استكمالا لما تناولناه فى المقال السابق من عرض تقرير التنمية البشرية فى مصر 2021 والذى جاء تحت عنوان «التنمية حق للجميع: مصر المسيرة والمسار» نعرج إلى تناول الأجزاء الخاصة بالإصلاح الاقتصادى، حيث اشار التقرير إلى ان مصر بدأت فى العمل على مسارين متوازيين تمثل المسار الاول فى القضاء على الارهاب وإعادة إرساء اركان الدولة المصرية وتقويتها، اما المسار الثانى فكان الانطلاق وبقوة فى مسيرة التنمية بكل جوانبها مع التركيز بصفة خاصة على تدشين عدد من المشروعات القومية الكبرى لإقامة وتدعيم بنية تحتية قوية تستند عليها جميع الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. ولذلك تمثلت الرؤية الاقتصادية فى تطويرالبنية التحتية للدفع بالتنمية وتوفير خدمات اكثر وافضل للمواطنين مع التحيز للطبقات الفقيرة،كما يتجلى فى مشروعات الإسكان الاجتماعى وتقليص حجم العشوائيات وبرامج الحماية الاجتماعية. فيما يعدمحاولة لمراعاة التوازن بين اعتبارات التنمية الشاملة فى الأجل الطويل والمشكلات المعيشية الملحة وتحسين احوال المواطنين فى الأجل القصير.
من هذا المنطلق ركزت السياسة المالية على تحقيق الانضباط المالى ووضع معدلات العجز والدين العام فى اتجاه نزولى، من خلال ترشيد الإنفاق العام وإعادة ترتيبه وزيادة الايرادات العامة. وكذلك زيادة مخصصات الحماية الاجتماعية والتوسع فى البرامج الأكثر استهدافا للفئات الاولى بالرعاية، جنبا الى جنب مع التوسع فى تطبيق موازنة البرامج والاداء وتطوير منظومة ميكنة ادارة المعلومات المالية الحكومية. ويشير التقرير الى عدد من الظواهر المهمة يأتى على رأسها تناقص القروض المقدمة للقطاع الخاص من جانب الجهاز المصرفى، نتيجة لتفضيل الثانى الاستثمار فى أذون الخزانة. وكذلك كبر حجم اقتراض القطاع العائلى بالعملة المحلية وتزايده بشكل يفوق الاقتراض الحكومى، وهو اقتراض موجه للاستهلاك اساسا، الأمر الذى يستدعى دراسة تأثيراته الاقتصادية والاجتماعية، خاصة مع انخفاض كل من متوسط دخل الفرد ومعدلات الادخار وانتشار مظاهر الاستهلاك الترفى، الذى عادة مايعتمد على السلع المستوردة، مما يؤدى لزيادة عجز الميزان التجارى. فضلا عن ان الواردات الوسيطة والاستهلاكية تشكلان معا أكثر من نصف الواردات وهو مايستوجب اهتمام سياسة التصنيع بالعمل على إحلال جزء كبير من هذه الواردات لتلبية احتياجات السوق المحلية وتخفيف الضغط على الميزان التجارى. كما يشير التقرير إلى التزايد الكبير فى الاستثمارات الخاصة بمجال الاسكان والعقارات وبخاصة الإسكان الفاخر فى المجمعات السكنية. وعدم نمو الاستثمار فى الصناعة بالمعدلات المطلوبة، وهو ما أدى إلى تواضع نمو الصناعة مقارنة بالقطاعات الاخرى. ويرى التقرير ان الانطلاق التنموى فى مسار قابل للاستمرار يتطلب حجما معينا من الاستثمارات فى البنية الاساسية يسبق، او يتواكب مع، الاستثمار فى الأنشطة الانتاجية والخدمية الاخرى. وهو ما تبنته الدولة ومع قصور موارد التمويل فان البحث عن آليات تمويل متعددة ومتنوعة وغير تقليدية كان له مايبرره. اذ ان النظرية والواقع يشيران الى ان مشروعات البنية التحتية هى التى تمهد الطريق لجميع الانشطة الانتاجية والاستثمار فيها من جانب المستثمر المحلى والأجنبى. وفى الوقت نفسه فان الاستثمار على نطاق واسع فى البنية الاساسية ينشط الطلب المحلى، كما يؤدى الى تشغيل أعداد كبيرة من العمالة، مما أدى الى زيادة الدخول ومن ثم ايجاد طلب فى السوق وإنعاش حركة الإنتاج والاستثمار مما اسهم فى دفع عجلة التنمية نتيجة مضاعفة الدخول والطلب. هذا فضلا عن ان تدخل الدولة جاء لتعويض نقص المدخرات وعدم قدرة القطاع الخاص على الاستثمارفى البنية التحتية. ورغم ذلك فهناك العديد من التحديات للاستمرار فى مسار التنمية تتمثل فى مشكلة التمويل ومحدودية الموارد المحلية وانخفاض معدلات الادخار وعدم تدفق الاستثمارات الأجنبية بالمعدلات المطلوبة والمتوقعة، ومما يزيد من تعقيد المشكلة ارتفاع عجز الموازنة العامة للدولة، وهنا نلحظ ان التقرير غالبا ما يتحدث عن العجز النقدى، ولا يتحدث عن العجز الكلى فى الموازنة ، كما انه يستخدم بيانات مشروع الموازنة احيانا ويستخدم بيانات الموازنة المعتمدة احيانا أخرى، وأيضا بيانات الحسابات الختامية وكلها عن نفس السنوات، لذا كان من الأفضل والأدق الاعتماد على البيانات الختامية والحديث عن العجز الكلى للموازنة. كما يشير التقرير الى تواضع معدلات نمو الصناعة والاستثمار فى التصنيع بصفة خاصة من جانب القطاع الخاص. كما ان القطاعات الثلاثة الأكثر مساهمة فى الناتج المحلى الاجمالى وهى الصناعات التحويلية والزراعة وتجارة الجملة والتجزئة ليست هى القطاعات الاكثر نموا، بل كانت الاقل نموا مما أثر بالسلب على النمو الاقتصادى. يضاف الى ذلك استمرار التفاوت الكبير فى الدخول الذى يعد من أكبر التحديات التى يجب مواجهتها، وهو ما يتطلب الأخذ بتصاعدية الضريبة وزيادة حد الإعفاء الضريبى. مع ضرورة وضع سياسة واضحة وتعامل اقوى مع الاختلالات الجغرافية القائمة، التى أبرزها التعداد الاقتصادى الذى اجراه الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء، خاصة بالنسبة لمحافظات الصعيد.كما يجب العمل على الحد من الارتفاع المتزايد فى الدين العام، الداخلى والخارجى، والذى نتج عنه ارتفاع فى خدمته والمزيد من العبء على الموازنة، من خلال تعزيز إدارة الدين العام للسيطرة على هذا الارتفاع، بالاضافة الى تعزيز ادارة المخاطر وبناء القدرات الخاصة بها، وكذلك رفع القدرات المتعلقة بالتحليل والتوقعات المالية. وهو ما يقتضى تغيير بعض الاولويات وزيادة نسبة الإنفاق على الصحة والبحث العلمى والبيئة، وايضا الاهتمام بالانشطة السلعية، خاصة الزراعة والصناعة التحويلية والطاقة، لتأمين حد أدنى من الاكتفاء الذاتى من السلع الاستراتيجية. مع العمل على دفع الاستثمارات الخاصة لهذه المجالات عن طريق توسيع نطاق المشاركة فى إطار مؤسسى دائم.