شهدت المؤسسة العسكرية الموريتانية تغيرًا مهمًّا داخل القيادة العليا. وتعود أهمية تلك التغييرات إلى كونها الأولى من نوعها التي تطال هرم المؤسسة العسكرية، منذ تولي الرئيس “محمد ولد الغزواني” السلطة في نهاية يونيو 2019. وبالرغم من أنها في ظاهرها أخذت بُعدًا تبادليًّا للأدوار، إلا أنها تحمل في طياتها دلالات وأهدافًا متشابكة. وتأتي هذه التعديلات في ضوء المرسوم الرئاسي الصادر في الثامن من يونيو الماضي (2020)، والمتضمن تعيين الفريق “محمد ولد بمب ولد مكت” قائدًا للأركان العامة للجيوش والذي كان يشغل سابقًا منصب المدير العام للأمن الوطني، وتولي الفريق “محمد الشيخ ولد محمد الأمين” قائدًا لأركان الحرس الوطني وكان يشغل سابقًا قائد الأركان العامة للجيوش، وتعيين الفريق “مسقار ولد سيدي” مديرًا عامًّا للأمن الوطني، وكان يتولى سابقًا منصب قائد أركان الحرس، وأخيرًا تعيين الفريق البحري “إسلكو ولد الشيخ الولي” قائدًا للأركان الخاصة للرئيس والذي كان يشغل منصب القائد المساعد لأركان الجيوش وقائدًا لأركان القوات البحرية.
دوافع وأهداف متعددة
تأتي التغيرات التي تشهدها المؤسسات الأمنية في موريتانيا، لتوضح رغبة النظام الحالي في تحقيق جملة من الأهداف، والتي يمكن توضيحها في الآتي:
1- إحكام السيطرة وإحداث قطيعة مع النظام السابق، وذلك عبر التخلص من نظام “ولد عبدالعزيز” بشكل جذري، وإبعاده عن المشهد السياسي برمته، وهو بمثابة أول الأهداف التي يسعى إليها النظام الحالي، وتطويق تحركات “ولد عبدالعزيز” الرامية إلى الهيمنة على حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، وذلك في ضوء الاجتماع الذي عقده “ولد عبدالعزيز” مع لجنة تسيير الحزب وتوجيه الحزب للاستمرار في السياسات التي قام بوضعها سابقًا. وقد جاء ذلك دون توجيه دعوة إلى الرئيس “ولد الغزواني”، وهو الأمر الذي لاقى رفضًا من الإدارة الحالية، مما دفعها إلى دحض فكرة أن “ولد عبدالعزيز” هو المرجعية الرئيسية للحزب، والعمل على اتخاذ خطوات على رأسها عقد سلسلة من الاجتماعات مع مختلف الأطياف السياسية بشقيها المعارض والموالي، وذلك عقب مرور قرابة ثلاثة أشهر من توليه السلطة، بهدف تكوين ظهير سياسي مغاير لما كان عليه الوضع إبان الرئيس “ولد عبدالعزيز”.
2- إقصاء للحرس القديم واستقدام أهل الثقة: اتصالًا بالنقطة السابقة، فإن التعديلات المختلفة التي أجراها “ولد الغزواني” تستهدف الإطاحة بكافة المسئولين في الدائرة الأولى والمقربين للرئيس السابق “ولد عبدالعزيز” وتسكين أصحاب الثقة بدلًا منهم. وقد برز ذلك بشكل كبير في اختيار “ولد مكت” رئيسًا للأركان، وهو يُعد أحد الرافضين للتعديلات الدستورية التي كان قد أطلقها الحزب الحاكم “الاتحاد من أجل الجمهورية” نهاية عام 2019، والتي تستهدف استمرار الرئيس السابق “محمد ولد عبدالعزيز” لمأمورية ثالثة، وقد تجلى أيضًا في إقالة قائد تجمع الأمن الرئاسي العقيد “محفوظ ولد محمد الحاج” وصدرت أوامر باعتقاله وتوقيفه، وإسناد مهمة قائد كتيبة الأمن الرئاسي للعقيد “أحمد ولد الميلح” قائد كتيبة الصاعقة “2”.
3- تعزيز بنية المؤسسة العسكرية: وذلك من خلال تفعيل أركان القوات الخاصة التي كانت معطلة في السابق رغم أنها موجودة في هيكلة الجيش منذ سنوات، علاوة على أن هناك توجهًا عامًّا من الرئيس الحالي لإعادة هيكلة كتيبة الأمن الرئاسي بعدما قام بتغيير قائدها، خاصة وأن تلك الكتيبة قد أسسها “ولد عبدالعزيز” واعتمد على اختيار الضباط الموالين له، وقد أُثير حولها لغط كثير في الآونة الأخيرة، واعتبرها الكثيرون “جيشًا داخل الجيش”، وكذا مطالبة المعارضة للرئيس السابق “ولد عبدالعزيز” بحلها ودمجها في الجيش كشريطة للانخراط في الحوار السياسي الذي دعا إليه “ولد عبدالعزيز” أثناء توليه السلطة، وهذا النهج الجديد لولد الغزواني يحمل في مجمله رسالة تبرهن على رغبته في خلق وضعية جديدة للمؤسسة العسكرية، بحيث تكون لها قيادة تقود وتخطط بعيدًا عن الولاءات المختلفة.
4- تطوير استراتيجية مواجهة الإرهاب، وهو ما برز في إسناد مهمة قيادة الأركان العامة للجيش إلى الفريق “محمد ولد مكت”، الذي يُعتبر واحدًا من أقدم الضباط وأكثرهم تجربة، وهو صاحب الرتبة الأعلى بين الضباط الموجودين في الخدمة العسكرية، وكان يشغل منصب المدير العام الوطني عام 2014، وكان من بين الضباط الذين شاركوا في آخر الانقلابات العسكرية في موريتانيا عام 2005 ضد “معاوية ولد سيد أحمد الطائع” والثاني ضد نظام الرئيس “سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله” عام 2008، وكان قد تولى مدير مكتب الاستخبارات الخارجية في الفترة من 2010 حتى 2014، وكان أحد المستشارين البارزين في مواجهة الإرهاب ضد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، إضافة إلى ذلك فقد كان لمناورات “فلينتلوك 2020” التي استضافتها موريتانيا في فبراير من العام الجاري بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية و34 دولة أخرى، دور كبير في الاختيارات التي تمت في القيادات الجديدة، وهو ما تجلى في إسناد مهمة قيادة المنطقة العسكرية الأولى في ولاية داخلت نواذيبو شمال موريتانيا إلى العقيد “إعل زايد فال الخير” الذي كان قد برز بقوة خلال المناورة العسكرية المُشار إليها، وهو الأمر الذي يدلل على رغبة النظام الحالي في إحداث ديناميكية في مواجهة الإرهاب خلال الفترة القادمة، خاصة مع تصاعد العمليات الإرهابية لتنظيمي “القاعدة” و”داعش” على الحدود مع مالي.
دلالات التوقيت
تأتي التغيرات التي أقدم عليها الرئيس الموريتاني داخل كافة القطاعات في ظل سياق سياسي يشوبه التنافر بين النظام القديم ممثلًا في الرئيس السابق “محمد ولد عبدالعزيز” وبين إدارة “ولد الغزواني”. وجاءت تلك التغيرات في أعقاب ظهور الرئيس السابق “محمد ولد عبدالعزيز” لإدارة المشهد السياسي مرة أخرى من خلال حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، والذي برز بشكل كبير في الاجتماع الذي عقده مع لجنة تسيير الحزب مطلع العام الجاري كما أشرنا إليه سابقًا، الأمر الذي دفع “ولد الغزواني” لإحداث تلك التغييرات التي لم تقتصر فقط على المؤسسة العسكرية، بل على صعيد الحياة السياسية بمجملها، وهو ما يحمل في طياته رسالة تدلل على قوة “ولد الغزواني” وإمساكه بزمام الأمور، خاصة في ظل تنامي صورة ذهنية لدى الرأي العام تنم عن ضعفه، علاوة على السابق فإن التغييرات جاءت تزامنًا مع مقتل مواطن موريتاني في مطاردة مع دورية من الجيش على الحدود، وذلك في نهاية مايو الماضي، وهو الأمر الذي أثار جدلًا واسعًا داخل المجتمع الموريتاني، قامت على إثره أحزاب المعارضة بالمطالبة بفتح تحقيق في تلك الحادثة، الأمر الذي دفع “ولد الغزواني” للإسراع بإزاحة قائد الأركان العامة للجيوش السابق.
فضلًا عن هذا فإن تلك التغييرات تتزامن مع جملة من التغيرات الأخرى التي يشهدها المجتمع الموريتاني، في حراك هو الأول من نوعه منذ وصول “ولد الغزواني” للحكم. ففي مطلع مايو الماضي شهدت الإدارة الإقليمية تغييرًا موسّعًا تضمن تغيير عدد خمسة عشر واليًا، فضلًا عن تعيين مفتش عام جديد للدولة، علاوة على تغييرات عديدة داخل قطاعات الصحافة والإعلام والتلفزيون طالت الكثيرين من قيادات تلك المؤسسات القومية، وتم على إثرها تعيين الصحفي “الحسين ولد مدو” رئيسًا للسلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية، وذلك في الرابع والعشرين من يونيو الماضي، وأخيرًا التغييرات التي شهدتها وزارتا العدل والخارجية، إضافة إلى ذلك فإن التغييرات الواسعة التي قام بها الرئيس “محمد ولد الغزواني” في قيادات المؤسسة العسكرية بمختلف تشكيلاتها، تأتي في ظل ارتفاع ملحوظ لأعداد المصابين بفيروس كورونا المستجد، والرغبة في مراجعة الخطط الأمنية لمواجهة ذلك الوباء.
واتصالًا بما سبق، فإن تلك التغيرات تأتي في ظل تطورات خارجية متعددة تشهدها البيئة الإقليمية المحيطة بالدولة، حيث تفاقمت العمليات الإرهابية بالقرب من حدود مالي مع موريتانيا والتي كان آخرها الاشتباكات بين العناصر الإرهابية لكتيبة ماسينا الموالية لجماعة “الإسلام والمسلمين” المرتبطة بتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي وبين مقاتلي تنظيم “داعش” الإرهابي في الصحراء الكبرى، في التاسع من أبريل الماضي، والتي لم تكن الأولى من نوعها بل شهدت المناطق الحدودية اشتباكات أخرى في شهر مارس الماضي، إضافة إلى تكرار عمليات تهريب المخدرات المتكررة عبر الحدود المالية الموريتانية، فقد أحبطت قوات الدرك “الأمن” في مدينة كيفه (شرق موريتانيا) عمليتي تهريب للمخدرات في الثامن عشر من مارس الماضي.
توازنات جديدة
شهدت الساحة السياسية الموريتانية متغيرات كثيرة، تُبرهن -في مجملها- على أن هناك نهجًا جديدًا للتعاطي مع القوى السياسية المختلفة، والعمل على خلق توازنات جديدة وانفتاح أوسع مما كان في عهد “ولد عبدالعزيز”، تجلى أبرزها في التقارب الملحوظ بين “ولد الغزواني” وأحزاب المعارضة، منها حزب “اتحاد قوى التقدم”، وهو ما برز في اللقاء الذي جمع بينهم في الرابع من أغسطس الجاري. هناك أيضًا تقارب ملحوظ بين الرئيس الغزواني وبين الأحزاب الإسلامية، وقد برز ذلك في اللقاء الذي جمع “ولد الغزواني” مع رئيس حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية “تواصل” ذي التوجهات الإسلامية في نوفمبر 2019، ولقاء آخر جمع بين “ولد الغزواني” و”محمد جميل منصور” الرئيس السابق لحزب تواصل في يونيو 2020، وفي ضوء تلك اللقاءات أعلن الحزب عن إطلاق مبادرة في الثاني والعشرين من يونيو الماضي، وذلك بغرض تعزيز قيام المعارضة بدورها، وتحقيق تنسيق وتكامل بين كافة الأحزاب المعارضة في موريتانيا.
في هذا السياق، تمكن حزب “تواصل” من تجميع عدد من الأحزاب في تلك المبادرة، وذلك على خلفية البيان الصادر عن الحزب ومجموعة أخرى من الأحزاب، تتمثل في: حزب الصواب، وحزب المستقبل، وحزب القوى الجمهورية للديمقراطية والوحدة، وتحالف التعايش المشترك، متضمنًا مناقشة الوضع السياسي الموريتاني في أعقاب عام من تولي الرئيس الحالي “محمد ولد الغزواني”.
إضافة إلى ما سبق فقد صدر مرسوم رئاسي في 24 يونيو الماضي يقضي بتعيين “الحسين ولد مدو” رئيسًا للسلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية، والذي كان يعمل في الآونة الأخيرة في مكتب قناة “الجزيرة” في نواكشوط ومسئولًا عن “الجزيرة مباشر”، إلى جانب ذلك فإن المتتبع لمسيرة “محفوظ ولد إبراهيم” -المُعين حديثًا مفتشًا عامًّا للدولة- يجد أن نشاطه فترة في صفوف حزب تكتل القوى الديمقراطية المعارض قبل أن يلتحق بحزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم عام 2018 يُعزز ذلك المسار، وهو الأمر الذي يختلف كثيرًا عن الرئيس السابق “محمد ولد عبدالعزيز” الذي شهدت فترته حالة من التباعد وتصدع العلاقة مع التيار الإسلامي، خاصة حزب تواصل ذي الأيديولوجيا الإسلامية، بل قام بالعديد من الإجراءات المختلفة التي تقوض نشاط تلك الأحزاب على أرض الواقع.
ولم تقتصر التغييرات على البعد العسكري فقط، بل طالت المؤسسات التنفيذية الأخرى خاصة المحافظين والولاة، حيث شهدت موريتانيا أول وأكبر حركة تغيير في الإدارة الإقليمية في تاريخ الدولة، حيث تم تغيير 11 محافظًا من أصل 15 محافظًا وذلك في نهاية أبريل الماضي، لتفتح المجال أمام دمج نخب جديدة في الحكم، وتُمثل أحدث خطوة لإبعاد رجال الرئيس السابق “ولد عبدالعزيز”، ورسم ملامح العهد الجديد، خاصة وأنه ولأول مرة منذ عام 2010 يتم الاجتماع بالمحافظين في خطوة لترسيخ مبدأ المؤسسية وتعزيز صلاحياتهم تحقيقًا لمطالب الرأي العام الداخلي.
وتشهد موريتانيا بعض التحركات من قبل الجمعيات الحقوقية الموريتانية، على رأسها (منظمة نجدة العبيد، هيئة الساحل، رابطة النساء معيلات الأسر، منظمة مشعل الحرية، حركة كافانا) التي تندد بتراجع الحريات العامة ودولة القانون، وذلك على خلفية إيقاف بعض المدونين الشباب لانتقادهم أداء الحكومة، وهو ما دفع “ولد الغزواني” للإسراع في التوسع العرضي للتفاعل مع كافة الحركات والأحزاب داخل المجتمع الموريتاني.
ختامًا، يمكن القول إن عملية التغيير التي شهدتها المؤسسة العسكرية الموريتانية يطغى عليها طابع تبادل المواقع مع سد المناصب الشاغرة أكثر من كونها إطاحات للقيادات العليا لتلك المؤسسة، وأن ما يحدث عبارة عن تبديل في مهام وأدوار القيادة العسكرية على خلفية توترات بين الرئيس السابق “ولد عبدالعزيز” والرئيس الحالي “ولد الغزواني”، الأمر الذي دفع الأخير إلى انتهاج سياسات أكثر انفتاحًا، والعمل على خلق توازنات متعددة مع كافة القوى السياسية والحزبية المؤيدة أو المعارضة على الساحة السياسية، علاوة على الاعتماد على سياسة الاستبعاد لكافة الموالين للرئيس السابق “محمد ولد عبدالعزيز” سواء داخل المؤسسة العسكرية أو في إطار الحياة السياسية بمجملها.