يرى بعض المحللين للتطورات الاقتصادية والسياسية التي يشهدها العالم منذ دخول الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” للبيت الأبيض في عام 2017، وسياسته المنضوية تحت عنوان “أمريكا أولًا”؛ انتهاءً لعصر العولمة الذي شهده العالم منذ أواخر عقد الثمانينيات من القرن الماضي. وقد اشتد تبني هذا الاستنتاج مع المواجهة الأمريكية الصينية، ونشوب الحرب التجارية، وتبادل فرض التعريفات الجمركية المرتفعة بين البلدين. ثم ارتقى هذا الاستنتاج إلى ما يشبه اليقين لدى البعض مع تفشي وباء كورونا في بداية هذا العام. إذ أشاروا إلى تبين خطورة تركز سلاسل الإمدادات في بلد مثل الصين بما يشكل ضررًا بالغًا بعملية النمو الاقتصادي في مختلف أرجاء العالم، وخاصة في العالم المتقدم، وتوالت الدعوات لعودة شركات البلدان المتقدمة من أماكن عملها الحالية لكي تنتج مرة أخرى في بلدانها الأم.
ومع أن هناك بعض الصحة في بعض ما يقوله هؤلاء المحللون؛ إلا أن الاستنتاج الذي توصلوا إليه من انتهاء عملية العولمة ربما يعاني في رأينا من تسرع وقصور واضح، وذلك للعديد من الأسباب، أبرزها أن أي عملية تاريخية لا تنتهي إلا مع استنفاد أغراضها بالنسبة لكافة الأطراف الفاعلة. إذ طالما أن هناك أطرافًا فاعلة لها مصلحة في استمرار هذه العملية، فمن المحتم أن تستمر حتى وإن تم إدخال بعض التعديلات على مساراتها الراهنة.
لا يمكن إنكار ما أصاب العملية الإنتاجية في كثير من بلدان العالم من بعض الأضرار نتيجة لتركز سلاسل الإمداد، وقد ظهر هذا أوضح ما يكون في الاعتماد على الخارج في توفير الأدوية ومواد ومستلزمات الحماية من الفيروس، ومع ذلك فلن يكون البديل هو الاستغناء كليًّا عن عمليات الإنتاج التي تتم في الخارج لسبب بسيط، هو أنها تتم بتكلفة أقل، ومن ثم توفر ربحية أعلى للمنتجين. وقد تتمثل الاستجابة لهذا الأمر في نقل بعض عمليات إنتاج الأدوية وبعض الأدوات والمستلزمات الطبية للدول المتقدمة، كنوع من تأمين الحد المناسب من المواد التي يتحتم توفرها في حالة تفشي الأوبئة أو غيرها من التطورات التي تتطلب ذلك.
ويمكن أيضًا الموافقة على أنه سيتم الاستمرار في نقل بعض عمليات الإنتاج خارج الصين، وهي على أية حال عمليات كانت تتم قبل تفجر الفيروس بوقت طويل نسبيًا. والنقطة المهمة التي يجدر الإشارة إليها هنا هي أن هذا الاتجاه يساعد -في الحقيقة- على انتشار وليس تقلص العولمة. ومن المرجح -إذن- الاستمرار في نقل الكثير من الأنشطة الكثيفة العمالة مثل إنتاج الملابس الجاهزة والأحذية من الصين إلى بعض البلدان المجاورة مثل فيتنام ولاوس وكمبوديا وبنجلاديش، وربما بعض الصناعات الإلكترونية إلى بلد مثل الهند التي تتمتع بتكلفة إنتاجية أقل وربحية أعلى. ومن المحتمل أن يشهد هذا الاتجاه توسعًا في فترة ما بعد انتهاء جائحة كورونا، وهو ما يعمل على تزايد عدد المستفيدين من عملية العولمة.
من المؤكد أيضًا استمرار الكثير من العمليات الإنتاجية في الصين لأنها ما زالت توفر أفضل الفرص للشركات العالمية الكبرى من حيث الإنتاجية والربحية، ويكفي هنا أن نشير إلى استطلاع الرأي الذي تم خلال شهر أبريل الماضي بين الشركات الأوروبية أعضاء الغرفة التجارية الأوروبية في الصين والذي أظهر أن أكثر من 90% من هؤلاء المنتجين لا يفكرون في نقل عملياتهم خارج الصين في الوقت الراهن. كما أشارت نتائج استطلاع مماثل بين الشركات الأمريكية العاملة في الصين إلى أن أكثر من 75% من هذه الشركات لا تفكر في نقل عملياتها.
الأمر الأكثر أهمية هو ما أشرنا له في مقدمة هذا المقال من أنه ما زالت هناك أطراف فاعلة رئيسية ترى مصلحتها في تدعيم عمليات الاستثمار والتجارة المفتوحة، وتعارض تبني مقترب القومية الاقتصادية الذي وجد رواجًا له مع تصاعد نفوذ بعض الجهات ذات الميول الشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة. وربما تمثل الصين والاتحاد الأوروبي أكثر الأطراف الفاعلة التي ترى أن مصالحها ما زالت تتطلب المزيد من الانفتاح سواء في التجارة أو الاستثمار.
وقد تطورت العلاقات بين الصين وأوروبا على مر الزمن، حتى بلغت قيمة الصادرات الصينية لأوروبا الموحدة في عام 2019 حوالي 420.7 مليار يورو، بينما بلغت واردات الصين منها نحو 225.2 مليار يورو، ووفقًا لهذه الأرقام تعد الصين أكبر مصدر للاتحاد الأوروبي في الوقت الذي يعد فيه السوق الصيني ثاني أهم سوق لأوروبا الموحدة بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وتعد أهم الصادرات الصينية للاتحاد الأوروبي هي السلع الصناعية والاستهلاكية، والمعدات والآلات، والملابس والأحذية، بينما تتكون أهم الصادرات الأوروبية للصين من الآلات والمعدات، والسيارات، والطائرات، والكيماويات.
ومع هذا فلا يعني الأمر توافقًا تامًّا بين الطرفين، بل هناك خلافات شديدة بينهما، لكن ما يجمعهما هو رؤية أن حل هذه الخلافات ممكن في إطار المفاوضات بين الجانبين وفي إطار التمسك بالأطر المتعددة الأطراف المتوفرة حاليًّا وتعديل هذه الأطر بما يسمح بتحقيق مصالح الجميع. حيث تسعى أوروبا التي تعارض منهج المواجهة الذي يتبعه الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” مع الصين فيما يتعلق بالتجارة والاستثمار، إلى إظهار أن سياساتها بمزيد من المشاركة مع الصين تؤتي أكلها. كما كان الطرفان قد اتفقا خلال العام الماضي على شجب سياسة “ترامب” المتضمنة في شعار “أمريكا أولًا” باعتبارها تشكل تحديًا للنظام متعدد الأطراف. وتقول للمفوضية الأوروبية إن الاتحاد الأوروبي ملتزم بعلاقات تجارية مفتوحة مع الصين. ولكنه يرغب في التأكد من أن الصين تقوم بممارسات تجارية عادلة، وفي ظل احترامها لحقوق الملكية الفكرية ووفائها بالتزاماتها كعضو في منظمة التجارة العالمية.
وكان الطرفان قد شرعا في عام 2013 في مفاوضات من أجل التوصل لاتفاقية للاستثمار، والهدف من هذه الاتفاقية هو توفير مدخل طويل الأجل لأسواقهما أمام المستثمرين من الطرفين، وتوفير الحماية لهؤلاء المستثمرين واستثماراتهم. وقد حددا نهاية عام 2020 للانتهاء من التوصل لهذا الاتفاق. ومع هذا فقد خفض الاتحاد الأوروبي مؤخرًا من احتمالات التوصل إلى اتفاق هذا العام لفتح السوق الصيني أكثر أمام المستثمرين الأجانب. والسبب هو أن الاتحاد ما زال يرى أن على بكين أن تقدم المزيد من التنازلات لكي تكون الساحة مهيأة أمام أنشطة الأعمال الأوروبية بشكل متكافئ.
وبينما نظرت أوروبا لاتفاق المرحلة 1 التجاري بين الصين والولايات المتحدة في شهر يناير الماضي على أنه ييسر عملية التبادل التجاري التي تأثرت بحرب التعريفات الجمركية؛ إلا أنه يُعد في رأيها قاصرًا في التعامل مع السياسات الصينية التي ترى كل من الولايات المتحدة وأوروبا أنها تُشوّه اقتصادات السوق. وتتضمن هذه السياسات تقديم دعم للصناعة، وتحكم الدولة في المؤسسات والنقل القسري للتكنولوجيا. ويرى الاتحاد الأوروبي أن هدف الاتفاق مع الصين هو التعامل مع هذه الموضوعات الخلافية، إلى جانب توسيع مدخل السوق الصيني أمام المستثمرين الأجانب في عدد من الصناعات الرئيسية التي تمتد من صناعة السيارات إلى التكنولوجيا الحيوية.
وفي الوقت الذي يتم فيه التفاوض يعتزم الاتحاد الأوروبي توسيع ترسانة أدواته الدفاعية لمواجهة توسع الصين التجاري والاستثماري. ويستخدم الاتحاد الأوروبي التعريفات إلى حدها الأقصى المسموح به ضمن الحدود المتعارف عليها في منظمة التجارة العالمية، وذلك لمواجهة الواردات التي يزعم أنها تباع بأسعار منخفضة غير عادلة، كما شدد الرقابة على الاستثمارات الأجنبية على أرضية الأمن القومي، وشدد الرقابة على عمليات الدمج والاستحواذ التي تتم من قبل شركات مدعومة من الخارج على أرضية قوانين مكافحة الاحتكار.
وكان الرئيس الصيني قد ناشد مؤخرًا المستثمرين الأجانب بالاستمرار في أعمالهم بالصين، مؤكدًا أن بلاده ستتبنى سياسة أكثر انفتاحًا تجاههم. وقد أشارت المفوضية الأوروبية بالفعل إلى تحقق تقدم ملحوظ في بعض قضايا المحادثات؛ إلا أنه ما زال يتعين على بكين بذل المزيد من الجهد في بعض الموضوعات الرئيسية. ومن المخطط أن يُعقد مؤتمر القمة الأوروبي الصيني السنوي في ألمانيا خلال شهر سبتمبر الجاري. وكان المؤتمر قد تم تأجيله لظروف وباء كورونا.
وفي النهاية، على الرغم من الأضرار المتعددة التي سببها فيروس كورونا للاقتصادات في مختلف أنحاء العالم؛ إلا أن تصور أن الجائحة ستقضي بالضربة القاضية على عملية العولمة ربما يكون تصورًا متسرعًا، وفي غير محله.