كتبت من قبل عن موضوع المؤسسات في مقالات سابقة، والمناسبة الجديدة للكتابة عنه ترتبط بما يحدث الآن بالولايات المتحدة الأمريكية، فبالتأكيد يمكن وصف المشهد هناك بعبارة «المؤسسات أنقذت أمريكا”،الولايات المتحدة تمر بأزمة عصيبة تتعلق بنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ولأول مرة نجد رئيسا يرفض حتى الآن الاعتراف بالنتيجة، ويصف العملية الانتخابية بالمزورة، بل يتهم حكام ولايات ينتمون لحزبه (الجمهوري) بالتغطية على المخالفات الانتخابية.
ولكن ورغم موقف الرئيس الأمريكي، وحالة الاستقطاب غير المسبوقة الموجودة في المجتمع، والتي عبرت عن نفسها بحصول ترامب على أكثر من ٧٤ مليون صوت (بايدن حصل على أكثر من ٨١ مليون صوت)، وبعض أحداث العنف والصدامات التي ارتبطت بالاحتجاج على نتائج الانتخابات، إلا أن الولايات المتحدة تبدو فى طريقها لعبور هذه الأزمة، وكلمة السر هنا هي المؤسسات.
الرئيس ترامب قرر منذ إعلان نتيجة الانتخابات اللجوء للمؤسسة القضائية للفصل في الادعاءات المتعلقة بحدوث مخالفات في التصويت والفرز، ورفع فريقه القانوني دعاوى على المستويات القضائية المختلفة المحلية والفيدرالية وصولا للمحكمة الدستورية، وبالرغم من أن القضاة في بعض هذه المستويات وخاصة المحكمة الدستورية يتم تعيينهم بشكل سياسي، والرئيس ترامب قام بترشيح ثلاثة من قضاة المحكمة الدستورية الحالية، ويوجد بها أغلبية لنفس الفكر السياسي لحزب الرئيس، وهو التوجه المحافظ، إلا أن التقاليد المؤسسية كانت أقوى من الاعتبارات السياسية، وجاءت أحكام المؤسسات القضائية بمستوياتها المختلفة ضد الرئيس ولمصلحة خصمه «جو بايدن».
ثم اجتمعت «المجمعات الانتخابية» يوم الاثنين الماضي على مستوى كل ولاية، ورغم الضغوط التي مارسها ترامب على السياسيين المحليين في عدد من الولايات التي أثارت نتائجها بعض الجدل، ومن أجل أن تقوم البرلمانات المحلية بإبطال نتائج انتخاباتها، إلا أن المجمعات الانتخابية صوتت وفقا للنتائج المعلنة للتصويت الشعبي في كل ولاية، وحصل بايدن على ٣٠٦ أصوات وترامب على ٢٣٢ صوتا في المجمع، ومرة أخرة انتصرت المؤسسات رغم الخلافات والضغوط السياسية.
يتبقى خطوة أخيرة يوم ٦ يناير القادم، عندما يجتمع الكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ للتصديق النهائي على نتائج الانتخابات، ورغم أن الكونجرس يملك سلطة عدم اعتماد النتيجة، ومازال يتمتع حزب الرئيس فيه بالأغلبية في مجلس الشيوخ، إلا أن زعيم هذه الأغلبية أعلن لأعضاء حزبه بمجلس الشيوخ أنه لن يساند أي محاولات لعدم التصديق على النتيجة، أي ستنتصر المؤسسات مرة أخرى.
الخلاصة إذن هي أن المؤسسات أنقذت الولايات المتحدة وعبرت بها من هذه الأزمة. والمقصود بالمؤسسات هنا ليس فقط بناء هياكل تنظيمية راسخة، ولكن أيضا تبنى قوانين وقواعد ثابتة ومستمرة لتنظيم الحياة السياسية والاقتصادية. وقد أشرت في مقال سابق إلى أحد الكتب الهامة التي تناولت موضوع بناء المؤسسات وهو كتاب «لماذا تفشل الأمم: أصول السلطة والازدهار والفقر» من تأليف جيمس روبنسون أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، ودارون أسيموغلو أستاذ الاقتصاد بمعهد ماستشوسيتس للتكنولوجيا. والفكرة الأساسية بالكتاب يمكن تلخيصها في العبارة التالية المقتبسة منه «حظوظ الدول من النجاح والفشل، أو الفقر والغنى لا ترتبط بالموارد الطبيعة أو الموقع أو الثقافة أو الدين أو توافر قيادة مستنيرة، ولكن ترتبط بالأساس بمدى توافر مؤسسات بتلك الدولة».. باختصار المؤسسات تضمن الاستمرارية، وهي القادرة على عبور اختبار الأزمات، كما نشهد في الولايات المتحدة.