يتصاعد الاهتمام بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، المقرر عقدها في نوفمبر المقبل، وتتجه أنظار العالم لمتابعتها في محاولة للاستشراف ووضع سيناريوهات التحرك، والتهيؤ للاتجاهات المقبلة للسياسة الخارجية الأمريكية. واستنادًا إلى ما تمثله القضية الليبية من أهمية دولية ناتجة عن تأثيرها المباشر وغير المباشر على مصالح واشنطن وحلفائها، واستقرار منطقة الشرق الأوسط بشكل عام؛ فمن الأهمية مراجعة ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصراع الليبي، ورؤية المرشحين لإدارة البيت الأبيض لها، وما ينتوي كل منهما فعله بشأنها، وصولًا لاستشراف مستقبل الأزمة الليبية في ظل الإدارة الأمريكية القادمة.
ليبيا في الرؤية الاستراتيجية الأمريكية
رغم تعاقب الإدارات على المكتب البيضاوي دوريًّا؛ إلا أن تعاطي كل منها مع ملفات السياسة الخارجية وقضايا الصراعات الدولية لا يشهد تحولات دراماتيكية عنيفة؛ وهو ما يعود لما يمكن تسميته بـ”ثوابت الولايات المتحدة الأمريكية”، وهي الرؤية العامة التي تصوغها مؤسسات الدولة بطريقة دقيقة، وتمثلها الاستراتيجية الأمريكية التي تهدف إلى تحقيق مصالحها في كل حالة. ويتبلور الاختلاف بين الإدارات الأمريكية في تكتيكات التحرك لتحقيق الأهداف المحددة -بالرؤية العامة- سلفًا، وكثيرًا ما تجد بعضُ الإدارات وجاهة في انتقاد أنشطة سابقتها؛ لإظهار قدرتها على إيجاد حلول غير نمطية وجريئة، ولإثبات عدم فعالية الإدارات الماضية. وهو أيضًا عامل مفسر لصعود بعض القضايا إلى صدارة التركيز الأمريكي في بعض الأوقات، وتراجعها نسبيًّا في فترات ما بعد التحول لإدارة جديدة.
ووفقًا للرؤية الأمريكية، فإن ليبيا دولة ذات أهمية كبرى لاستقرار أسواق الطاقة العالمية، وتدفقات النفط للحلفاء بأوروبا؛ إذ مثل إنتاج النفط الليبي 2% من الإنتاج العالمي قبل أحداث فبراير 2011، كما تمتلك احتياطيات هائلة من النفط الصخري بلغت (74) مليار برميل، وتجاوزت احتياطاتها من الغاز الطبيعي حاجز الـ(177) تريليون قدم مكعب. فضلًا عن الأهمية الجيوسياسية لليبيا؛ فهي مطلة على حدود تقارب (2000) كم على جنوب المتوسط، بموقع حيوي بين دول شمال ووسط وغرب إفريقيا. ويمثل ثراء ليبيا عاملًا إضافيًّا لاهتمام واشنطن بها؛ حيث احتفظت لفترات طويلة بمشتريات تسليحية طائلة، تطمح الولايات المتحدة لحصد حصة كبرى منها عند استقرار الأوضاع بها.
إلى جانب المعطيات السابقة، فالسوابق التاريخية لتوتر العلاقات الأمريكية الليبية، إبان نظام الرئيس السابق “معمر القذافي”، تُحتّم على الولايات المتحدة الالتفات إلى الأوضاع في ليبيا خلال المرحلة الراهنة؛ لتفويت فرصة إعادة استنساخ النظام السابق الذي كان معاديًا لها، أو دخول أطراف دولية لمنافستها فيها، لا سيما روسيا. أضف إلى ذلك مصالح الشركات النفطية الأمريكية العاملة بقطاع الطاقة الليبي، وأهمية الحفاظ على نفوذها وتوسيع حصتها بهذا السوق الواعد. وليس ببعيد عن رؤية الولايات المتحدة الانخراط في عمليات إعادة إعمار الدولة التي ستُدر على شركاتها ومؤسساتها الاقتصادية مليارات طائلة.
الصراع الليبي في السباق الرئاسي
تمنح الرؤية الأمريكية لليبيا دلالات واضحة على حدود النهج الأمريكي للتعاطي مع الأزمة الجارية فيها، فلا توجد مساحة للانسحاب من المشهد بشكل كامل، والتركيز الأكبر ينصب على سلامة أنشطة الشركات والمصالح الأمريكية في ليبيا، كما هو الحال مع تأمين استمرار تدفقات النفط للأسواق الغربية، وعدم السماح بتحول الصراع إلى معادلة صفرية تنتهي لصالح أحد الأطراف، وكذلك تقويض أي تمدد إضافي لقوى إقليمية أو دولية مناوئة أو غير حليفة لواشنطن. وفيما يلي محاولة لعرض رؤية مرشحَيِ الرئاسة الأمريكية للصراع الليبي، وكيف سيتحرك كل منهما في هذا الملف.
أولًا- إدارة “ترامب” تخفيض الانخراط واعتماد الحياد النشط:
تبنت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” استراتيجية مفادها تخفيض الانخراط العسكري في الصراعات الدولية، لا سيما بالشرق الأوسط، واعتماد مزيج من الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية لتوجيه دفة أحداثها. وانعكست تلك الاستراتيجية في انتهاج واشنطن سياسة “الحياد النشط” في التعاطي مع الأزمة الليبية. حيث أجرى الرئيس الأمريكي اتصالًا بـ”خليفة حفتر” قائد الجيش الوطني (أبريل 2019)، نوقش خلاله ملفات مكافحة الإرهاب، وتأمين مصادر النفط، وتحويل ليبيا إلى نظام سياسي ديمقراطي مستقر، وهي خطوة أثارت حفيظة رئيس المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق “فائز السراج”، الذي اجتمع بـ”ترامب” (ديسمبر 2017)، وأكد الأخير فيه دعمه للوفاق واتفاق الصخيرات. وفي سياق موازٍ، أجرت السفارة الأمريكية في ليبيا عدة لقاءات مع القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية المتصارعة، وتعددت الاجتماعات بين قيادات “أفريكوم” ومسئولي حكومة الوفاق للتنسيق حول ملفات الترتيبات الأمنية بالمنطقة الغربية.
ويلاحَظ مؤخرًا عودة واشنطن للانخراط بشكل أكثر ديناميكيةً في ليبيا؛ لاعتبارات تتعلق بتأثيرات إغلاق إنتاج وتصدير النفط، والدور الروسي الرامي لإيجاد موطئ قدم بشواطئ المتوسط الجنوبية، أضف إلى ذلك قُرب موعد الانتخابات الرئاسية، والحاجة لتحقيق اختراق يُحسب لـ”ترامب”. فضلًا عن جنوح تركيا التي وظفتها واشنطن لكبح جماح روسيا، إلا أن تماديها في نقل المرتزقة والعناصر الإرهابية، وانتهاكها حقوق قبرص واليونان، واحتمالات حدوث مواجهة بين أنقرة والقاهرة أو باريس؛ كلها عوامل قادت إلى تفعيل واشنطن لانخراط أكثر فاعلية بالأزمة. وهو ما انعكس على تحركات السفير الأمريكي بليبيا، وسلسلة الاجتماعات التي أجراها مع مسئولين ليبيين ومصريين، والضغط الأمريكي لوقف إطلاق النار، ثم دفعها لتوقيع اتفاق لإعادة فتح النفط الليبي، وصولًا لدعمها للمسارات السياسية الجارية.
ثانيًا- “بايدن” والبحث عن دور أكثر فاعلية:
تُشير مواقف المرشح الديمقراطي “جو بايدن” من الأزمة الليبية إلى نيته لعب دور أكثر فاعليةً لإثبات فشل سياسات الرئيس “ترامب”، وقد جاءت تصريحات نائب الرئيس السابق في عام 2011 مؤكدةً على موقفه من الدور الأمريكي في ليبيا، برفضه الانخراط عسكريًّا في الأزمة، وأنه عارض بقوة التدخل الأمريكي عبر بوابة الناتو لإسقاط “القذافي”، ولكنه دافع لاحقًا عن هذا التدخل عندما قال: “أمريكا أنفقت ملياري دولار في ليبيا ولم تخسر حياة واحدة”، كتأكيد أن خطة التدخل حققت هدفها بتكلفة منخفضة، وبدون خسائر بشرية أمريكية. وتقود جُملة مواقف “بايدن” من الصراع الليبي والفاعلين فيه للاعتقاد بأن سيعطي الملف الليبي أولوية؛ رغبةً في تأمين المصالح الاستراتيجية الأمريكية، ولتحقيق تقارب مع المواقف الأوروبية وإعادة التأثير فيها مجددًا.
وتمثل أبرز اتجاهات حركة إدارة “جو بايدن” المُحتملة تعزيز الاتصالات الدبلوماسية مع أطراف الأزمة، والتركيز على قطع الطريق على التحركات الروسية والتركية عبر دعم إنفاذ قرارات مجلس الأمن بحظر تسليح ليبيا. ويُرجَّح أن تصبح قوى غرب ليبيا وحكومة الوفاق -حال فوزه- أكثر حظوةً بالدعم الأمريكي؛ لإقناعهم أن تحييد تركيا من المشهد الليبي ليس موجهًا ضدهم. وسينعكس التفاهم الأوروبي الأمريكي، وخصوصًا الفرنسي، لدعم قبرص واليونان بوجه تركيا بشكل كبير على مساحات التدخل المتاحة لأنقرة في ليبيا. وقد يذهب “بايدن” إلى إعادة إنتاج مرحلة انتقالية ليبية جديدة، بعد تحييد الأطراف الإقليمية والدولية غير الأوروبية بدرجة أو بأخرى، وفقًا لمسار يعزز من نفوذ الولايات المتحدة، ويقضي على أية أدوار تتعارض مع الموقف الأمريكي.
ختامًا، إن نجاح “ترامب” في حسم الانتخابات الأمريكية لصالحه يعني استمرار الموقف الأمريكي من الملف الليبي على وضعه الراهن، حيث مسارات تفاوضية ولقاءات تستهدف إيجاد مخرج من الأزمة، وفقًا لموازين القوة والسيطرة القائمة، ما لم تقع أحداث مفاجئة يترتب عليها تحول هذا الموقف. أما فوز “بايدن” فسيُنتج جمودًا مرحليًّا إلى حين صياغة إدارته برنامجًا يُقصي الأطراف الخارجية، ويعزز من فرض حظر التسليح وغيره من القرارات الأممية ذات العلاقة، وهو ما قد ينتهي إلى محاولة الحثّ على تبني نموذج مشابه لتلك النماذج التي حاولت إدارة “أوباما” خلقها في الشرق الأوسط بعد عام 2011. وعلى الرغم من تباين الرؤى بين المرشحَيْن؛ إلا أن الاستشراف الأكثر واقعية لمستقبل القضية الليبية في أجندة الولايات المتحدة الأمريكية يقول إن الأخيرة لن تنغمس أو تتدخل بصورة مباشرة في دائرة الصراع الليبي.