عين الرئيس ماكرون يوم الخميس الموافق ٥/٩/٢٠٢٤ السيد ميشيل بارنييه رئيسا للوزارة وكلفه بتشكيل الحكومة.
السيد ميشيل بارنييه سياسي قديم (٧٢ سنة)، أت من صفوف اليمين الجمهوري، وكان وزيرا في عدة حكومات سابقة، ومفوضا أوروبيا، شغل مناصب وزير الخارجية ووزير الزراعة، وشغل مناصب في الاتحاد الأوروبي، وكان هو المفاوض الرئيس أثناء مفاوضات البريكزيت. أي هو وجه مألوف سمعته طيبة في بروكسل وفي فرنسا، ويبدو لي أن تعيينه – في شق منه- رسالة طمأنة للدوائر الأوروبية الشديدة القلق بسبب سيولة و فوضي المشهد الفرنسي، وطلب مبطن بالصبر علي فرنسا.
في الحزب الجمهوري هو أعلي مقاما من نساء ورجال الصف الثاني دون أن يكون فعلا من رجال الصف الأول، قناعات بارنييه الأوروبية (إيمانه بالمشروع الأوروبي) عميقة، وعلي عكس نخب باريس يعلم بارنيه اتجاهات الرأي العام في المحافظات، وهو يجيد فنون المفاوضات، علي المستوي الثقافي هو شديد المحافظة، ولكنه يؤمن بأهمية السياسات الاجتماعية.
خطاب تعيين بارنييه طالبه بالعمل علي تجميع أكبر قدر من التيارات وراء حكومته، ورغم أن كل شيء ممكن في فرنسا، أتصور أننا نستطيع استبعاد ضم حكومته لرموز تنتمي إلي التحالف اليساري أو إلي أقصي اليمين، ومن الواضح أن التحالف اليساري لن يؤيده وسيبذل أقصي مجهود لإسقاطه. ويعني هذا أن مفتاح استمرار حكومته وعدم إسقاطها في البرلمان في يد حزب مارين لوبن الذي يقول أنه سينتظر بيان الحكومة لحسم موقفه من الحكومة. وبالتالي فإن مشكلة بارنييه هي كيفية الحصول علي تأييد حزب لوبن دون خسارة يسار الوسط،
الوضع ما زال غامضا، هذا الرئيس تحديدا اعتاد الحكم منفردا مع دائرة ضيقة من المساعدين، والتدخل في كل أمور الحكم. ولكن قاعدته البرلمانية باتت ضعيفة للغاية، لأن تكتل الأحزاب الوسطية – مؤيدي الرئيس قبل حل مجلس الأمة – شديد الغضب من ماكرون لقراره بحل المجلس السابق، ولأن عددا من أقطاب هذا التكتل يفكر في الانتخابات الرئاسية المقبلة – سواء أجريت في ميعادها أو قبله.
قاعدة بارنيية ليست كبيرة، لليمين الجمهوري ٤٧ مقعد، ولتكتل الوسط ١٦٣ مقعد، والأغلبية في البرلمان ٢٨٩ مقعد، أي لن تتمتع الحكومة المقبلة بأغلبية مطلقة، ولا أعرف إن كان بارنييه يضمن أصلا تأييد كل كوادر ونواب حزبه، والسؤال هو هل هناك أغلبية لإسقاط حكومته؟ المفاتيح كما قلنا في إيدي حزب مارين لوبن وبدرجة أقل في إيدي يسار الوسط الكاره لمغازلة ماكرون لفصائل اليمين. وطبعا لا نستطيع استبعاد احتمال تخلي يمين الوسط واليمين الجمهوري عن بارنييه لسبب تافه أو هام.
لا نعرف كيف سيتفاعل الرئيس ورئيس الحكومة معا، كما قلنا الرئيس اعتاد الحكم المنفرد ويتقلب بسرعة من نقيض إلي نقيض، ولا نعرف لمن ستكون اليد العليا في تعيين بعض الوزراء الهامين… وزراء المالية والداخلية والعدل (الرئيس سيقوم غالبا بتعيين وزيري الخارجية والدفاع، أو علي الأقل من حقه الاعتراض علي خيارات بارنييه)
ما هو مؤكد أن الإثنين – ماكرون وبارنييه- يؤمنان بالمشروع الأوروبي، وبضرورة الاهتمام بالوضع المالي للدولة وضبطه، وبضرورة الاحتفاظ بإصلاحات ماكرون وأكثرها حساسية هي قانون المعاشات. ما هو غير واضح هو موقف الرئيس من قوانين الهجرة وإلي أي مدي يريد الذهاب لضمان رضا اليمين المتطرف – علما بأن هذا الرضا سيكون مؤقتا، وقد يتسبب الثمن المدفوع في انشقاقات داخل تكتل الوسط.
حزب لوبن حدد ما يريده، تعديل قانون الانتخابات للعمل بنظام القائمة النسبية، سياسة قاسية تجاه المهاجرين، العمل علي تحسين القدرة الشرائية للفرنسيين. من الواضح أنه لن يحصل علي كل ما يطالب به، لا سيما فيما يخص المطلب الأخير.
كيف وصلنا إلي هذا الوضع؟ رئيس ضعيف ورئيس وزراء ضعيف؟ وضع يكون فيه رئيس الوزراء آتي من صفوف أصغر كتلة برلمانية وينتهج سياسات غير شعبية، مشهد الحكم فيه الذي يحدد مصائر الحكومات هو حزب مارين لوبن رغم اتفاق الفرقاء الآخرين علي استبعاده؟
حسابات كل الفرقاء الأنانية أو الخاطئة هي السبب. الرئيس كان يعلم أن وقت التقشف حان، ولذلك حل مجلس الأمة ودعا إلي انتخابات جديدة، إما للحصول علي تفويض جديد قبل إقرار الميزانية، أو ترك مقاليد الحكم لليمين المتطرف ليخسر شعبيته ويحرق نفسه ويغرق في مستنقع الديون. ولم يتصور الرئيس أن فرق اليسار قد تنجح في صياغة برنامج حكم مشترك وفي بناء تحالف. ووجود هذا اللاعب الثالث أفسد خططه
من ناحية ثانية اتسم برنامج حكم كل من اليمين المتطرف واليسار بالجنون التام، برنامج تكتل الوسط لم يكن واقعيا ولكن لا تمكن مقارنة وعوده المتفائلة بسفه الأخرين. المشترك بين المتطرفين من اليمين واليسار تبنيهم برنامج وسياسات قائمين علي زيادة كبيرة في الإنفاق في بلاد تعاني من أزمة ديون حادة. وإصرار الفريقين علي إلغاء قانون المعاشات الذي أصدره الرئيس ماكرون والذي رفع من سن الخروج إلي المعاش بهدف ضبط ميزانية المعاشات. وبما أن التكتلين يملكان معا أغلبية مطلقة من المقاعد كان يمكن أن يساندن أحدهما الآخر ويقومان معا بإلغاء أغلب إصلاحات ماكرون قبل أن يشتبكان ويسقط أحدهما حكومة الآخر.
كان أمام التحالف اليساري خياران… مراجعة برنامجه سعيا إلي التفاهم مع كتلة الوسط، أم التمسك به رغم جنونه. الحزب الأقوى في التحالف وهو حزب فرنسا التي لا تخضع فضل الخيار الثاني، قائلا أن البرنامج عهد قدم للناخبين وأنه لا يجوز تعديل أي بند فيه. هذه المثالية المزعومة أخفت هدفا… وهو التسبب في أزمة حكم تدفع الرئيس إلي الاستقالة وإلي تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، فيي توقيت مثالي لليسار – الوسط غير جاهز لخوض الانتخابات الرئاسية… أما الحزب الاشتراكي فتردد لفترة.. بين انتهاز الفرصة للعودة إلي الحكم والتخلي عن برنامج يعوفون أنه ليس مثاليا، ولكنهم تبنوا منطق حزب فرنسا التي لا تخضع، زاعمين أن التحالف مع الرئيس المكروه خطيئة لن يغفرها الناخبون، وقال بعض المراقبين أن الحقيقة أن بعض رموز الحزب لا يستطيعون النجاح في دوائرهم دون أصوات فرنسا التي لا تخضع… وأن هذا يفسر القرار. أعيدت دراسة الخيارات بين حين والآخر – الحزب كان منقسما- ولكن الموقف ظل إجمالا كما هو.
من الصعب فهم تماما حسابات الرئيس. من الواضح أن موقف اليسار ساعده وأعطي له ذريعة لرفض تولي اليساريين تشكيل الحكومة، ولكن هذا الرفض سمح للكل بتوجيه إليه تهمة عدم احترام الديمقراطية ومحاولة الالتفاف علي نتيجة الانتخابات وعلي الاستمرار في سياسات رفضها الناخبون بأغلبية واضحة. ويقولون أن هذا الرفض يعود إلي سلطوية ميوله وليس إلي الأسباب الموضوعية، ويقول الرافضون لسلوكه أنه كان يتعين عليه تكليف مرشحة الجبهة الشعبية اليسارية برئاسة الحكومة، وترك البرلمان يسحب منها الثقة، ولكن هذا الكلام مردود…كما أسلفنا خاف الرئيس من اتفاق سري بين أقصي اليمين واليسار لإلغاء إصلاحاته.
تبني اليسار خط حزب فرنسا الأبية – رفض أي تنازل أي رفض ممارسة الحكم- سلم مصير الحكومة لحزب مارين لوبن ولليمين الجمهوري. تحالف الوسط لا يستطيع أن يبحث عن حلفاء علي يساره. فعليه الحصول علي موافقة ضمنية من مارين لوبن ووعد منها بإعطاء الحكومة الجديدة فرصة. وإظهارا لموازين القوة اعترضت مارين لوبن علي ترشيحين لرئاسة الحكومة في الأيام الماضية ونسف هذا الرفض فرصهم،
لماذا وصفنا المشهد بالغامض، كما أسلفنا لا نعرف إن كان الرئيس سيترك بارنييه يشكل الحكومة لوحده، وهل سينجح من يشكل الحكومة علي الجمع بين سياسات تنال رضا كل من اليمين المتطرف ويسار الوسط، وما هي طلبات مارين لوبن التي لن تتنازل عنها، وهل لها مصلحة في دفع الرئيس علي الاستقالة، وإلي جانبها وإلي جانب ميلانشون يريد الكثيرون في تكتل الوسط التخلص من الرئيس، ولكنهم يعلمون أن لا خليفة واضح له، كل من رأس الوزارة أثناء ولايته يريد الرئاسة.
فرنسا لا تملك إضاعة مزيد من الوقت، علي الحكومة الجديدة… التي لم تشكل بعد… إعداد أصعب ميزانية في تاريخ الجمهورية الخامسة، وهناك فصائل تريد العودة إلي الشارع