تعاني فنزويلا من سلسلة من الانهيارات الاقتصادية الحادة على مدار السنوات الماضية، متمثلة في تدهور قيمة العملة المحلية، والتضخم المفرط، فضلًا عن الصراع الداخلي بين الحكومة والمعارضة، والعقوبات الأمريكية المفروضة على قطاع النفط؛ مما دفع البنك المركزي لاتخاذ قرار بحذف ستة أصفار من “البوليفار” (عملة البلاد) بحلول الأول من أكتوبر المقبل.
متى بدأت الأزمة الاقتصادية؟
تختلف الأوساط الاقتصادية في الإجابة عن تساؤل: “متى وكيف انطلقت شرارة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في فنزويلا؟”، حيث يعتقد البعض أن بداية الأزمة كانت مع انهيار أسعار النفط العالمية عام 2014، والبعض الآخر يرجع جذور الأزمة إلى فرض العقوبات الأمريكية عليها.
ولكن تمتد الأزمة الفنزويلية -التي تُعتبر الأسوأ في تاريخ الدولة الحديث- منذ حكم الرئيس السابق “هوغو شافيز” في أواخر التسعينيات، والذي تبنى نظامًا اشتراكيًا قائمًا على توسيع صلاحيات الدولة في اقتصاد البلاد من خلال عمليات تأميم واسعة النطاق، وفرض مراقبة الدولة على جميع الأنشطة الاقتصادية. وبناءً على ذلك، قام “تشافيز” بتطبيق سياسات اجتماعية لا تقترن بأخرى اقتصادية، وتضمنت تلك السياسات إعادة توزيع الثروات على الطبقات الفقيرة، ورفع الحد الأدنى للأجور، وتحديد أسعار السلع الأساسية للفقراء، وتأميم العديد من الصناعات. وقد أدى ذلك إلى إغلاق بعض المصانع أبوابها بسبب تحديد الأسعار من ناحية، ورفع الحد الأدنى للأجور من ناحية أخرى، حتى أصبحت تكاليف الإنتاج تثقل كاهلها ولهذا خرجت من الأسواق، مما أدى بدوره إلى زيادة الاعتماد على الاستيراد.
وعلاوة على ذلك، اتّبعت الحكومة سياسة اقتصادية تعتمد على قطاع النفط بشكل أساسي على حساب القطاعات الاقتصادية الأخرى، كما عَوَّلَت على عائدات بيع النفط أو الاستدانة من الخارج لزيادة الإنفاق بوتيرة سريعة، وتمويل برامج اجتماعية وإصلاحية مُكلفة، فضلًا عن تمويل فاتورة الاستيراد المرتفعة دون اتخاذ قرارات تهدف إلى جذب الاستثمار وخلق قنوات متنوعة للدخل والنقد الأجنبي مما ساهم في ارتفاع معدلات التضخم.
وبلغت الأزمة ذروتها عندما تولى الرئيس “نيكولاس مادورو” مقاليد الحكم بحلول عام 2013، والذي سار على النهج الاشتراكي لسلفه الراحل “تشافيز”، وحينذاك بدأت الآثار السلبية التي اتبعها الرئيس السابق في التجلي، مما جعل “مادورو” يقف عاجزًا أمام علاج تداعيات الأزمة الاقتصادية.
مما سبق، يتضح أن الانتكاسات التي شهدتها فنزويلا في السنوات الماضية لا تزال مؤثرة حتى الآن، لا سيما في استمرارها كدولة ريعية تعتمد على النفط كمصدر رئيسي لدخلها القومي.
مسببات الانهيار الاقتصادي
برزت العديد من الأسباب المُساهمة بشكل رئيسي في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في فنزويلا، إلى جانب السياسات الاشتراكية الخاطئة التي اتبعها كلٌ من “تشافيز” و”مادورو” دون تغيير إيجابي في تلك السياسات، ومن أهم تلك الأسباب ما يلي:
1.إهمال قطاع النفط وتذبذب الأسعار:
تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي في العالم يُقدر بأكثر من 303 مليارات برميل، بما يمثل نحو 18% من حجم الاحتياطي العالمي، إضافة إلى امتلاكها موارد طبيعية ثمينة؛ كالغاز الطبيعي وخام الحديد والذهب والألماس ومعادن أخرى، ولهذا اعتمدت الدولة على القطاع في العديد من الأنشطة الاقتصادية –كما ذكرنا سابقًا- حيث يمثل النفط نحو 95% من عائدات صادرتها.
وأسفر هذا الاعتماد الكلي عن تأثر الاقتصاد الفنزويلي بشكل شديد جراء انخفاض أسعار النفط منذ 2014 وحتى 2016، مما أثر بشدة على احتياطي النقد الأجنبي، وأدى بدوره إلى زيادة نسب التضخم وتدهور قيمة العملة المحلية، وهو ما يتبين من الشكل التالي:
الشكل (1): تطور أسعار النفط الخام
ورغم تعافي أسعار النفط نسبيًا عقب عام 2016، إلا أن ذلك لم يُسهم في معالجة الخلل الاقتصادي بالبلاد، وذلك بسبب معاناة صناعة النفط المحلية من سوء الإدارة ونقص الاستثمار ومشكلات التدفق النقدي والبنية التحتية المتداعية، وكذلك نقص الصيانة الكلية، وضعف طاقة التكرير، فضلًا عن هروب الموظفين التقنيين إلى الدول الأخرى، مما نتج عنه هبوط الإنتاج. وقد نتج عن تلك المشكلات تراجع الإنتاج والتصدير كما يتضح من الشكلين التاليين:
الشكل (2): إنتاج فنزويلا من النفط يوميًا
يتضح من الشكل السابق تراجع إنتاج فنزويلا من النفط خلال عام 2020 بنحو 80.98% مقارنة بما كان عليه عام 2010.
الشكل (3): الصادرات النفطية
بلغ متوسط صادرات النفط الخام من فنزويلا حوالي 847 ألف برميل يوميًا، وهو المستوى الأدنى خلال القرن الحادي والعشرين، ويتبين من الرسم أن الاتجاه العام للصادرات يميل إلى أن يكون سالبًا، مما يعني مزيدًا من الانخفاض خلال السنوات المقبلة، ويعود جزء كبير من هذا التراجع –بجانب سوء إدارة القطاع- إلى العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد، وهو ما سنناقشه في النقطة التالية.
2. العقوبات الدولية:
بدأ البيت الأبيض في فرض عقوباته على نظام الحكم خلال عام 2013 لتشتد وطأتها عقب فوز “مادورو” بولاية ثانية بحلول عام 2018 حيث وقع الرئيس الأمريكي الأسبق “دونالد ترامب” مجموعة جديدة من العقوبات الاقتصادية على البلاد لتستهدف قطاع النفط، حيث حظرت واردات النفط الفنزويلي، والتعامل مع الديون والأوراق المالية التي تصدرها الحكومة وشركة النفط الوطنية، في محاولة لحرمان الحكومة من عوائد النفط بسبب “عدم شرعية الانتخابات”.
وتضمن عام 2019 فرض الإدارة الأمريكية العديد من العقوبات الاقتصادية التي تمثلت فيما يلي: فرض عقوبات جديدة على شركة النفط الحكومية “بدفسا”، وتجميد كل موجوداتها في الخارج، كما وسعت الولايات المتحدة نطاق العقوبات لتشمل الشركات الأمريكية والأجنبية التي تتعامل مع قطاعي الخدمات الأمنية والدفاعية.
وتبددت بوادر أمل لدى الحكومة الفنزويلية بتخفيف جزء من العقوبات التي ظهرت مع تولي “جو بايدن” مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، حيث أعلن البيت الأبيض في مارس الماضي تمديد نظام العقوبات المفروضة على البلاد حتى شهر مارس عام 2022؛ إذ إن الوضع الداخلي لا يزال يشكل تهديدًا للأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية.
وإلى جانب حكومات الولايات المتحدة، فرضت كندا وسويسرا وعدة دول أخرى بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي عقوبات فردية على أشخاص وكيانات بعينها ترتبط بالنظام الرئاسي.
3. النزاع السياسي الداخلي:
لا يُمكن تحليل أسباب أي أزمة اقتصادية دون الخوض في أبعادها السياسية، ولا يزال النزاع على السلطة في فنزويلا مشتعلًا منذ عام 2019 عقب إعلان رئيس البرلمان “خوان غوايدو” نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد بدعم من المعارضة التي تسيطر على الجمعية الوطنية بحجة تزوير الانتخابات الرئاسية عام 2018.
وقد تباينت ردود الفعل الدولية إثر هذا الإعلان، حيث اعترفت الإدارة الأمريكية وقتها وكندا وعدد من دول أمريكا اللاتينية وأوروبا بحكم “غوايدو”، في حين دعمت قوى أخرى كروسيا والصين تمسك “مادورو” بالسلطة ورفضه الشديد التنحي عنها.
مؤشرات وتداعيات
ألقت جميع الأسباب السابقة بظلالها على الحياة الاقتصادية في البلاد وكذلك على حياة المواطن اليومية، وهو ما أدى إلى اتخاذ الحكومة قرارات طارئة في محاولة للسيطرة على التدهور الاقتصادي، وهو ما سيتم استعراضه خلال السطور القادمة:
1. تداعيات اقتصادية:
شهدت فنزويلا ترديًا في جميع مؤشراتها الاقتصادية الكلية الداخلية والخارجية ابتداءً من معدل النمو والتضخم وحتى انهيار الاحتياطي النقدي وتخلفها عن سداد الديون، كما يتضح من الأشكال التالية.
الشكل (4): معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي
يتبين من الشكل انكماش الاقتصاد الفنزويلي بنحو 35% عام 2019 وبنحو 30% خلال عام 2020.
الشكل (5): نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي
يوضح الشكل انخفاض نصيب الفرد من الناتج بنحو 84.84% ليسجل 1.6 ألف دولار بحلول عام 2020 مقارنة مع 12.18 ألف دولار خلال 2011.
الشكل (6): معدل التضخم السنوي
الشكل (7): الرقم القياسي لأسعار المستهلكين
يتضح من الشكلين (5) و(6) مدى معاناة الشعب الفنزويلي من التضخم المفرط، حيث ارتفع الرقم القياسي لأسعار المستهلكين من 17.38 مليار نقطة خلال يناير 2020 إلى 1.19 تريليون نقطة بحلول مايو 2021.
الشكل (8): سعر صرف البوليفار الفنزويلي
في العام الماضي خسرت عملة البوليفار الفنزويلي 95.7% من قيمتها، ثم تدهورت مجددًا مطلع 2021 لتفقد 38.14%، ومقابل هذا التدهور المتواصل في العملة والتضخم المفرط، يلجأ الشعب إلى استخدام الدولار، مما يزيد الطلب على العملة الأجنبية.
الشكل (9): نسبة الدين الحكومي للناتج المحلي الإجمالي
من الشكل يتبين مدى اعتماد الحكومة الفنزويلية في السنوات الأخيرة على الاستدانة لتمويل أوجه الإنفاق الأساسية لترتفع نسبة الدين الحكومي للناتج من 25% عام 2010 إلى 304.1% عام 2020 بنسبة زيادة تبلغ 279.1%. وفي عام 2017 أكدت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني أن فنزويلا في حالة تخلّف جزئي عن سداد ديونها بعد فشلها في تسديد دفعات مستحقة على سنداتها السيادية.
2.تداعيات اجتماعية:
نتج عن كل ما سبق تدهور حاد أيضًا في المؤشرات الاجتماعية التي تمسّ المواطن الفنزويلي، ولهذا تجاوزت نسبة الأسر التي تعيش تحت خط الفقر نسبة 90% منذ عام 2017، بالإضافة إلى ذلك، يعيش 64% من إجمالي الأسر في ظروف الفقر المدقع بحلول 2020، كما يوضح الشكل الآتي:
الشكل (10): نسبة الأسر التي تعيش تحت خط الفقر
ومع ارتفاع الفقر، لا سيما مع ارتفاع التضخم وانهيار القوة الشرائية، قفز مؤشر الجوع في البلاد منذ عام 2012 وحتى 2020 بنحو 15.9 نقطة، وهو ما يتضح من الشكل التالي:
الشكل (11): مؤشر الجوع الفنزويلي
وفي ضوء هذه الظروف الحالكة، بلغ عدد اللاجئين والمهاجرين من البلاد حوالي 5.4 ملايين فرد، مما يجعلها واحدة من بين أكبر أزمات النزوح حول العالم.
3. قرارات غير مجدية:
وفي محاولة لمواجهة هذه الأزمة، اتخذت الحكومة عدة قرارات ولكنها لم تساهم في تغيير الوضع، بل إنه ازداد سوءًا، ومن أبرز تلك القرارات:
- زيادة الحدّ الأدنى للأجور ثلاثة أضعاف، لكن حتّى بعد هذه الزيادة لا يزال هذا الأجر غير كافٍ لشراء الاحتياجات اليومية الأساسية.
- طباعة أوراق نقدية جديدة من فئة 200 ألف و500 ألف ومليون بوليفار، وإطلاق عملة رقمية “البوليفار الرقمي بحلول أوائل أكتوبر المقبل، بعد فشل التعامل بعملة “بترو” الرقمية التي تم إطلاقها عام 2018.
- بيع جزء لا يُستهان به من احتياطي الذهب في البنك المركزي كي تدفع مستحقات الديون أو لشراء الاحتياجات الأساسية من السلع لتنخفض الاحتياطيات الدولية إلى أدنى مستوى لها منذ ثلاثين عامًا عند 6.63 مليار دولار في يناير الماضي.
وفي الختام، ينبغي الإشارة إلى أهمية التحرك الحكومي العاجل لإنقاذ الاقتصاد الفنزويلي عبر اتخاذ قرارات إصلاحية هيكلية كاستعادة مكانة القطاع الخاص، ومحاولة التوصل إلى حل للخلاف مع القوى الدولية حتى يتم فك الحصار المفروض حول قطاع النفط، بالتوازي مع توصل الحكومة والمعارضة إلى حل وسط يتمثل في إجراء انتخابات جديدة، فضلًا عن الاتجاه بشكل جدي للبحث عن مصادر متنوعة للدخل، ووضع سياسات اقتصادية جديدة مختلفة عن سياسات الرئيس السابق والحالي.