في ظل توجهات الإدارة الأمريكية الحالية لتبني سياسات تتسم بالحدة، مثل سياسة “الضغط القصوى” على إيران، لم يكن مفاجئًا أن تشهد السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصين تحولًا إلى المواجهة المباشرة، بدلًا من اتّباع النهج الدبلوماسي الذي ينطوي على المنافسة الممزوجة بالتعاون، والذي تبنّته الإدارات الأمريكية السابقة، ويتجلّى ذلك في الخطاب الرسمي للمسئولين الأمريكيين، فالمتتبِّع لتصريحات الرئيس “دونالد ترامب” تجاه الصين يجدها تتسم بالشدة وإلقاء الاتهامات، بداية من الحرب التجارية التي بدأت تتصاعد منذ عام 2018، مرورًا بجائحة كورونا، وتحميل الصين مسئولية نشر الفيروس في العالم، وإصرار “ترامب” على تسميته “الفيروس الصيني” رغم تحفظات الصين، وصولًا إلى اتّهام الصين بأنها دولة استبدادية، لا تراعي حقوق الإنسان، وتتبنى أساليب غير شرعية بهدف بسط نفوذها وهيمنتها على النظام الدولي.
فوز “ترامب” وتصعيد أمريكي محتمل
في السادس والعشرين من أغسطس الماضي أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية فرض عقوبات على 24 شركة صينية، تضمنت حظر حصولها على منتجات تكنولوجية أمريكية، وذلك بسبب قيامها بمساعدة الجيش الصيني في بناء جزر صناعية في بحر الصين الجنوبي، كما أعلنت عن نيتها فرض قيود على تأشيرات دخول مسئولين صينيين إلى أمريكا؛ بسبب دورهم في المشروعات الصينية الجارية في بحر الصين الجنوبي. وفي هذا الإطار، أكد وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” أنه يجب عدم السماح للصين باستخدام شركاتها “كأسلحة لفرض أجندة توسعية”، مضيفًا أن واشنطن ستواصل سياستها تجاه الصين حتى تبادر بتغيير سلوكها وأنشطتها في بحر الصين الجنوبي.
وقد جاءت هذه الخطوة بعد إقدام الإدارة الأمريكية على إلغاء الوضع التجاري الخاص لهونج كونج، وحظر تطبيقين لوسائل التواصل الاجتماعي الصينيين “تيك توك” و”وي تشات” في الولايات المتحدة، وإغلاق مقر البعثة الدبلوماسية الصينية في هيوستن بتهمة التجسس الاقتصادي، وفي التاسع من يوليو الماضي، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على أربعة مسئولين بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في إقليم شينجيانج، وهي إجراءات ردت عليها الصين بإغلاق القنصلية الأمريكية في تشنجدو، وفرض عقوبات على أربعة مسئولين أمريكيين من بينهم اثنان من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي. وتعكس هذه التحركات في مجملها تصعيد الولايات المتحدة في علاقتها بالصين، وتُنذر باحتمالية فرض مزيد من العقوبات على الشركات والمسئولين الصينيين، على غرار العقوبات المفروضة على إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا، في حالة فوز الرئيس “ترامب” في الانتخابات الرئاسية، خاصة وأن هذه هي المرة الأولى التي تفرض فيها الولايات المتحدة عقوبات على مسئولين صينيين بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وفقًا لقانون ماجنيتسكي للعقوبات.
وفي ظل مساعي “ترامب” لزيادة شعبيته، فمن المرجح في حالة فوزه استمرار تبني نهج أكثر صرامة تجاه الصين، في ضوء إلقائه اللوم عليها في الأزمات الداخلية الاقتصادية والصحية التي تواجهها الولايات المتحد، وهو ما قد يدفعه أيضًا لمزيد من مبيعات الأسلحة لكل من الهند وتايوان لمواجهة النفوذ الصيني، والشروع في تطبيق خطة لإنهاء مراجعة الكونجرس لمبيعات الأسلحة الأمريكية في الخارج، وهو ما بدأ بالفعل في تنفيذه من خلال تعديل القواعد التي تقيد بيع الطائرات بدون طيار العسكرية للدول الحليفة، وعلى رأسها الهند، في أواخر يوليو المنصرم.
العلاقات مع الصين من منظور “بايدن”
فيما يتعلق بموقف المرشح الرئاسي “جو بايدن” حيال العلاقات الأمريكية الصينية؛ فقد أشار مساعدوه في الحملة الانتخابية إلى نيته دعم التنافسية الأمريكية في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي في مواجهة المنافسة الصينية، وبينما انتقد “بايدن” النهج المتشدد لإدارة الرئيس “ترامب” تجاه الصين فيما يتعلق بالحرب التجارية، وفرض الرسوم الجمركية على البضائع الصينية، إلا أن حملته رفضت التعهد بإزالة هذه الرسوم، مع الإشارة فقط إلى احتمال إعادة تقييمها، ومن ثمَّ فمن المحتمل استمرار الرسوم التي فرضتها إدارة “ترامب” حتى في حالة فوز “بايدن” في الانتخابات.
وقد انتقد “كورت كامبل” كبير مستشاري حملة “بايدن” طريقة تفاوض إدارة “ترامب” مع الصين، كما تُعارض حملة “بايدن” فكرة حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة والصين، وذلك في ضوء استمرار العجز التجاري الأمريكي مع الصين، ففي الفترة من (يناير إلى مايو 2020) بلغ حجم الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة 137.6 مليار دولار، بينما بلغ حجم الصادرات الأمريكية إلى الصين 46.01 مليار دولار فقط. ومن ناحيته يُحمِّل “ترامب” الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة “باراك أوباما”، والتي كان “بايدن” أحد ممثليها، مسئولية تنامي النفوذ الصيني العالمي من خلال دعم نظام التجارة الحرة العالمي الذي استفادت منه الصين على حساب الاقتصاد الأمريكي، كما يُلقي باللوم على “بايدن” بسبب دعمه انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 خلال فترة حكم الرئيس “بيل كلينتون”.
وانتقد “بايدن” أيضًا تورُّط “ترامب” في حرب تجارية مع الصين منذ عام 2018، إضافة إلى المعارك التجارية الأخرى مع الحلفاء في أوروبا وكندا والمكسيك وكوريا الجنوبية واليابان، موضحًا أنه في حالة فوزه، سيعمل بالتعاون مع الحلفاء لتعبئة حملة عالمية للضغط على الصين، كما سيسعى إلى التعاون مع بكين لمواجهة التحديات العالمية التي يعتبرها أكثر إلحاحًا من مواجهة الصين، وفي ضوء ذلك من المرجح أن يتخذ “بايدن” موقفًا مغايرًا لموقف “ترامب” تجاه الصين ومنظمة الصحة العالمية فيما يتعلق بأزمة كورونا، بهدف محاولة احتواء الفيروس، كذلك فبينما يتجاهل “ترامب” قضية التغيرات المناخية، يرى “بايدن” أنها تعد تهديدًا عالميًا خطيرًا، وهو ما يستدعي التعاون مع الصين باعتبارها أكبر مصدر لانبعاثات الكربون في العالم.
رؤية مشتركة وسياسات مختلفة
في استطلاع للرأي أجراه مركز بيو Pew للأبحاث، تم إجراؤه خلال شهري يونيو ويوليو الماضيين، في الوقت الذي جعل فيه المرشحان من الصين قضية رئيسية في الحملة الانتخابية، أظهرت نتائج الاستطلاع أن (83٪) من الجمهوريين والمؤيدين للحزب الجمهوري لديهم وجهة نظر غير مواتية للصين، مقارنة بـ(68٪) من الديمقراطيين ومؤيديهم، وعندما يتعلق الأمر بالسياسة الاقتصادية والتجارية لأمريكا، تنقسم آراء الأمريكيين بشكل عام حول ما إذا كان الأهم توطيد العلاقات مع الصين (51٪) أو التشدد معها (46٪)، لكن الجمهوريين أكثر ميلًا من الديمقراطيين لتبني سياسات أكثر صرامة مع الصين (66٪ مقابل 33٪).
وبالتالي يمكن القول إنه لا يوجد اختلاف جوهري حول بروز الصين كمهدد ومصدر لقلق الإدارة الأمريكية سواء جمهورية أو ديمقراطية، إلا أن “بايدن” يرى أن النهج العدائي الصريح الذي انتهجه “ترامب” تجاه الصين، يُعرِّض أمن الولايات المتحدة الاقتصادي والسياسي للخطر، فقد تسببت الإجراءات الأمريكية المتَّخذَة ضد الصين في التأثير سلبًا على الصادرات الزراعية الأمريكية، وتعطيل سلاسل الإمدادات الأمريكية التي تعتمد على الواردات الصينية، وعلى الصعيد السياسي، دفع التصعيد الأمريكي الصين للتقارب مع الدول المناوئة للولايات المتحدة، خاصة روسيا وإيران، وزيادة التدريبات العسكرية المشتركة، مثل تلك التي أُجريت بين الصين وروسيا وإيران في شمال المحيط الهندي وخليج عُمان، في ديسمبر 2019، سبقتها تدريبات بحرية مشتركة بين روسيا والصين وجنوب إفريقيا في نوفمبر من العام الماضي.
وذلك فضلًا عن تعزيز العلاقات الاقتصادية مع هذه الدول، مثل توقيع الصين مؤخرًا مع إيران اتفاقية للتعاون في مجال الطاقة وكذلك في مجال التعاون العسكري لمدة 25 عامًا، فضلًا عن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، والدبلوماسية التي اتبعتها بكين خلال جائحة كورونا، والتي أُطلق عليها “دبلوماسية كورونا أو دبلوماسية الكمامات”، من خلال تقديم المساعدات الطبية اللازمة، مما ساهم في تعزيز العلاقات الصينية مع العديد من الدول الأوروبية والإفريقية ودول أمريكا اللاتينية، والتي طالما اعتُبرت حليفًا تقليديًا للولايات المتحدة الأمريكية.
وبالتالي فما تحتاجه الولايات المتحدة خلال الفترة القادمة من منظور “بايدن” وحملته الانتخابية، هو إعادة النظر في السياسات المتَّبعة تجاه بكين بما يحقق المصالح الأمريكية بأقل قدر من المواجهة والتصعيد، وهو ما يتضمن التركيز على دعم القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ لأن ذلك ما يميز الولايات المتحدة عن الصين، ويمكِّنها من التنافس معها على صعيد القيم العالمية، وهو ما تجاهلته إدارة “ترامب”. وفي ضوء ذلك من المرجح أن يتبع “بايدن” سياسة الاحتواء للنفوذ الصيني المتنامي، بهدف إدارة الصعود الصيني والمنافسة الاستراتيجية بينهما، بما لا يضر بالمصالح الأمريكية، نظرًا لقناعته أن التحركات الأمريكية الحالية لن تفلح في الضغط على الصين لتغيير سلوكها، بل قد تدفعها للرد واتخاذ خطوات عكسية تُفاقم من تصعيد الموقف بين البلدين، ومن ذلك ما أثير حول سعي بكين مؤخرًا لإنشاء شبكات مالية لا تخضع للعقوبات الأمريكية.
وختامًا، يمكن القول إنه بغض النظر عن الإدارة الأمريكية القادمة سواء فاز “ترامب” من الحزب الجمهوري، أو “بايدن” كممثل للحزب الديمقراطي، يُجمع الطرفان على خطورة النفوذ الصيني المتصاعد في العالم، ويتفق ذلك مع ما أشارت إليه استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكية التي صدرت عام 2017، باعتبار الصين تمثل أحد التهديدات الرئيسية للولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثمَّ فالتوجه العام الأمريكي تجاه الصين لن يختلف بفوز “ترامب” أو “بايدن”، لكن ما قد يختلف هو تكتيك وآليات التعامل المختارَة، ومن المؤشرات الدالة على ذلك، أنه في المناظرة التي جرت بينهما مؤخرًا، انتقد “ترامب” و”بايدن” بعضهما بعضًا بسبب الموقف اللين والضعيف إزاء التعامل مع الصين، ويُفهَم من ذلك إجماع الطرفين على اعتبار الصين منافسًا ومصدر تهديد لا يقتصر فقط على المجال الاقتصادي والحرب التجارية، بل يمتد ليشمل هونج كونج وتايوان وبحر الصين الجنوبي، وسرقة الملكية الفكرية، وتمدُّد شبكات الاتصالات الصينية، وتحركات الصين لاستقطاب الدول في ضوء مبادرة الحزام والطريق، وهو ما لن تقف حياله الإدارة الأمريكية القادمة صامتة.