قبل خمسة أيام اكتمل العام الأول للحرب فى إقليم تيجراى، وبدأ العام الثانى للحرب ولكن فى عموم إثيوبيا، وهنا يبدو الفارق بين البداية وبين نهاية تبدو قريبة، لا تتعلق بتسوية أوضاع إقليم بعينه من بين الأقاليم التسعة التى تتكون منها الفيدرالية الإثيوبية، بل بتسوية جديدة لنظام الحكم فى عموم البلاد. هذا ما يَعد به إعلان تأسيس “الجبهة الموحدة” الذى تم توقيعه بين ممثلى تسع منظمات مسلحة فى واشنطن فى يوم ذكرى مرور عام على الحرب، فى دلالة على أن الأمر تجاوز الصراع بين الحكومة المركزية فى أديس أبابا والجبهة الشعبية لتحرير تيجراى، ليصبح صراعا بين مكونات الجبهة، وبين حزب الازدهار الذى أسسه رئيس الوزراء آبى أحمد قبل عامين بغرض تحويل نظام الحكم من فيدرالية تمنح الأقاليم المختلفة سلطات موسعة كحكم ذاتى، إلى نظام حكم مركزى تتم إدارته من قبل أديس أبابا.
فى إعلان الجبهة الموحدة التى تضم حركات مسلحة من عرقيات مختلفة ابرزها الأرومو والعفر والتيجراى وسيداما وبنى شنقول والصوماليون، إشارات محددة إلى منهج العمل إذا تمت السيطرة على العاصمة فى غضون أسابيع أو أشهر، أبرزها تشكيل حكومة انتقالية، واحترام حقوق الإنسان بشكل فعلى، وإجراء مصالحة وطنية، والعودة الى دستور 1995 دون أى تعديلات أجريت عليه، بحيث تتمتع كل الاقاليم بحق تقرير المصير إذا أرادت اختبار الاستقلال عن الدولة الإثيوبية، ومحاكمة قادة الحكومة وحلفائهم، وإنهاء وجود حزب الازدهار الحاكم.
ويمثل هذا المنهج القاسم المشترك بين ممثلى العرقيات المختلفة التى تعتبر حكومة آبى أحمد ناقضة للعهود ومسئولة عن تلك المظالم التى تعرضت لها عرقيات البلاد المختلفة، ناهيك عن مسئوليتها المباشرة عن الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان التى ترقى إلى جرائم حرب، والتى حدثت فى إقليم تيجراى فى الفترة من نوفمبر 2020 حتى يوليو 2021، وفقا لتقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة الصادر الأسبوع الماضى، وانتهى إلى هذه النتيجة مُحملا المسئولية لكل أطراف الصراع.
وعلى أى حال فإن سيطرة الجبهة الموحدة على أديس أبابا لا تبدو عملية سهلة رغم تقدم القوات الموالية لأهم مكونين فى هذا التحالف، وهما مقاتلو التيجراى ومقاتلو الاورومو، اللذان يشكلان العنصر الحاسم فى القتال والتقدم نحو العاصمة، لاسيما بعد السيطرة على ثلاث من كبريات المدن شمال أديس أبابا، وهى ديسى وكيميسى وكومبولشا، والواقعة فى إقليم الأمهرا، والتى تعود أهميتها إلى سببيْن رئيسييْن, الأول هو قرب المدن الثلاث من الطريق الدولى الواصل بين أديس أبايا وجيبوتى والمعروف باسم «أيه وان»، والذى تنقل عبره السلع الرئيسية من وإلى جيبوتى بغرض التصدير والاستيراد، ومن شأن السيطرة الكاملة على هذا الطريق أن يتم عزل أديس أبابا وفقدانها أحد أهم طرق تواصلها مع العالم الخارجى.
والثانى أن التقدم العسكرى لقوات التيجراى والأرومو فى ظل عدم وجود أى مؤشرات على إمكانية الدخول فى مفاوضات سياسية بين الحكومة المركزية وقوات المعارضة المسلحة، من شأنه أن يفاقم المواجهة العسكرية، وأن يزيد من حجم الأزمة الإنسانية التى يعانيها السكان فى مناطق الصراع دون إمكانية فعلية لمنظمات الإغاثة لتقديم أى مساعدات ذات مغزى.
ورغم أن المبعوث الأمريكى جيفرى فيلتمان يعمل على وقف إطلاق النار وبدء مفاوضات بين طرفى الصراع، لكن لا توجد شواهد على نجاحه فى هذا المسعى. وتبدو العقدة الرئيسية فى أن طرح فيلتمان يبدأ بقبول الحكومة المركزية العودة إلى أوضاع ما قبل الحرب، أى وضع الحكم الذاتى الموسع لتيجراى مع تقديم التعويضات المناسبة للسكان هناك، وهو ما ترفضه حكومة آبى أحمد لأنه يُعد اعترافا منها بالمسئولية عن الصراع، ويناقض كل دعايتها بأن حركة تحرير تيجراى منظمة إرهابية لا يجوز التعامل معها، بل محاربتها والقضاء على قاداتها وأعضائها. والواضح أن أقل من هذه البداية التى يطرحها فيلتمان كأساس لأى مفاوضات لا يشكل إغراء لحركة تحرير تيجراى وحلفائها للدخول فى مفاوضات سياسية مع حكومة آبى أحمد، فى الوقت الذى تحرز فيه تقدما عسكريا يقربها من دخول العاصمة يوما بعد آخر، ومن ثم فرض إرادتها كاملة على البلاد بمشاركة مع حركات تحرير أخرى تؤمن بضرورة إسقاط الحكومة وليس التفاوض معها.
الوضع على هذا النحو يزداد تعقيدا وصعوبة، ويغيب عنه الاتحاد الإفريقى، إذ لا تبدى لجانه ومؤسساته أى إشارة إلى رغبتها فى التدخل لاحتواء صراع يهد وحدة دولة المقر للاتحاد، والثابت أن قادة أفارقة تحدثوا إلى رئيس الوزراء آبى أحمد للتدخل كوسطاء لإنهاء الوضع المتفجر فى إثيوبيا، ولكنه رفض أى وساطة متمسكا بهدفه فى إنهاء هذه التمردات العسكرية بالقوة، فى وقت يلاحظ فيه مراقبون أفارقة وغيرهم أن الجيش الإثيوبى الآن يعانى حالة انشقاقات داخلية ورفض ضمنى للاستمرار فى حرب، يراها كبار القادة أنها عبثية وتضر بالبلاد، وأن حل الأزمة يتطلب تصرفا سياسيا شاملا وليس عسكريا.
وتدل دعوة آبى أحمد لسكان العاصمة أديس أبابا إلى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وعن المدينة، على أن قدرة الجيش الإثيوبى فى صد أى تقدم عسكرى للتيجراى والأرومو وحلفائهما ليست مضمونة، خاصة فى ضوء المعلومات المُسربة بأنه تم اعتقال عدد من كبار القادة يرفضون مبدأ الحرب ضد شعبهم، وتمرد أعداد من الجنود وانضمامهم لقوات التيجراى والأرومو.
وحدة إثيوبيا الآن على المحك، ودماء شعبها معرضة للإسالة أكثر وأكثر، ودخول قوات التيجراى والأرومو للعاصمة أديس أبابا لا يعنى أبدا أن الحملة ستكون سريعة، بل المؤكد أن دماء بريئة سوف تُسال على الأرصفة والمبانى، والاحتقان بين العرقيات سوف يصل إلى عنان السماء. أما حكمة الساسة فهى غائبة تماما.