يمر المشرق العربى ومنطقة الخليج بتحولات كبرى لم يعرفها من قبل. التطورات المفاجئة التى تحدث بدون مقدمات معلنة تؤدى إلى تغيرات استراتيجية مهمة تتطلب أعلى مستوى من الحكمة حين التعامل مع تداعياتها. الترابط المصيرى بين الدول العربية يظل قائما وله تأثيراته على الشعوب والحكومات، رغم ميل البعض إلى الفكاك منه والاكتفاء بالقيام دور التابع لقوى أخرى متعللين بتاريخ سابق أو مصالح آنية. التدخلات الخارجية فى شئون أكثر من بلد عربى لم تعد تتستر كذبا بدواعى مساعدة الشعوب، بل تفصح وتعلن صراحة عن دوافع تخص مصالحها واطماعها الاستعمارية الخاصة. الاولويات العربية التى جمعت العرب طيلة عقود وسنوات، وتلخصت فى القضية الفلسطينية والامن القومى العربى، لم تعد تنال الاهتمام الكافى. كثيرون يرون تلك الأولويات باتت من الماضى وأنها سبب تعثر العرب. الكل مهموم بأوضاعه الذاتية الصعبة، محاولات البحث عن طوق نجاة يبدو بعيدا جدا بالنسبة للغالبية، ومحتملا لدى عدد أقل شرط القدرة على التعامل مع تلك التحولات العاصفة، وهى قدرة مرهونة بدورها بوجود دولة فاعلة ومجتمع متماسك، ومؤسسات تعبر عن طموحات المواطنين وتعمل من أجلها.
هذه البيئة الصاخبة تدفع إلى البحث عن حلول غير تقليدية، وتحث على الاستفادة من كل فرصة لإعادة الاعتبار للعمل الجماعى العربى، سواء على صعيد العموم أو على صعيد مجموعة من الدول ترى أنها قادرة على بناء نموذج تعاون عربى يحقق مصالح مشتركة ومتوازنة فى أكثر من مجال سياسى وامنى واقتصادى. اللقاء الثلاثى الذى جمع بين قادة مصر والاردن والعراق فى عمان الثلاثاء الماضى هو نوع تلك الحلول التى تراعى التوازن فى المصالح والحاجة إلى التعاون المشترك والوقوف الجماعى أمام التهديدات التى تحيط بالجميع. مع التذكير أن هذا التوجه الثلاثى ليس وليد ضغوط عابرة أو ردا على حدث هنا أو هناك، أو عملا بتوصية خارجية. إنه وليد إرادة ثلاثية تمتد أكثر من عام. فالقمة هى الثالثة، إذ سبقتها قمتان جمعت قادة الدول الثلاثة فى القاهرة مارس 2019، ثم فى نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة سبتمبر 2019.
كون قمة عمان الثالثة يعنى أن هناك إرادة ثلاثية بمتابعة السير فى طريق التعاون المشترك والاستفادة من الخبرات الذاتية لكل طرف، وتعزيز المصالح الاقتصادية وربط الاقتصادات الثلاثة بمشروعات ذات قيمة كبرى فى مجالات الطاقة والزراعة والصناعة، جنبا الى جنب مواجهة الجماعات الإرهابية التى تعيث فسادا هنا وهناك، إضافة إلى الوقوف الجماعى أمام التدخلات الصارخة لتركيا فى العراق ودول عربية أخرى كليبيا وسوريا. كون هذا التعاون ثلاثى حتى اللحظة لا يعنى أنه جامد لا يقبل مشاركة دول أخرى قد ترى من مصلحتها أن تنضم الى قوة عربية ثلاثية صاعدة. المرونة هنا موجودة من الدول الثلاثة، والاستعداد للتعاون مع أطراف عربية أخرى فى المشرق العربى قائم ومتفق عليه.
بعض المراقبين الخارجيين اهتموا بالعبارة التى قالها مصطفى الكاظمى رئيس وزراء العراق فى لقاء صحفى على خلفية زيارته الى الولايات المتحدة، حين ذكر أن العراق يعمل بالتعاون مع دول عربية لبناء المشرق العربى الجديد. وهى العبارة التى أسئ فهمها أو تم تعمد الإساءة اليها، معتبرين أن اقتصار التعاون على مصر والعراق والأردن فيه تجاهل لدول وأطراف عربية أخرى مهمة كسوريا وفلسطين ولبنان. ولم يكن هذا النقد إن افترضنا أنه كذلك بعيدا عن توجه الإساءة إلى تحركات عربية واعدة بغرض التشويه وتأكيد أن تحركات العرب أو بعضهم ليس لها قيمة. كما أن سوء الطوية برز فى تجاهل حقيقة أن قمة عمان هى الثالثة، وليست الاولى، وبذلك فهى ليست رد فعل عفوى أو استعراضى على تطورات مفاجئة خليجية او غير خليجية.
هذه القمة بعيدا عن سوء التأويل الذى نثره البعض، لها دوافعها الكبرى لدى البلدان الثلاثة، وهى دوافع تصب فى استعادة مفهوم التعاون العربى الجماعى كضرورة وكحتمية فى الآن نفسه. وليس بخاف على أحد أن العراق بحاجة الى مظلة عربية تساعده على الخروج من عنق الزجاجة الذى يمر به الآن، حيث الضغوط الإيرانية التى تهدف إلى جعل العراق ساحة لتصفية الحسابات مع الولايات المتحدة، ويقابلها ضغوط الولايات المتحدة لجعل العراق أداة لمعاقبة إيران وعزلها إقليميا، وهما أمران يضران بالعرا ق وسيادته ومصالحه، ويصبان أيضا فى زعزعة الاستقرار الداخلى وإضعاف مؤسسات الدولة. والأمر نفسه يمتد إلى التدخلات التركية فى شمال العراق التى تستهدف خلق أمر واقع يقتنص جزءا من الأرض العراقية تسيطر عليها أنقرة كما هو الحال فى شمال سوريا. وهى تداعيات لن تقف عند حدود العراق، بل ستصيب الأردن أيضا، والذى يواجه بدوره معضلات كبرى تتعلق بالقضية الفلسطينية وما تحمله صفقة القرن الأمريكية من نتائج كارثية على مبدأ حل الدولتين – الذى يراه الأردن عنصرا لا غنى عنه لوجوده ذاته – واحتمالات ضم الأراضى الفلسطينية للسيادة الاسرائيلية التى يُصر عليها رئيس الوزراء الاسرائيلى وما يعنيه ذلك من إنهاء آية آمال لحل الصراع العربى الاسرائيلى عبر التفاوض بدون افتئات على حق الشعب الفلسطينى فى دولة مستقلة قابلة للحياة، تؤدى فى النهاية الى إنهاء كل المشروعات الاسرائيلية التى ترى أن الأردن هو فلسطين.
شواغل الاردن والعراق هى نفسها الشواغل المصرية، ما يؤسس الى عمل جماعى صلب. الموقف المصرى واضح منذ العام 2003، فأى حماية للأمن العربى تكمن أساسا فى الحفاظ على الدولة الوطنية القادرة على حماية الأرض والعرض والموارد والقيم، والقادرة على منع التدخلات الخارجية، والراغبة فى التعاون مع الأشقاء العرب على اسس واضحة تحقق المصلحة للجميع. وكم من مرة نادت القيادة المصرية بتفعيل الشراكات العربية فى مجال الامن والدفاع ومواجهة الإرهاب، واقترحت تفعيل معاهدة الدفاع العربى المشترك وبناء قوة عربية لمواجهة الإرهاب فى أى بلد عربى يطلب الدعم العربى لحماية وجوده. وكم من مرة دعت مصر إلى التعاون الصلب ضد التدخلات التركية والإيرانية فى الشئون العربية. وهى أسس وتفاعلات من شأنها أن تدفع التعاون الثلاثى لكى يصبح نموذجا للتعاون العربى المطلوب بشدة فى تلك الأونة الصعبة.
نقلا عن جريدة الأهرام، 31 أغسطس 2020.