ظل هذه البيئة المليئة بالألغام السياسية والأمنية والاقتصادية، والضغوط الإيرانية الفجة، يحاول مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقى، أن يستعيد مفهوم الدولة للعراق ولمؤسساته، بحيث تعمل المؤسسات بعيداً عن نفوذ إيران والموالين لها، وأن يتحرك العراق كدولة مستقلة مع أية دولة أخرى من أجل تحقيق المصالح الحيوية للشعب العراقى، وفق صيغ توازنية وليس استعلائية. هذه كانت رسالته حين التقى المسئولين الإيرانيين بعد تعيينه رئيساً للوزراء، وهى الرسالة نفسها التي أكد عليها أثناء لقاءاته مع المسئولين الأمريكيين في زيارته الأخيرة الأسبوع الماضى، والتى أسفرت عن عدة اتفاقيات في مجال الطاقة والبترول والتعليم، وخطة لانسحاب القوات الأمريكية والحليفة في غضون ثلاث سنوات، بدأت أولى خطواتها التنفيذية بانسحاب قوات أمريكية ودولية من قاعدة «التاجى» العسكرية شمالى العاصمة العراقية بغداد، قبل ثلاثة أيام.
الموالون لإيران لا يرتاحون لمثل هذه التطورات التي توسع اختيارات العراق كدولة تسعى لحل مشكلاتها من خلال التعاون مع دول العالم المختلفة على أسس من الندية والمساواة والمسئولية. في طهران عبّر صراحة أحد مستشارى المرشد الأعلى خامنئى عن عدم رضا بلاده عن نتائج زيارة الكاظمى لواشنطن، ووصفها بالخيانة. وهو وصف يوفر الحجة للموالين وعملاء إيران لمواجهة مفتوحة مع الكاظمى قد تتضمن خيارات قتل أقرب الناس إليه، وربما هو شخصياً. مصطفى الكاظمى بحاجة إلى حماية من شعبه وكل العراقيين الشرفاء. مواجهة عملاء إيران لها الأولوية، مع الإقرار بصعوبة تلك المعركة.
الكاظمى بحاجة أيضاً إلى دعم عربى واضح وصريح. استعادة العراق لسيادته وعافيته السياسية سوف تأخذ وقتاً، الكل يعلم ذلك. بدون غطاء عربى تقل فرص الانتصار في تلك المعركة. الموالون لإيران لن يستسلموا بسهولة، سوف يصعّدون من معارضتهم العنيفة لكل خطوة إصلاحية، يساعدهم في ذلك بيئة إقليمية لا مبالية بما يجرى في العراق، ولا يهتمون بالعدوان التركى المتكرر على قرى عراقية، ولا يقدّرون حجم التحدى والتهديد للعراق ولدول عربية أخرى جرّاء التحالف الواقعى الإيراني التركى. هذه اللامبالاة العربية لا بد لها من نهاية. انتصار العراق في معركة الدولة هو انتصار لكل عربي.
نقلا عن جريدة الوطن، الأربعاء 26 أغسطس 2020.