مع تجدد اندلاع المعارك في إقليم ناجورنو قره باغ في سبتمبر 2020، فإنها سرعان ما تحولت إلى قضية إقليمية ثم عالمية، وتدخلت فيها دول عديدة دعماً لأحد طرفيْ الصراع أو للوساطة بينهما، وكان منها تركيا وإيران. فما هي جذور هذا الصراع؟ وما هي أهداف الدولتين من التدخل ومجالات التنافس بينهما؟
تعود جذور الصراع بين أذربيجان وأرمينيا إلى الفترة التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وترسيم الحدود بينهما. فإقليم ناجورنو قره باغ الذي تسكنه أغلبية ساحقة من الأرمن وأقلية أذرية كان جزءاً من جمهورية أذربيجان السوفيتية، ولم يُمثِّل ذلك مشكلة وقتذاك بحكم أن أذربيجان وأرمينيا كانتا ضمن دولة واحدة هي الاتحاد السوفيتي التي تمتَّع كل سكانها بالمواطنة السوفيتية. ظهرت المشكلة عام 1991، عندما رفضت الأغلبية الأرمينية من سكان الإقليم أن يكونوا جزءاً من دولة أذربيجان، فنظموا استفتاءً كانت نتيجته إقامة سلطة محلية مستقلة تحظي بالدعم الأرميني.
ونتيجة لذلك، اندلعت المعارك في الإقليم وشاركت فيها القوات الأذرية والأرمينية لمدة ثلاثة أعوام 1991-1994، وانتهت بوقف إطلاق النار وتوقيع «هدنة منسك». والحقيقة، أن التوتر في الإقليم لم يتوقف قط، وظهر من وقتٍ لآخر في شكل اشتباكات عسكرية كان آخرها ما حدث في الشهر الماضي. وعلى مدي هذه السنوات، فشلت كل محاولات الوصول إلى تسوية سلمية للصراع.
تركيا هي حليف تقليدي لأذربيجان وتجمعهما علاقات تاريخية وثقافية تعود إلى فترة الحكم العثماني، إضافة إلى مصالح جيوستراتيجية وسياسية واقتصادية مشتركة. فمن الناحية الجيوستراتيجية، تُمثِّل أذربيجان منفذاً لتركيا علي البلقان والقوقاز يُسهِّل من مد نفوذها في البحريْن الأدرياتيكي وقزوين. لذلك، فإن سيطرة أذربيجان على إقليم ناجورنو قره باغ يدعم الطموحات التركية ويُسهِّل من تواصلها مع الجمهوريات التي تتحدث التركية في آسيا الوسطي. ومن الناحية السياسية، فإنها تُمثِّل عنصرا موازيا للدور الأرميني المُعادي لتركيا لإصراره على تحميلها المسئولية الأخلاقية لمذابح الأرمن في الدولة العثمانية في عام 1915. ومن الناحية الاقتصادية، هناك المصالح المرتبطة بالغاز الطبيعي الذي تستورده تركيا من أذربيجان، وخطوط أنابيب الغاز الروسي التي تعبر أراضي أذربيجان إلي تركيا، والتبادل التجاري الكبير بين البلدين والشركات التركية العاملة في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية في أذربيجان.
مثَّلت هذه الاعتبارات دوافع التأييد التركي لأذربيجان، والذي تطور هذه المرة من مجرد الدعم السياسي والتزويد بالسلاح إلي التدخل المباشر وإرسال مقاتلين مرتزقة.
وبالنسبة لإيران، فإنها تمتلك أطول حدود برية مع الدولتين المتصارعتين. واتَّسم موقفها تقليدياً بالتعاطف مع أرمينيا بحكم المصالح الاقتصادية المشتركة، ومرور خطوط الأنابيب التي تنقل الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر الأراضي الأرمينية، والعلاقات الخاصة مع روسيا حليفة أرمينيا. وفي الاشتباكات الأخيرة، أعربت إيران عن قلقها من قيام تركيا بنقل مقاتلين مرتزقة وعناصر متطرفة لدعم أذربيجان، ومن احتمال امتداد القتال إلي داخل أراضيها. فحذَّر الرئيس الإيراني من استمرار القتال وأنه «من غير المقبول إطلاقاً أن تسقط قذائف أو صواريخ فوق أراضينا». وأعرب وزيرا خارجية إيران وروسيا عن تحفظهما على مشاركة مقاتلين سوريين وليبيين في المعارك.
وهناك مصادر أعمق للقلق الإيراني، منها إثارة أذربيجان مشاعر الهوية القومية عند الأقلية الأذرية في الإقليم، والخشية من أن يمتد هذا الشعور إلى ملايين الأذريين في إيران والذين يُمثِّلون قرابة 15-20% من عدد سكانها. ويدل على ذلك خروج مظاهرات مؤيدة لأذربيجان في عدد من المدن الإيرانية ذات الأغلبية الأذرية. أضف إلى ذلك، تخوُّف إيران من تمدد النفوذ التركي بهذا الشكل المباشر في آسيا الوسطي وهو ما يُمثِّل قيداً على حركتها في البلاد التي تعتبرها مجالاً طبيعياً لها. لا تريد إيران الدخول في مواجهة مع تركيا في هذه المرحلة التي تتعرض فيها لسياسة الحد الأقصى من الضغوط الأمريكية، ولكن من الأرجح، أنها تضع العراقيل التي تعطل أو تؤخر تحقيق تركيا لأهدافها.
في هذا السياق، فاجأت إيران طرفيْ النزاع والعالم بموقف متميز في يوم 5 أكتوبر، فورد في بيان عن وزارة خارجيتها أن إيران تحترم وحدة الأراضي الأذرية، ودعا أرمينيا إلي إنهاء احتلالها لأراضي إقليم ناجورنو قره باغ، مشيراً إلي أن إيران تقف علي مسافة متساوية من طرفيْ الصراع.
ويمكن تفسير الموقف الإيراني الجديد برغبتها في تحسين صورتها في دول القوقاز ذات الأغلبية المسلمة والتي تأثرت سلبياً بتأييدها لأرمينيا ذات الأغلبية المسيحية، وبسعيها إلي تخفيف الضغوط الداخلية النابعة من الأذريين الإيرانيين، وبمحاولتها كسب ود أذربيجان ومنافسة النفوذ التركي فيها أخذاً في الاعتبار التقارب المذهبي الديني بين طهران وباكو، وأن أذربيجان ظلت لفترات طويلة جزءاً من الإمبراطورية الفارسية. من الواضح إذاً أن هناك فارقا نوعيا بين الموقفين التركي والإيراني إزاء هذا الصراع. فتركيا أعلنت موقفها المؤيد لأذربيجان ولم تدخر وسعاً في دعمها بالسلاح والخبرات الفنية والمقاتلين المرتزقة، لأن ذلك يصب في الحلم الإمبراطوري لأردوغان وإحياء النفوذ التركي في الأقاليم التي ارتبطت بالدولة العثمانية، ويعتبرها حلقة مكملة لسياساته التوسعية في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط.
أما إيران، فإن موقفها الرسمي هو الحياد وعدم التدخل المباشر لصالح أي من الطرفين، في الوقت الذي تعمل فيه على وقف تمدد النفوذ التركي والحفاظ على تحالفها مع روسيا. وتشير تقارير إلى أنها سمحت بمرور شحنات من أسلحة روسية عبر أراضيها لدعم أرمينيا. وهي لا تألو هي الأخرى جهداً من أجل مد نفوذها ووجودها.