أصبحت الشركات الأمنية الخاصة ظاهرة متنامية على الساحة الدولية، وبالرغم من ارتباطها بالمرحلة الاستعمارية، لكنها تزايدت منذ نهاية الحرب الباردة إثر الصراعات المسلحة التي اندلعت في العديد من الدول، حيث تقوم الدول بتبني سياسة توكيل شركات تقوم بأعمال متعددة بدلًا من تكليف القوات العسكرية الرسمية بها، وتتمثل مهام هذه الشركات في تجهيز القوات العسكرية بالطعام والمعدات والذخيرة والمحروقات، وتلعب دورًا في تنفيذ أهداف السياسة الخارجية للدول، وتنفيذ سياساتها في صراع لا تريد التدخل فيه بشكل مباشر، لذلك تلجأ الدول إلى هذه الشركات المرتزقة لما لها من مزايا من حيث التنصل من المسئولية الدولية، نظرًا لأن الأعمال التي تقوم بها مخالفة لقواعد القانون الدولي مثل استخدام القوة، والتدخل في الشئون الداخلية للدول، وتنفي الدول الراعية لهذه الشركات أي علاقة لها بهذه المخالفات. ضمن هذا الإطار تناقش تلك الورقة تحركات الشركات الأمنية الخاصة في الشرق الأوسط، والعوامل المحفزة لوجود هذه الشركات، وكيف تحولت منطقة الشرق الأوسط إلى مصدر للمرتزقة، والتداعيات المحتملة.
تحركات الشركات الأمنية الخاصة في الشرق الأوسط
تضمن التعريف القانوني لهذه الشركات وفقًا للاتفاقية الدولية حول الشركات الأمنية الخاصة التي قدمت إلى فريق الأمم المتحدة المعني بدراسة مسألة استخدام المرتزقة، كوسيلة لإعاقة ممارسة الشعوب لحقها في تقرير المصير؛ أنها “منظمة تنشأ استنادًا إلى تشريع دولة طرف لتقدم أجرًا نظير خدمات عسكرية أو قانونية تعمل وفق ترخيص خاص، وتشمل العمليات القتالية والتخطيط الاستراتيجي والاستخبارات والدعم اللوجستي والتدريب والدعم التقني، بالإضافة إلى خدمات أخرى من حيث الحراسة للممتلكات والأشخاص، وتطبيق إجراءات الأمن والمعلوماتية، واستخدام وسائل تقنية ليست ضارة بالأشخاص والبيئة، بغرض حماية المصالح والحقوق المشروعة لعملائهم”[1].
أما عن المرتزقة فهم أفراد يشاركون في صراع أجنبي مقابل المال، كما أنهم لا يتحركون بدوافع من قبيل الإثنية أو الأيديولوجية أو الديانة أو التوجهات السياسية ولا يربطهم بالطرف الذي يحاربون نيابة عنه أكثر من الربح، ولا تجمعهم علاقة مواطنة بالدولة المشاركة على المسرح العملياتي. ووفقًا لتعريف الأمم المتحدة هو “نشاط غير قانوني يحق للدول التي يتم على أراضيها ملاحقة المشاركين فيه بالاستناد إلى قوانينها الداخلية، كما أن المرتزقة مقاتلون غير شرعيين ولا يمنحون بالتبعية حقوق أسرى الحرب إذا تم أسرهم أثناء صراع دائر”[2]، إلا أن معظم الشركات الأمنية الخاصة دائمًا ما تستعين بالمرتزقة الذين تستقطبهم من مختلف الدول لتحقيق أهداف الدول.
ينتشر في العالم عددٌ كبير من الشركات الأمنية الخاصة، وتتخذ من العديد من الدول في القارات المختلفة بيئة لنشاطها ومن ضمنها بلاك ووتر الأمريكية، وشركة هاليبورتن، فاجنر الروسية، وشركة G4S البريطانية التي تنشط في 125 دولة، وتوظف أكثر من 600 ألف موظف، وأيضًا شركة Securitas السويسرية التي تمارس نشاطها في 45 دولة وتوظف حوالي 250 ألف فرد، وScopex الفرنسية التي تنتشر في إفريقيا وآسيا في إطار تنسيق بين رؤساء الدول، وشركة إسكارد جيرمان الألمانية، وديفيد إنترناشونال الأمريكية الجنوبية “بيرو”، وإكز كيتيف آوتكم الجنوب إفريقية، ثم ساندلاين إنترناشيونال وآيجبس دفانس البريطانيتان. أيضًا هناك شركات عربية صغيرة مثل فالكون، وكيرسرفيس وكوماندوز في مصر، وسكيورتي في لبنان والتي تتولى شئون الحراسة لبعض الشخصيات والمرافق الخاصة، لكن لا ترقى هذه الشركات إلى مصاف الشركات الأمنية الكبرى في العالم من حيث حجمها ومهامها ودورها.
توجد فروع للشركات الأمنية الخاصة في المنطقة، حيث تمارس أنشطة في جنوب العراق، مثل الفرع المحلي لشركة Frontier service Group FSG، التي تحصل على تمويل صيني ولها مكتب أيضًا في دبي، وأسسها إيرك برنس عام 2014، وهو مؤسس شركة بلاك ووتر الأمريكية، وذلك وفقًا لوثيقة صادرة عن وزارة التجارة العراقية، نشرها موقع Buzz Feed News. وأيضًا هناك شركة بلاك ووتر الأمريكية ومارست أعمالًا في العراق وأفغانستان، ومؤخرًا في اليمن وسوريا وليبيا، ولها دور في دول أخرى من خلال تعاقدها مع الحكومة أو في السر لتنفيذ مهام من الدولة الراعية لها. وتمتلك الشركة قاعدة بيانات لنحو 21000 جندي سابق من القوات الخاصة تستطيع الاعتماد على خدماتهم، ولديها تجهيزات عسكرية متطورة لا تقل عما تمتلكه الجيوش النظامية. كذلك كشفت مصادر عراقية في 2015 عن تجدد دور الشركة وقيامها بمساعدة القوات العراقية في عملياتها العسكرية ضد تنظيم داعش بدعم من الولايات المتحدة، لأن لهذه الشركة قوات متخصصة في عمليات حروب العصابات ومكافحة الإرهاب، وللشركة أهداف خاصة من حيث حصول قوتها العسكرية على حصة كبيرة من الميزانية التي تخصصها الأمم المتحدة لحفظ السلام والبالغة 6-10 مليارات.
اقتصر دور الشركة في العراق في بداية الأمر على تقديم خدمات أمنية واستشارات عسكرية، وإبرام عقود لحماية شخصيات هامة وحراسة وتأمين البعثات الدبلوماسية، والإمدادات والتحركات داخل العراق، ثم تحول هذا الدور تدريجيًا ليصل إلى المشاركة الفعالة في الأعمال القتالية، واستخدام المعدات الثقيلة والطائرات، ووصل إلى حد التأثير في القرارات العسكرية والأمنية في العراق، بالإضافة إلى مهام أخرى منها؛ التفتيش داخل الأحياء والمدن السكنية في العراق، فضلًا عن توقيع الشركة عقودًا مع الحكومة العراقية، لقيامها بتدريب الجيش النظامي العراقي، وتدريب قوات الشرطة على القيام بمهام التأمين الداخلي للدولة العراقية، ونجحت بلاك ووتر في السيطرة على مناطق حدودية، مما سهل تهريب الأسلحة والذخائر، وقيامها بالتعذيب والاستجواب بالطرق الوحشية في سجن أبو غريب، وهو ما أدى إلى وفاة مواطنين عراقيين[3]. كما تحول دور بلاك ووتر كأداة لتنفيذ سياسة الولايات المتحدة في العراق، نظير المقابل المادي في ظل غياب إطار قانوني ينظم عملها.
يضاف إلى ذلك الحضور الروسي غير المباشر في العديد من الدول من خلال مجموعة فاجنر العسكرية، حيث أسهمت هذه الشركة في ضم القرم، والانخراط مع الانفصاليين في أوكرانيا، والوجود في سوريا، وساهمت في التدخل الروسي في ليبيا، دون الحاجة إلى دخول قواتها العسكرية النظامية، الأمر الذى يحقق لها مكاسب استراتيجية من حيث إمكانية لعب دور الوسيط بين الفرقاء في ليبيا دون التخلي عن التزامها العسكري، ويمكنها من تأجيج الصراع إلى حين التوصل إلى اتفاق يخدم مصالحها في المفاوضات، فضلًا عن ضمان أجزاء من سوق الطاقة والسيطرة على طريق اللاجئين المارين عبر ليبيا، والذى يمثل ورقة ضغط على دول الاتحاد الأوروبي، أيضًا مكنت هذه الشركة روسيا في العديد من الدول الإفريقية مثل السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى ومدغشقر.
ضمن هذا السياق، تأتي شركة صادات التركية التي تقوم بالتدريب والاستشارات الأمنية والعسكرية، وقد تأسست في فبراير 2012 من قبل 23 ضابطًا، وصف ضباط متقاعدين من مختلف وحدات القوات المسلحة التركية، برئاسة العميد المتقاعد عدنان تانريفردي، وكان الدافع وراء تأسيسها أن تكون مظلة لتخرج منها المليشيات والمرتزقة، حيث تستقطبهم ويتم الاتفاق معهم وتحديد أجورهم، ومصادر تمويلهم والمهام الموكلة إليهم، ويأتي معظم المرتزقة الأجانب من (الشيشان، وطاجاكستان، وكازاخستان، وأذربيجان، وروسيا) بجانب عناصر القاعدة وداعش، ثم يتم إرسالهم إلى بؤر الصراع في سوريا والعراق عبر تركيا، وتتعاون صادات مع العديد من المنظمات الإرهابية، فعلى سبيل المثال علاقتها بتنظيم “إمارة القوقاز الإسلامية” حيث تدرب عناصرها وترسلها إلى سوريا مقابل توفير الأسلحة والمساعدات المالية للتنظيم، كما تلجأ إلى تجنيد عناصر من خراسان وإرسالهم إلى سوريا.
أيضًا وظفت الحكومة التركية صادات خلال حربها ضد حزب العمال الكردستاني لاستعادة بعض المدن التي سيطر عليها عقب انهيار عملية السلام بين الحكومة والحزب عام 2015، وتحركت صادات لدعم الوجود التركي شمال سوريا وعمليات التغيير الديموغرافي الحاصلة هناك، عبر تشكيل مجموعات قتالية تعمل وكلاء مباشرين للقوات المسلحة التركية، وتقاتل بجانبها وتتمركز دائمًا في المنطقة الشمالية ذات الغالبية الكردية مثل كتائب السلطان مراد، وكتائب سليمان شاه، وفيلق حمزة، وفيلق الشام، ولواء المعتصم، وجميعهم يدينون بالولاء للجيش التركي، وشاركوا بجانب القوات التركية في العمليات العسكرية الثلاث بالشمال السوري: درع الفرات في ريف حرب الشمالي عام 2016، وغصن الزيتون للسيطرة على منطقة عفرين عام 2018، ونبع السلام عام 2019. كما قامت صادات بتدريب الفصائل المسلحة المعارضة لنظام الرئيس بشار الأسد داخل قواعد أنشأتها في منطقة مرمرة شمال غرب تركيا؛ ومنها معسكر أولشلي التابع لقيادة القوات البحرية، ويقع داخل حدود منطقة جولجوك بمحافظة كوجالي، بالإضافة إلى قواعد سرية بمقاطعتي غازي عنتاب، وهاتاي الحدوديتين، وتشمل التدريبات عناصر داعش وهيئة تحرير الشام “جبهة النصرة سابقًا”، والجيش السوري الحر.
أيضًا تولت مهمة تجنيد وجلب المقاتلين من مناطق مختلفة وإرسالهم إلى سوريا، بالتعاون مع شركة أخرى تعرف باسم “أبناء الأمة”، واستقطبت صادات عناصر من أقلية الإيجور الصينية عام 2014 للقتال في سوريا عبر جوازات سفر مزورة، ويقدر عدد الإيجور الأتراك الذين تدربوا في معسكر صادات مع الحزب الإسلامي التركستاني في إدلب بأكثر من ألف، وتنتشر صادات التركية في ليبيا، حيث يقدر عدد المرتزقة التابعين لها على الأراضي الليبية بنحو 20 ألفًا، وكذلك في اليمن حيث تشير التقارير إلى وجود فريق في شبوة يتبع شركة صادات بهدف الإشراف على تدريب قوات إخوانية، وإدارة المعركة مع الجنوب على أن يتم تحويل المعركة باتجاه عدن والساحل الغربي وعدم استخدام أي تقنيات أو أفراد يتم تدريبهم من قبل الشركة في أي معركة مع الحوثيين بما يفسر دفع الإخوان بأهم شبابهم باتجاه شبوة وإفراغ جبهة مأرب.
كذلك نشطت صادات في عمليات تجنيد ونقل آلاف المرتزقة والإرهابيين من المناطق التي يحتلها الأتراك في شمال سوريا (عفرين ورأس العين وتل أبيض) وليبيا، حيث أدارت صادات في الأسبوع الأول من أكتوبر 2020 عملية نقل 13 ألف مسلح سوري، بما في ذلك عناصر فرقة السلطان مراد، وسليمان شاه، ولواء المنتصر بالله، بالإضافة إلى ما لا يقل عن 150 من المرتزقة الليبيين إلى ناجورنو كاراباخ، إذ نُقل المرتزقة السوريون أولًا إلى بلدة سانليورفا التركية الواقعة على بعد 40 كيلومترًا من الحدود السورية، ومنها إلى ميدان العمليات الأذري على متن رحلات الطيران العارض الخاصة بالشركة للعمل هناك بموجب عقود مدتها 3-6 أشهر مقابل راتب شهري 1000-1500 دولار وذلك بعد مصادرة وثائق هوياتهم وأدوات الاتصال الشخصية الخاصة بهم[4].
عوامل محفزة
يوجد مجموعة من العوامل ساهمت في بروز الشركات المرتزقة في المنطقة، يتم توضيحها فيما يلي:
- عملت الشركات الأمنية الخاصة وفروعها على تحفيز الطلب على الموظفين العسكريين وأفراد الشرطة السابقين من البلدان النامية عن طريق الإعلان عن دفع مرتبات مغرية للعمل في مناطق الصراع كالعراق وأفغانستان، وقد وجد هذا الطلب إقبالًا سهلًا حيث استعداد السكان المهاجرين لأداء الأعمال الأمنية في الخارج، والأنشطة غير الخاضعة للمراقبة إلى حد كبير التي تضطلع بها هذه الشركات، كما قبل معظم أفراد البلدان النامية العمل في هذه الشركات لأسباب اجتماعية واقتصادية، مثل البطالة أو الديون أو لتوفير تعليم أفضل لأطفالهم وغيرها من الفرص.
- تمثل هذه الشركات آلية لتنفيذ سياسات الدول التابعة لها بشكل غير مباشر، دون أن ترتب مسئولية قانونية أو أدبية عليها، ومن ثم تنفيذ عمليات وأنشطة خارجة عن القوانين والمواثيق سواء من قبل الدولة الوطنية أو المجتمع الدولي، دون التورط علانية في مثل هذا السلوك غير المشروع، وهو ما يحفز رغبة الدول المختلفة في إنشاء وتوظيف هذه الشركات لتحقيق أهداف سياسية.
- لجوء أغلب الدول إلى تقليص حجم الجيوش النظامية، والتخفيف من المهام التي تقوم بها القوات والأجهزة الأمنية الرسمية، والاعتماد على التكنولوجيا العسكرية وقدرات الشركات الأمنية الخاصة، كذلك ساهم الضعف الهيكلي للجيوش والأجهزة الأمنية المحلية في بعض الدول في الاستعانة بالشركات الأمنية الخاصة، فضلًا عن انتشار بؤر التوتر والصراع، التي ساهمت في تهيئة البيئة لبروز الشركات الأمنية الخاصة.
المنطقة كمصدر للمرتزقة
تصاعدت ظاهرة استخدام المرتزقة في الشرق الأوسط لا سيما في بؤر الصراع المسلح بما في ذلك ليبيا وسوريا واليمن، ويتم نقلهم من خلال الرحلات الجوية المدنية أو عبر الحدود البرية أو التهريب عبر شبكات الجريمة المنظمة، ويتم تصديرهم إلى دول عربية مجاورة أو إلى دول إفريقية أو أوروبية للقتال خارج حدودهم، وقد ساهمت الأنظمة في الدول في تهيئة العمل لهذه الشركات من خلال إصدار القوانين، حيث أصدر الرئيس السوري بشار الأسد في 2013 مرسومًا رقم 55 بترخيص الشركات الأمنية الخاصة، وبلغ عدد هذه الشركات حوالي 75 شركة في سوريا[5].
وأصبحت سوريا نقطة انطلاق للمرتزقة إلى السودان وليبيا، كما أن ليبيا نقطة انطلاق للمرتزقة إلى كل جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي[6]. كما تحولت ليبيا إلى قاعدة انطلاق الهجمات الإرهابية وإثارة التمرد ضد الأنظمة السياسية في منطقة الساحل والصحراء؛ واتضح ذلك في تهديد ليبيا لكل من السودان وتشاد ومصر وتونس ومالي خلال السنوات الماضية، ولعل انطلاق القوات المشاركة في اغتيال الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي في 20 أبريل 2021 من الجنوب الليبي دليل على مستوى التهديد الذي قد يمتد من الساحل إلى دول القرن الإفريقي بما في ذلك جنوب السودان والنيجر.
وتستعين تركيا بآلاف المرتزقة من السوريين، حيث سبق وأن وصلت سفن حربية تركية برفقة مرتزقة سوريين إلى الأراضي الليبية بالضغط من تركيا، حيث هددتهم بقطع رواتب الذين يترددون للقتال في ليبيا، وهم من المرتزقة الخاضعين لقيادتها في ريف الحسكة والرقة، ويقدر عددهم بنحو 7000 مرتزق، وتشير التقارير إلى أن تركيا تقدم للمرتزق مقابلًا ماديًا بنحو 3000 ليرة تركي[7]، كذلك استعانت تركيا بالمرتزقة السورين والليبيين في صراع ناجورنو كاراباخ في عام 2020[8]، ويقدر عددهم بنحو 35 ألف[9]. ووظفت تركيا شركة “صادات” للأمن الخاصة، للقيام بنقل المرتزقة، ودعم المليشيات العاملة مع حكومة الوفاق السابقة في ليبيا في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
كما أرسلت الإمارات في يناير 2020 حوالي 4000 مرتزق لحماية محطة رأس لانوف النفطية في ليبيا[10]. ومنذ 2001 تستعين الإمارات بمصادر خارجية للقيام ببعض المهام المتعلقة بالأمن، وأصدرت في 2002 أول قانون إماراتي بشأن عمل وترخيص شركات الأمن الخاصة، كما عينت قائد القوات الخاصة الأسترالي مايك هندمارش لتدريب الجيش، وقامت بتمويل عدد من الشركات الأمنية الخاصة في بعض الدول العربية مثل اليمن والصومال[11]. حيث أرسلت الإمارات مئات من المرتزقة في 2015 لمواجهة الحوثيين في اليمن، ويقدر عددهم بنحو 450، من بين 30 ألف مرتزق من دول بنما والسلفادور وتشيلي وبنغلاديش وكولومبيا، ويتمتع المرتزقة الكولومبيون بمزايا تتمثل في قلة تكاليف التعاقد والخبرة الواسعة التي يمتلكونها جراء الصراعات طويلة المدى مع الجماعات المتمردة وكارتلات المخدرات والجريمة المنظمة، كما وظفت الإمارات عددًا من المرتزقة تمركزوا في عدد من الموانئ على طول ساحل البحر الأحمر، وتعاقدت الإمارات مع شركة Reflex Responses الأمريكية، مقابل عقد بقيمة 529 مليون دولار لتعزيز القوات التي تقاتل لصالح الإمارات في اليمن.
كذلك تستعين قطر بنسبة 85% من المرتزقة بنحو 600 من الصومال و360 فردًا من السودان، وتم استخدامهم في اليمن وليبيا[12]. وتشير بعض التقارير إلى أن قطر استقطبت مرتزقة من غينيا ونيجيريا وقدمت لهم مقابل 2000 دولار في بداية الصراع في ليبيا[13]. كذلك استعانت السعودية بمرتزقة من السودان وتشاد وإريتريا في حرب اليمن[14]، واستخدم حزب الإصلاح في اليمن هؤلاء المرتزقة ضد المجلس الانتقالي الجنوبي، لقلة تكلفتهم ووفرتهم ومن بينهم أطفال خاصة من الصومال وإثيوبيا وإريتريا، وينتمي بعضهم إلى منظمات إرهابية.
من ناحية أخرى، تستعين كل من روسيا وإيران بجهود الشركات الأمنية الخاصة والمرتزقة في سوريا، مستغلة الأوضاع الاقتصادية بسبب الصراع، وساهم هؤلاء المرتزقة بالمشاركة في حماية منشآت نفطية في القامشلي والحسكة ودير الزور، وقاتلوا إلى جانب القوات الإيرانية والروسية، ومن بين الشركات التي تعمل مع القوات الروسية “شركة الماهام” وهي مملوكة لشركة القاطرجي التي تستورد النفط من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، ويحصل المرتزقة على 400 دولار. كما تقوم شركة فاجنر الروسية بحراسة أصول شركات التعدين في السودان، ونشرت روسيا آلاف من فاجنر لدعم المشير خليفة حفتر في ليبيا، وتم استخدامها في سوريا لدعم النظام، حيث قامت الشركة بنشاط كبير في التدريب وجمع المعلومات الاستخبارية[15]. وجراء الحرب الروسية-الأوكرانية أعلن الرئيس بوتين عن رغبته في تجنيد حوالي 16 ألف من المرتزقة السوريين، ووفقًا للمرصد السوري لحقوق الإنسان سجل نحو 40 ألف سوري للقتال إلى جانب القوات الروسية[16]. أما الشركات التي عملت مع القوات الإيرانية مثل شركة القلعة وتنشط في مدينة البو كمال الخاضعة لسيطرة القوات الإيرانية في محافظة دير الزور[17].
تداعيات محتملة
- تمثل ظاهرة الشركات المرتزقة خطورة على الدول، مع وجود غموض حول شرعية دور هذه الشركات وما تمثله من تهديد في أماكن عملياتها من ناحية، ومن ناحية أخرى تهديد اقتصار وظيفة حفظ الأمن على الدول بما تمثله هذه الشركات من فرصة لمنافسة الدول في القيام بهذه الوظيفة، نظرًا لما تمثله من ميزة عدم تحمل المسئولية القانونية عن أعمال العنف التي تقوم بها، وانخفاض تكلفة قيامها بمهام عسكرية مقارنة بما يمكن أن تتحمله الدولة من مسئولية قانونية وتكلفة مادية وبشرية لأي عملية عسكرية تقوم بها.
- تساهم هذه الشركات في ضعف الدول وربما الاختفاء التام لهياكل الدولة الرسمية في مناطق الصراعات المختلفة، وتحييد قدرات الجيوش الوطنية، واستبدال واقع فوضوي من المليشيات وغياب القانون بحيث تشكلت جيوش مليشياوية غير خاضعة لسيطرة الحكومات المركزية، مما ينذر بخلق واقع أمنى مجزأ، ويحفز احتمالات التصادم بين المرتزقة والمليشيات المسلحة المتفرقة الولاء والتصادم بينها وبين القوات الحكومية. غير أن تمركز المرتزقة بالقرب من المناطق الحدودية غير الخاضعة للرقابة وسيطرتهم على فضاءات صحراوية شاسعة في ظل ضعف المنظومات الأمنية الحكومية، أدى إلى توسع شبكات التهريب الحدودية والشبكات الإجرامية وانتشار الجريمة المنظمة بمعدلات غير مسبوقة، خاصة تهريب المخدرات وحوادث الاتجار بالبشر وانتهاكات حقوق الإنسان بما يعمق من الأزمات الأمنية والإنسانية.
- تصاعد الحروب بين الشركات الأمنية الخاصة في ساحات الصراع، خاصة إذا كانت تدعم أطرافًا متنازعة على غرار الحالة الليبية التي انخرطت فيها صادات بجانب حكومة الوفاق الوطني السابقة، بينما دعمت شركة فاجنر الروسية الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، كما تمثل هذه الشركات نقطة انطلاق لانتقال الظاهرة الإرهابية عبر الحدود، ومصدرًا لعدم الاستقرار الإقليمي ومهددًا للأمن العالمي. فعلى سبيل المثال أدى تعثر تنفيذ الوعود المادية للمرتزقة العاملين في ليبيا إلى فرار بعضهم إلى إيطاليا وجنوب أوروبا عبر قوارب الهجرة غير الشرعية مع الأفارقة الذين يتقاطرون عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، ويحتمل أن يكون ضمن صفوفهم عناصر إرهابية تنخرط في عمليات داخل القارة الأوروبية.
- تساهم هذه الشركات في إطالة أمد الصراع حيث تلجأ إلى دفع مزيد من المرتزقة أو تحريكهم كلما اقتربت أطراف الصراعات من التوصل إلى صيغة توافقية أو تسوية سياسية ما لإنهاء الصراعات في المنطقة، وهو ما يعزز احتمالية تجدد الصدام العسكري، كما أن هذه الشركات تمثل أداة ضغط للدول التي تنفذ أهدافها من خلال هذه الشركات في أي مفاوضات في المستقبل. ولهذه الشركات تأثير على ضعف الهياكل الأمنية داخل الدولة، حيث تصبح أداة استخبارية تنفذ أجندات الدول التابعة لها، وتضع خططًا عسكرية تتوافق مع أهدافها وهو ما يتعارض مع سيادة الدولة، ناهيك عن حصولها على امتيازات غير مستحقة من حيث استخراج المعادن والموارد النفطية، الأمر الذي يخلق تنافسًا بين هذه الشركات للحصول على هذه الامتيازات.
المصادر:
[1] د. دلال محمود،” موقع الشركات العسكرية الخاصة في نظرية العلاقات الدولية، في “الشركات العسكرية الخاصة تحدى جديد في العلاقات الدولية”، تحرير (د. دلال محمود) ط1، (القاهرة: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، نوفمبر 2021).
[2] سحر عبد الرحيم، شركة فاجنر الروسية. آلية النفوذ الروسي في ليبيا في “الشركات العسكرية الخاصة تحدى جديد في العلاقات الدولية”، تحرير (د. دلال محمود) ط1، (القاهرة: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، نوفمبر 2021).
[3] محمود مجدي، شركة بلاك ووتر الأمريكية…فاعل رئيسي في العراق، في “الشركات العسكرية الخاصة تحدى جديد في العلاقات الدولية”، تحرير (د. دلال محمود) ط1، (القاهرة: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، نوفمبر 2021).
[4] ماري ماهر، “شركة صادات التركية……ذراع تركيا في الإقليم”، في “الشركات العسكرية الخاصة تحدى جديد في العلاقات الدولية”، تحرير (د. دلال محمود) ط1، (القاهرة: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، نوفمبر 2021).
[5] Manhal Baresh, Private Security Companies in Syria: New Agents at the Regime’s Service, European University Institute 2020,available at: https://bit.ly/36M0F4e
[6] MICHAEL YOUNG, “Moscow’s Mercenary Ways” ,Carnegie middle east center,19 January 2022,available at: https://bit.ly/3uyUBEi
[7] مع استئناف عمليات تبديل المرتزقة السوريين الموالين لأنقرة في ليبيا.. رحلة ذهاب وإياب تنقل 500 مرتزق من وإلى ليبيا، المرصد السوري لحقوق الإنسان، 4 فبراير 2022، متاح على الرابط: https://bit.ly/36QL3w9
[8] Francesca Ebel, Syrian mercenaries: New report reveals predatory recruitment tactics, Middle east Eye, 28 May 2021,available at: https://bit.ly/3iF0A53
[9] Yoel Guzansky et al, The Use of Mercenaries: A New Recourse to an Old Practice for Waging War in the Middle East, The Institute for national security studies, 10 March 2020, available at: https://bit.ly/3NnJeYt
[10] Ihsan Al-Faqih , UAE-based Black Shield recruits mercenaries in region, Anadolu Agency,18 July 2020,available at: https://bit.ly/3LijJG9
[11] Radwa Ammar, Private Military and Security Companies and Regional Security Governance: An interpretive perspective of the United Arab Emirates policies, Journal of the College of Politics and Economics, Volume 6,April 2020,available at: https://bit.ly/3tRQNiF
[12] ZOLTAN BARANY, Foreign Contract Soldiers in the Gulf, Carnegie middle east center,5 February 2020,available at: https://bit.ly/3wGXLZh
[13] A History of Middle East Mercenaries ,Time, available at: https://bit.ly/3DfhTDe
[14] Sean McFate, Mercenaries and War: Understanding Private Armies Today, National defense university press,4 December2019, available at: https://bit.ly/3LjISjI
[15] Sean McFate, Mercenaries and Privatized Warfare: Current Trends and Developments, the United Nations High Commissioner for Human Rights, 24 APRIL 2020.
[16] Ukraine: Syrian mercenaries are now in Russia, Middle East Monitor,18 March 2022,available at: https://bit.ly/3wO4z7s
[17] Mohammed Hardan, Russia, Iran compete for influence in Syria via private security companies, AL Monitor ,4 February 2021,available at: https://bit.ly/3uzuLQv