تُمثل الاستجابات المختلفة للحركات والفصائل الفلسطينية لدعوة الرئيس الجزائري “عبد المجيد تبون” لعقد اجتماع يضم كافة الفصائل الفلسطينية في السادس من ديسمبر 2021 نقطة حيوية في خضم الملف الفلسطيني، وورقة مكملة وداعمة للجهود المصرية في هذا الملف، خاصة وأن دعم القضية الفلسطينية يُعتبر من الثوابت الجزائرية على المستويين الرسمي والشعبي وإن كان يتبلور في صورة دبلوماسية تضامنية مع الموقف الفلسطيني أكثر من كونه يمثل خطوات إجرائية لتحريك ثوابت المعضلة.
ولعل المساعي الجزائرية وراء عقد لقاءات أحادية الجانب كخطوة أولى مع الفصائل الفلسطينية المتضمنة كلًا من (حركة فتح – حركة حماس – الجبهة الشعبية – الجبهة الديمقراطية – حركة الجهاد الإسلامي)، بمثابة مرتكز التحرك لعقد مؤتمر جامع للفصائل الفلسطينية يستهدف حل ذلك الملف وإنهاء حالة الانقسام، وهو الأمر الذي ترى فيه الجزائر استكمالًا لمسيرتها التاريخية في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء الفلسطينين كما حدث في احتضان حوارات المصالحة الفلسطينية في عام 1984 وكذلك عام 1987.
دوافع متعددة
- إعادة نشاط الدبلوماسية الجزائرية: إن المرحلة الأخيرة لحكم الرئيس الجزائري السابق “عبد العزيز بوتفليقة” شهدت خمولًا غير مسبوق في إطار تفاعلها مع سياقها الإقليمي، وتزايد الوضع خلال المرحلة الانتقالية التي تبعت الحراك الجزائري، بيد أن سياسات الجزائر الخارجية تستهدف بصورة كبيرة لعب دور أكثر نشاطًا في قضايا عربية وإقليمية، وبرز ذلك بصورة كبيرة في ضوء الانخراط المتزايد في الأزمة الليبية، وجاء آخرها اجتماع دول الجوار الليبي بمشاركة إفريقية وأممية مطلع سبتمبر 2021، وكذا التنسيق لتدريب العناصر الشرطية وإعادة فتح المعابر الحدودية المشتركة نهاية عام 2021. وعلى صعيد ملف سد النهضة رغبة الجزائر في إيجاد موطئ قدم لها على هذا الخط عبر الجهود الدبلوماسية للوساطة لحلحلة تلك الأزمة التي أطلقها وزير الخارجية الجزائرية رمضان لعمامرة خلال زيارته للقاهرة في أغسطس 2021.
ولعلّ القضية الفلسطينية إحدى القضايا الإقليمية الحيوية بالنسبة لدول الإقليم، وترغب الجزائر في لعب دور مؤثر داخل هذا الملف، وبرز ذلك من خلال استقبال الرئيس محمود عباس أبو مازن في ديسمبر 2021 وتقديم منحة بقيمة 100 مليون دولار إلى جانب إبداء وساطتها لإقامة حوار جامع للفصائل الفلسطينية من أجل التباحث حول ملف المصالحة الفلسطينية.
ويُفهم من ذلك رغبة الجزائر في درء المخاطر الناجمة عن تعدد مناطق النزاعات العابرة للحدود، والعمل على تعزيز مكانتها السياسية عبر التحرك الاستباقي بما يحول دون تحول أزمات المنطقة إلى الوضع الحرج، وذلك وفق مقاربة تكرس مبدأ الحلول الإفريقية لمشاكل القارة وتتجنب منطق الإملاءات الخارجية التي تنتهك سيادة الدول.
- موازنة التقارب المغربي الإسرائيلي: أحد الدوافع الأخرى وراء تعزيز الدور الجزائري في الملف الفلسطيني، يكمن في رغبة الجزائر في الالتفاف حول المحور الإسرائيلي المغربي الذي بدأت تتشكل معالمه منذ إعادة استئناف العلاقات الثنائية/ التطبيع بين الجانبين نهاية ديسمبر 2020، وبدأ يأخذ منحى تصاعديًا غير مسبوق وصل إلى حد عقد الصفقات العسكرية الخاصة والتي تمثلت في إنشاء مصانع للأسلحة العسكرية إلى جانب تطوير برنامج الطائرات بدون طيار وذلك في ضوء مساعيها لتحسين الترسانة العسكرية المغربية لإحداث خلل في موازين القوى العسكرية داخل المنطقة المغاربية، حيث تم توقيع نحو 12 اتفاقًا بينهما كان آخرها اتفاقية التعاون العسكري في نوفمبر 2021.
التحدي الآخر فيما يتعلق بوضعية إسرائيل داخل البيئة الإفريقية وتزايد تغلغلها داخليًا ومحاولتها الانضمام للاتحاد الإفريقي كعضو مراقب والذي تزامن معه تزايد وتيرة التجسس في المنطقة كما حدث فيما يعرف بقضية بيجاسوس، هذا التحول المتسارع يُمثل ضغطًا متزايدًا على الجزائر التي رفضت بشكل حاسم مسألة التطبيع مع إسرائيل، إلى جانب رفضها فكرةَ عودة إسرائيل كعضو مراقب بالاتحاد الإفريقي
وما سبق ذلك من تأزم في العلاقات المغربية الجزائرية وصل إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية في الرابع والعشرين من أغسطس 2021. وقد اتخذ هذا التصعيد منحنى تصاعديًا في أعقاب التطبيع المغربي الإسرائيلي وتوسع دائرة التعاون بين الجانبين.
- نجاح القمة العربية: في ضوء استضافة الجزائر للقمة العربية المقبلة المقرر عقدها في مارس 2022، تضع الجزائر على رأس أجندة عمل القمة القضية الفلسطينية، لكي تحظى بدعم إقليمي واسع لنجاح تلك القمة، وكذلك استضافة اللقاءات الخاصة بالوفود الفلسطينية تمهيدًا لحوار جامع للفصائل الفلسطينية يُعزز من الطرح الجزائري بتجديد الالتزام الجماعي العربي تجاه تلك القضية، وإعادة التأكيد على التزام الدول بمبادرة السلام العربية 2002، ولعل الاستباق الجزائري ناجم عن تخوفها من فشل القمة، خاصة في ظل التوترات القائمة مع الرباط، خاصة وأن هناك رغبة من جانب الرئيس تبون لإنجاح القمة وهو ما برز في زيارة وزير الخارجية “رمضان لعمامرة” للعديد من الدول الإقليمية وآخرها مصر والمملكة العربية السعودية، ويأتي ذلك رغبة في مساعي “تبون” لاستثمار القمة شعبيًا، وتوظيفها لتأكيد مكانة الجزائر بقيادته على الصعيدين العربي والإقليمي، خاصة وأن الجزائر تواجه انتقادات بسبب تراجع دورها في قضايا إقليمية كالصراع في ليبيا.
فرص وتحديات الوساطة
إن المتأمل لوضعية الملف الفلسطيني يجد أنه يُمثل عبئًا مضاعفًا على عاتق الدول التي تتبنى هذا الملف وعلى رأسها مصر، ولعل الجزائر وفي ضوء مقوماتها الاقتصادية التي تعاني من حالة من الضعف لن تكون ذات تأثير في تلك المساحة، الأمر الثاني يتمثل في أن ترتيبات الملف الفلسطيني حتى على صعيد المصالحة البينية لا بد أن تتم من طرف يكون محل قبول وثقة من كافة الأطراف المعنية، سواء أكانت فلسطينية أم غير فلسطينية، وتفتقر الجزائر لحالة من التنسيق المتبادل مع الجانب الإسرائيلي وكذلك مع كافة القوى الإقليمية محل التأثير.
وبالرغم من السمعة الدبلوماسية للوساطة الجزائرية ونجاحها في عدد من القضايا، كما هو الحال بالنسبة للأزمة داخل مالي، وكذلك دورها خلال الحرب العراقية الإيرانية، واستضافتها اتفاقية السلام الموقّعة بين إريتريا وإثيوبيا؛ إلا أن حالة الانقسام الفلسطيني التي باتت عاملًا ثابتًا في المشهد الفلسطيني جعلت من الصعب إيجاد حل توافقي بشأن المصالحة، خاصة في ضوء التحديات المماثلة التي واجهت الوساطات الإقليمية. الأمر الآخر يتمثل في المطالب المختلفة للحركات والفصائل الفلسطينية والتي يمكن أن تكون حجر عثرة أمام جهود الوساطة، والمتمثلة في طرح حركة حماس في رؤيتها للحل إعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية وإجراء انتخابات شاملة، في مقابل ذلك أوضحت فتح -وفقًا لما جاء في تصريحات المستشار زيد الأيوبي القيادي بحركة فتح– أهمية أن تقترن الأقوال الصادرة عن حركة حماس حول المؤتمر الجامع بالأفعال عبر خلق أجواء وطنية إيجابية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في غزة كإعلان عن جدية وحسن نوايا تجاه الوساطة الجزائرية لتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية، فثبات الأشخاص والوفود المتفاوضة الممثلة للفصائل وعدم تغيير التوجهات أو إبداء مرونة للحلول يُثبت قدرًا كبيرًا من الفجوة في الرؤية والأهداف والأدوات، ويحول دون نجاح المصالحة التي بدأت مرحلتها الأولى.
على مستوى مماثل فإن تطلعات الجزائر لإيجاد موقف عربي موحد تجاه القضية الفلسطينية في القمة القادمة، أمر تتخلله تحديات مختلفة من بينها اتساع دائرة التنسيق والتفاهم بين إسرائيل وعدد من الدول العربية والخليجية والتي أفضت للتطبيع معها، إلى جانب ضعف الموقف الفلسطيني المنقسم داخليًا، علاوة على ثبات الدعم الأمريكي لإسرائيل دون تغير بالرغم من تبدل الإدارة الأمريكية.
وفي التقدير؛ فإن مواكبة الجزائر للقوى الفاعلة إقليميًا في الملفات العالقة كما هو الحال بالنسبة للملف الليبي ودخولها على خط المصالحة الفلسطينية، ناجم بالأساس عن الرغبة الجزائرية في تحقيق مصالحها وتوازناتها الجيواستراتيجية مع المغرب، خاصة وأن الأخيرة باتت من وجهة نظر الإدارة الجزائرية تُمثل موطئ قدم لإسرائيل في شمال إفريقيا، وأن التحالف الوليد سيؤثر على المدى الطويل على وضعية موازين القوى بين البلدين، ولعل ثبات الوفود المتفاوضة وكذلك أجندة التفاوض يحول دون إحداث تقدم يُذكر في هذا الملف.