في 14 يوليو الماضي تم إطلاق ما يسمى بصفقة أوروبا الخضراء، حيث تبنت المفوضية الأوروبية مجموعة من التشريعات التي تهدف إلى الوصول إلى مناخ متعادل في الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2050، مرورًا بهدف إنقاص الانبعاثات الكربونية بنسبة 55% بحلول عام 2030. ومن أهم هذه التشريعات ما يخص قطاع النقل، حيث تهدف الصفقة إلى أنه بحلول عام 2030 يكون على الطرق والشوارع في أوروبا أكثر من 30 مليون سيارة عديمة الانبعاثات، وبحلول عام 2035 تكون الطائرات عديمة الانبعاثات في المتناول.
مشهد السيارات الكهربائية عالميًا
طبقًا لتقرير “بلومبرج نيو إنرجي فينانس” (وهي منظمة بحثية في مجال الطاقة تابعة لمؤسسة بلومبرج الشهيرة) عن مشهد الطاقة العالمي لعام 2021، وفي الجزء الذي تناول حجم سوق السيارات الكهربائية من حجم السيارات عامة؛ فإن أكبر المركبات الكهربائية انتشارًا هي الدراجات الكهربائية، فهي تستحوذ على 44% من حجم سوق الدراجات بواقع 260 مليون دراجة كهربائية تقريبًا، تليها الحافلات الكهربائية التي تمثل 39% من السوق بواقع 600 ألف حافلة كهربائية، ثم سيارات الركاب الكهربائية التي تمثل 4% من السوق بواقع 10 ملايين سيارة، ثم سيارات النقل الخفيف فالكهربائية منها تمثل 1% بواقع 400 ألف، وأخيرًا الشاحنات والنقل الثقيل التي ليس لها أي نصيب بعد.
السبب في رغبة الدول في تحويل صناعة السيارات من تقليدية إلى كهربائية أن سيارات الركاب تستهلك 27% من الطلب على النفط عالميًا، من إجمالي 100 مليون برميل يتم استهلاكها يوميًا طبقًا لإحصائيات “ريستاد إنرجي” عام 2019، وهي أكبر نسبة من بين أوجه استهلاك الطاقة البترولية الأخرى. لذا تم التركيز على وسائل النقل وصناعة السيارات ضمن جهود تقليل الانبعاثات الكربونية، ومن ثم تقليل الاحتباس الحراري.
وفي هذا السياق، وضع كثير من المؤسسات العالمية، مثل: الأمم المتحدة، وشركات البترول العالمية مثل (بي بي وإكسون موبيل)، ومؤسسات بحثية أخرى؛ سيناريوهات لتطور مشهد الطاقة عام 2050، ومن أبرز هذه السيناريوهات ما قرره “بلومبرج نيو إنرجي فينانس” فيما يخص التحول من السيارات التقليدية إلى غير التقليدية (هيدروجينية أو كهربائية)، حيث اقترح توقعين: إما تغير اقتصادي والذي تحكمه فقط عوامل اقتصاديات السوق. والتوقع الآخر هو التغير نحو صفر انبعاثات، وهو رؤية أكثر صرامة، ويحقق نجاحًا أكثر من ناحية المناخ، وهو يتطلب دعمًا سياسيًا وتشريعيًا من الحكومات ليتغلب على قوى السوق.
وأضافت شركة “بي بي” البريطانية توقعًا ثالثًا أكثر نجاحًا من السابقين مدعومًا بوعي المستهلكين ورغبتهم في الإنفاق أكثر مقابل بيئة أنظف.
ويتوقف انتشار السيارة الكهربائية على عدة عوامل، أبرزها قبول الشركات المصنعة لهامش ربح أقل، واستعداد المستهلك لأن يدفع أكثر مقابل اقتنائه سيارة صديقة للبيئة، أو بمعنى آخر وعي عام بين الجماهير بخطورة الاحتباس الحراري. ومع التقدم التكنولوجي فإن سعر بطاريات السيارات الكهربائية في انخفاض مستمر، وكفاءتها في تقدم مستمر، مما يعني أنها ستصبح منافسًا قويًا للسيارات التقليدية في غضون السنوات الست القادمة طبقًا لتوقعات مبادرة كربون تراكر.
السيارات الكهربائية حل لمشكلة الانبعاثات أم سبب لمشكلة أكبر؟
الإجابة عن هذا التساؤل لا بد أن تسبقها دراسة مستفيضة، خصوصًا عن مصادر توليد الطاقة الكهربائية. صحيح أنه طبقًا لسيناريو التحول الاقتصادي فإن السيارات الكهربائية بحلول 2050، ستتطلب 5000 تيرا وات في الساعة إضافة على الطلب الحالي للكهرباء؛ إلا أن مصادر الوقود المستخدمة في توليد الكهرباء أصبحت أكثر مواءمة مع البيئة، فدخلت الطاقة الشمسية والرياح والطاقة النووية لتحل محل المصادر غير النظيفة، مثل النفط والفحم، فطبقًا لبحث علمي عن دراسة حالة في أسكتلندا فإن الانبعاثات الكربونية الناتجة عن ازدياد الطلب على الكهرباء بسبب تحويل السيارات الخفيفة فقط من تقليدية إلى كهربائية هو 0.47 ميجا طن ثاني أكسيد الكربون في السنة مقارنة بالانبعاثات الحالية من السيارات التقليدية والمقدرة بـ 3.6 ميجا طن في السنة، فإذا تم تحويل كل السيارات إلى كهربائية فإن ذلك قد يسبب نقصًا في الانبعاثات بنسبة تصل إلى 33.7%. وعلى صعيد آخر، أُجريت دراسة مماثلة لكن في الصين، فوجد أن انبعاثات الكربون لن تقل بشكل ملحوظ مع طفرة السيارات الكهربائية بسبب أن مصادر توليد الكهرباء لا تزال غير نظيفة مقارنة بالوضع في أسكتلندا.
تأثير انتشار السيارات الكهربائية على قطاع النفط
في 23 سبتمبر 2020، أصدر حاكم ولاية كاليفورنيا قرارًا تنفيذيًا يمنع فيه بيع سيارات محرك الاحتراق الداخلي، أو قيادة هذا النوع من السيارات على طرقها، بدءًا من عام 2035. وفي الشهر نفسه، أصدر الاتحاد الأوروبي قرارًا مماثلًا. ويشكل هذا القرار مرحلة انتقالية مهمة في الصناعة العالمية؛ إذ إنه يهدد إنتاج سيارة محرك الاحتراق الداخلي التي تم اختراعها في أوائل القرن العشرين. لقد أدت هذه القرارات إلى احتدام الصراع بين أيقونات الوقود الأحفوري (النفط والفحم) من ناحية وبين مناصري فكرة السيارات الكهربائية وقضية المناخ عمومًا من ناحية أخرى. فمناصرو الوقود الأحفوري يضغطون على الكونجرس ليقطع التسهيلات الضريبية على السيارات الكهربائية، ويضغطون على صائغي القانون لزيادة أسعار السيارات الكهربائية.
إضافة لما سبق، فإن مناصري الوقود الأحفوري مثل أوبك وغيرها لا يزالون يؤمنون بأن الوقود الأحفوري سوف يظل عصب الصناعة لعقود عديدة قادمة، ولن يستطيع البشر التخلي أبدًا عن صناعة النفط، إن لم تكن في الطاقة ففي البتروكيماويات. ومن غير المتصور أن يأتي اليوم الذي يستغني فيه البشر تمامًا عن النفط، على الأقل لعدة قرون مقبلة، لأنه بغض النظر عن أن النفط أرخص مصادر الطاقة الموجودة حاليًا، فتكلفة استخراج برميل نفط واحد في السعودية لا تتعدى 10 دولارات أمريكية، فهو يمثل العصب في صناعات كثيرة تقوم على مشتقات النفط مثل: صناعات الدواء، والمعادن، ومواد البناء، وتعليب الطعام، والملابس، والأسمدة، ومستلزمات السيارات الكهربائية، وصناعة الطاقة المتجددة.
السيارات الكهربائية واقتصادات دول النفط
لقد زاد عدد السيارات الكهربائية بنسبة 60% في عام 2020، وهي نفس النسبة التي كانت سيارة فورد تزيد بها حتى حققت انتصارها الساحق على عربات الخيول بحلول عام 1915! فيبدو أن سيارة البنزين التقليدية تسير إلى نفس مصير عربات الخيول، وهو مصير الانقراض، رغم أن باحثي “أندستري وييك” (وهي منصة أمريكية ذات إصدارات شهرية في مجال البزنس) يرون أن الطلب على البترول سيزيد في الدول النامية، خصوصًا مع هبوط أسعار النفط المرتقبة، إلا أنه في آخر الأمر -كما يرى باحثو بولمبرج نت إنرجي فينانس- فإن التطور في صناعة السيارات الكهربائية سيسبب في عام 2023 نقصًا في الطلب على النفط العالمي بمقدار 2 مليون برميل في اليوم، أما في عام 2050، وباتباع نموذج التحول الاقتصادي السابق ذكره، فإن النقص في الطلب على النفط سيبلغ 21 مليون برميل في اليوم، مؤديًا في آخر الأمر إلى هبوط حاد في أسعار النفط، مكررًا مأساة اقتصادية أخرى كالتي ألمت بالعالم عمومًا ودول الخليج خصوصًا في 2014.
في عام 2014 حدثت أزمة نفط بدءًا من عام 2010، حيث زاد العرض بسبب اكتشاف النفط الصخري في الولايات المتحدة وكندا، بالإضافة إلى تأجيج الصراع الجيوسياسي بين الدول المنتجة للنفط، إضافة أيضًا إلى النقص في الطلب بسبب التدهور في الاقتصاد الصيني، فضلًا عن سياسات المناخ، وكل هذا أدى إلى هبوط حاد في أسعار النفط عالميًا من 120 دولارًا للبرميل إلى ما يقرب من 20 دولارًا فقط للبرميل. وقد هز هذا الهبوط الحاد اقتصاد الدول النفطية، وخاصة دول الخليج، فطبقًا لدراسات صندوق النقد الدولي فإن الناتج المحلي الإجمالي في قطر قد انخفض 14% بسبب الأزمة، وانخفضت نسبة عائدات النفط في الناتج المحلي الإجمالي من 38% قبل الأزمة إلى 12% بعدها.
وفي بحث علمي نشر في الأسكوا (وهي المنظمة الاقتصادية والاجتماعية للأمم المتحدة في غرب آسيا) بخصوص آثار أزمة 2014 وأثرها على اقتصاديات الدول العربية، فمن المتوقع أن يحدث سيناريو مشابه مع طفرة السيارات الكهربائية، حيث يتوقع أن تهتز اقتصاديات الدول المصدرة للنفط، خصوصًا السعودية وعمان، ووجد الباحثون أنه بهبوط أسعار النفط فإن الاستثمار الكلي في السعودية قد يهبط بنسبة 35% في السنة التالية من الأزمة، والناتج المحلي الإجمالي قد يهبط بنسبة 12%. أما عن البطالة فمع هبوط أسعار النفط بنسبة 10% تقريبًا فإن معدل البطالة يزيد بنسبة 4.7% في السنة التالية.
ورغم كل السلبيات الاقتصادية النفطية المحتملة مع طفرة السيارات الكهربائية، فإن هذه القراءة هي من منظور نفطي فقط، أو بمعنى آخر فإن صناعة النفط قد تتدهور ولكن هذا لا يعني تدهور الاقتصاد الكلي، لأن السيارات الكهربائية قد تُنشئ اقتصادًا موازيًا ناشئًا عن صناعه السيارات الكهربائية والصناعة المرتبطة بها، مثل صناعة الليثيوم وسائر مكونات البطاريات الكهربائية، فطبقًا لكتاب “خلق اقتصاد طاقة نظيف” الصادر عن المجلس الدولي للتنمية الاقتصادية، فإن سوق السيارات الكهربائية سيخلق 86265 وظيفة كل عام، وبحلول عام 2030 سيكون هناك قرابة المليون وظيفة في قطاع السيارات الكهربائية بالولايات المتحدة الأمريكية. أما عن شركات البترول فإنها قد تستغل خبرتها السابقة في إدارة محطات الإمداد بالوقود، وتمويل وتأجير السيارات الكهربائية وتخطيط المدن الذكية، أي إن على شركات البترول من الآن أن تدرس إمكانية تغيير أو تحويل عملها إلى شكل يتوافق مع الصناعة القادمة.
السيارات الكهربائية في مصر
تبذل القيادة السياسية قصارى جهدها لمواكبة الجهود العالمية نحو التحول الأخضر باستخدام أحدث التقنيات، حيث اجتمع الرئيس “السيسي” مع رئيس الوزراء ووزير قطاع الأعمال ووزيرة التجارة والصناعة ومدير جهاز مشروعات الخدمة الوطنية في عام 2020 في مبادرة نحو توطين صناعة السيارات، خصوصًا الكهربائية منها، وكان أهم مخرج من مخرجات هذه المبادرة هو السيارة الكهربائية (نصر E70) المزمع إنتاجها في شركة النصر للسيارات خلال النصف الثاني من عام 2022، بالإضافة إلى خطة إنشاء وتشغيل 3 آلاف محطة لشحن السيارات الكهربائية خلال 2023. كان هذا متزامنًا مع تحويل 1.8 مليون مركبة تعمل بالوقود التقليدي للعمل بالغاز الطبيعي بتكلفة 230 مليار جنيه استغلالًا لزيادة إنتاج الغاز الطبيعي.
وعلى الرغم مما سبق، إلا أن مصادر الطاقة المستخدمة في توليد الكهرباء -طبقًا لرؤية 2030- هي (النفط بنسبة مساهمة 91%، الكهرومائية 8%، والشمسية والرياح 1%)، وطبقًا لأهداف التنمية المستدامة المعلنة في رؤية 2030 فإن الحكومة تسعى إلى أنه بحلول 2030 تكون مصادر الطاقة المستخدمة في توليد الكهرباء (نفط 27%، كهرومائية 5%، طاقة شمسية ورياح 30%، فحم 29%، نووية 9%)، فطبقًا لهذا التقسيم الحالي أو المرتقب فإن مصادر الطاقة ليست نظيفة بالحد الكافي الذي يجعل من تحويل سوق السيارات في مصر من تقليدي إلى كهربائي أمرًا كافيًا لتقليل الانبعاثات الكربونية.
أخيرًا، يمكن القول إن مصر ستتأثر بشكل كبير بتأثير طفرة السيارات الكهربائية على الطلب العالمي على النفط، فمع ركود الطلب وهبوط الأسعار فمن المتوقع لمصر كمستورد للنفط أن تقتنص الفرصة وتعزز من استيرادها بالسعر المنخفض مما ينعش حركة الصناعة الداخلية، ويزيد من سوق السيارات التقليدية، ويزيد من الانبعاثات الكربونية، حال مصر حال سائر الدول النامية المستوردة للنفط، وتتأثر مصر تأثرًا طفيفًا بالركود الاقتصادي المتوقع في دول الخليج المعتمدة بشكل كبير في ميزانيتها على النفط، حيث سيقل الطلب على العمالة المصرية في الخليج، ويقل الدور الاستراتيجي الذي تلعبه بعض دول الخليج في تشكيل سياسات الشرق الأوسط، مما قد يؤدي في آخر الأمر إلى إعادة هيكلة علاقات القوى في المنطقة، ويظل الأمر كذلك حتى تكتسب مصر قوة اقتصادية وصناعية تمكن حكومتها من فرض تشريعات لحماية المناخ وتقليل الانبعاثات الكربونية، خاصة مع ارتفاع مستويات الدخل، وزيادة الوعي الشعبي بأهمية الحفاظ على البيئة.