تحظى توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران بمعارضة إسرائيلية شديدة، تشاركها فيه مجموعة من الدول العربية التي ترى أن تراجع إدارة “بايدن” عن العديد من سياسات الرئيس “ترامب” أو reversing Trump’s policies، لا يجب أن يذهب إلى حد العودة إلى هذا الاتفاق في ظل الصعوبة البالغة لإمكانية تصور تراجع إيران عن انتهاكاتها له بعد أن قامت بتشغيل مجموعات متطورة جديدة من وحدات الطرد المركزي ورفع تخصيب اليورانيوم إلى ٢٠٪ والذي يعد بمثابة weapons-,grade uranium والذي بلغ رصيدها منه، وفقًا للوكالة الدولية للطاقة النووية IAEA، ٢٤٤٠ كيلو جرامًا تعادل ثمانية أمثال ما هو مسموح به في الاتفاق النووي.
واتصالًا بذلك، صرح الجنرال Aviv Kohavi رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي، يوم ٢٦ يناير الماضي، بأن إسرائيل لديها خطط جاهزة للهجوم على إيران تهدف إلى إحباط محاولاتها الرامية إلى التحول لقوة نووية، مؤكدًا خطورة عودة الولايات المتحدة الأمريكية لهذا الاتفاق.
وكانت إسرائيل قد قامت بعدد من العمليات ضد البرنامج النووي الإيراني، منها الاستحواذ على جانب من قاعدة المعلومات الخاصة به، ثم اغتيال العالم الإيراني “محسن فخري زاده” يوم ٢٧ نوفمبر الماضي، والذي كما يقال يُعتبر المسئول الأول عن تصميم رؤوس نووية يمكن تركيبها على نوعيات من الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى التي يتراوح مداها بين ١١٠ إلى ٢٥٠٠ كم والتي تدخل إسرائيل بسهولة ضمن نطاقها.
وتعد تلك القضية من بين القضايا الساخنة التي ستواجه إدارة الرئيس “بايدن” ضمن مجمل سياساتها حيال منطقة الشرق الاوسط والتي من المتوقع أن تشهد المزيد من التفاعلات، إذ تكثف إسرائيل من اتصالاتها مع الإدارة الأمريكية الجديدة على المستويات السياسية والأمنية، حيث يعتزم رئيس الموساد زيارة واشنطن قريبًا لتأكيد مخاطر التوجهات الأمريكية الجديدة للتعامل مع إيران، أخذًا في الاعتبار أن الشخصيات التي تتولى مسئولية الملف الإيراني في الإدارة الأمريكية الجديدة هي نفس الشخصيات التي كانت تتولى هذا الموضوع في إدارة الرئيس “أوباما” بمن فيهم “أنتوني بلينكن” وزير الخارجية الأمريكي الجديد، و”وليام بيرنز” رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، و”جاك سوليفان” مستشار الأمن القومي، و”روبرت مالي” المبعوث الخاص بشأن إيران في الإدارة الأمريكية الجديدة.
وعلى الرغم مما يتردد عن التوجهات الأمريكية الجديدة للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني؛ إلا أنه من غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت تلك التوجهات تركز على مجرد العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران أو Joint Comprehensive Plan of Action (JCPOA) والذي سبق التوصل إليه خلال ولاية الرئيس “أوباما” عام ٢٠١٥، والذي انسحبت منه الولايات المتحدة الأمريكية عام ٢٠١٨ خلال ولاية الرئيس “ترامب”؟ أم أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستسعى إلى محاولة إبرام اتفاق جديد تمامًا يعالج طموحات إيران النووية بطريقة أكثر عمقًا وبإجراءات “تحقق” verification measures أشد صرامة في ضوء ما طرأ على إمكاناتها من تطورات، سواء من حيث الأعداد الجديدة من أجهزة الطرد المركزي بطاقتها المتعاظمة، أو حيال تضخم رصيدها من اليورانيوم عالي التخصيب، فضلًا عن محاولة معالجة التحديات الأخرى الناجمة عن طبيعة برامجها للتسلح وعن سياساتها التي تهدد الأمن والاستقرار في عدد من دول المنطقة.
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد انسحبت من هذا الاتفاق عام ٢٠١٨ بعد أن وصفه الرئيس “ترامب” بالضعف الشديد، نظرًا لعدم كفاية إجراءات التحقق التي تضمن وضع نهاية لطموحات إيران النووية، ولتجاهله معالجة بواعث القلق الأخرى من إيران التي تشمل أيضًا إمكاناتها الصاروخية، خاصة المتوسطة والبعيدة المدى، التي يمكن أن تمثل delivery systems لأسلحة نووية، وما تمثله سياساتها من تهديد لأمن الخليج ولأمن إسرائيل، وأيضًا لمجمل الأوضاع في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فضلًا عن دعمها للإرهاب. ولم تقتصر الإجراءات التي اتخذتها إدارة “ترامب” على مجرد الانسحاب من هذا الاتفاق، بل ذهبت إلى حد فرض عقوبات على إيران ضمن سياسة تهدف إلى ممارسة أقصى درجات الضغط أو الـ Maximum pressure التي شملت عرقلة إمكانية قيام إيران بمواصلة صادراتها من البترول، وفرض عقوبات على الشركات الأجنبية التي تتعاون معها.
وبالتوازي مع الاتصالات التي أجرتها الإدارة الأمريكية الجديدة مع مجموعة الـE.3، التي تشمل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، والترحيب الذي يبديه الاتحاد الأوروبي بتوجهات الأمريكية الجديدة، وهو الترحيب الذي قد يكون مرجعه الاهتمام الأوروبي بفتح السوق الإيرانية أمام الصادرات الأوروبية، وما يتردد عن الحرص الأمريكي على التشاور مع عدد من الأطراف الإقليمية، وما صدر من تصريحات من قبل عدد من المسئولين الأمريكيين والإيرانيين؛ يمكن القول إن هناك مجموعة من العوامل التي ترجع إلى واقع الداخل الإيراني ذاته، وكذلك لحالة الانقسام والاستقطاب الداخلي الذي تشهده الولايات المتحدة الأمريكية والتي يمكن أن تؤثر فيما يمكن أن تتخذه الإدارة الأمريكية في النهاية حيال إيران وبرنامجها النووي وإمكاناتها الصاروخية وسياساتها التي تؤثر سلبًا في الأمن والاستقرار الإقليمي، فضلًا عن دورها في دعم الإرهاب والأصولية والتطرف.
فعلى مستوى الأوضاع الداخلية الإيرانية، من المتوقع أن تطالب إيران، حيث يواجه الرئيس “حسن روحاني” معارضة شديدة من المحافظين في الانتخابات المقررة في يونيو ٢٠٢١، بثمن باهظ للعودة إلى الاتفاق، بما في ذلك الرفع الفوري للعقوبات الأمريكية التي فرضتها إدارة “ترامب”، وتقديم تعويضات بمليارات الدولارات عن الخسائر التي لحقت بالاقتصاد الإيراني من جراء تلك العقوبات، وهي مطالب قد لا يستطيع الرئيس “بايدن” الاستجابة لها في ظل عدم وجود مؤشرات يمكن أن توحي باستعداد إيران لتفكيك وحدات الطرد المركزي الإضافية التي قامت بتركيبها، ووقف عمليات تخصيب اليورانيوم، والتخلص مما سبق إنتاجه منه، كما أنه من غير المتصور أن تقوم إيران أيضًا بتفكيك برنامجها الصاروخي أو الحد من تدخلاتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، خاصة أن الإيرانيين ومعهم كل من روسيا والصين يدركون أن إدارة الرئيس “بايدن” قد تكون إدارة لفترة ولاية واحدة، إذ ليس من المستبعد أن يعود “ترامب” أو أن يخرج “ترامب” جديد بعد أربعة أعوام من الآن يمكن أن يعود بالأمور إلى المربع الأول. لذا، ستركز إيران بدرجة رئيسية على رفع العقوبات الأمريكية، والسماح باستئناف تصدير البترول دون تقديم تنازلات جوهرية يمكن أن يوافق المرشد الأعلى ومعه الحرس الثوري عليها لإدارة أمريكية مشكوك في فرص تجديد ولايتها مستقبلًا.
أما بالنسبة لحالة الانقسام والاستقطاب الداخلي الذي تشهده الولايات المتحدة الأمريكية، ونظرًا لأن قضية إيران وتغيير سياسة التعامل معها لا يمكن إقرارها برمتها من خلال أوامر تنفيذية رئاسية؛ لذا فإن تناول الكونجرس لها قد يشهد معارضة كبيرة، ليس فقط من قبل الجمهوريين بل قد ينضم إليهم عدد من الديمقراطيين، خاصة وأن إسرائيل لن تتردد في التأثير على مواقفهم، أخذًا في الاعتبار “أن الطبيعة غير السلمية للبرنامج النووي الإيراني لم تعد محل شك” بعد أن تخطت إيران ما كان مفروضًا عليها الالتزام به في اتفاق عام ٢٠١٥، سواء فيما يتعلق بإنتاج البلوتونيوم أو اليورانيوم عالي التخصيب والذي يتم في المفاعلات الإيرانية في ناتانز وفوردو وآراك، وهو ما يجعل التسرع في رفع العقوبات الأمريكية المفروضة حتى ولو تم بصورة تدريجية عملية محفوفة بالمخاطر، وقد لا يترتب عليه تراجع إيراني فعلي عما حققته من إنجازات في تطوير برنامجها النووي أو في برامجها الأخرى للتسلح حتى ولو تم الاتفاق على من سيتخذ الخطوة الأولى التي يمكن أن تؤدي إلى استئناف التفاوض. فالمواجهة الراهنة بين البلدين هي في حقيقة الأمر مواجهة بين “أوباما” و”بايدن” من ناحية، وبين المرشد الأعلى “علي خامنئي” ومعه الحرس الثوري من ناحية أخرى، مع تأييد أوروبي وكذلك من روسيا والصين لإعادة إحياء اتفاق ٢٠١٥ بصورة أو بأخرى، وهو ما يتزامن مع توجهات إسرائيلية للتحرك منفردة إذا ما اقتضت الحاجة ذلك بما قد يؤدي لتقويض آمال الإدارة الأمريكية الجديدة في العودة للماضي وتحقيق نتائج مختلفة.