حسنا فعلت الحكومة المصرية بطرح وثيقة سياسة ملكية الدولة، والتي تحدد خريطة وجودها في النشاط الاقتصادي وملكيتها للشركات العامة، للنقاش العام. خاصة أنها تتزامن مع الدعوة التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي للحوار الوطني حول قضايا المجتمع ويأتي على رأسها القضية الاقتصادية. فكما ذكرنا من قبل فان الانطلاق بأي عملية تنموية في مصر يواجهه تحد رئيسى هو كيفية تحول المجتمع إلى مجتمع منتج خاصة في ظل تراجع الإنتاجية بصورة كبيرة؟ ويدفعنا للتساؤل عن الكيفية التى يمكن بها إحداث النقلة المطلوبة فى المجتمع وجعله أكثر كفاءة وقدرة على التعامل مع الأساليب التكنولوجية الحديثة واستيعابها داخل الاقتصاد القومي؟ وكيف يمكن التعجيل بالإصلاحات وتحسين سبل كسب الرزق ورفع مستويات المعيشة مع ضمان استمراريتها؟ وتحقيق طموحات المجتمع وبث الامل فى المستقبل وزيادة الثقة فى الحكومة؟ وهذه التساؤلات وغيرها من الأهمية بمكان بحيث يجب أن تحتل صدارة المناقشات الجارية حاليا حول سبل مواجهة تحديات الوضع الراهن بكل ما فيها من مشكلات. وهو ما يشير إلى أن تحريك عملية الإصلاح الاقتصادي، إلى ما هو أبعد من وضعها الحالي، يتطلب بالضرورة حوارا جادا ومكثفا حول هذه القضايا مما يسهم كثيرا فى إحياء الحياة السياسية المصرية. اذ ان الحوار العلمى الجاد، البعيد عن المزايدات السياسية، حول قضايانا المستقبلية، والانتقال من حالة الخندقة الفكرية إلى منظور اوسع يتجاوز اللحظة ويتسلح بالرؤية التاريخية والقراءة العلمية ويبتعد عن الحلول الجزئية والمؤقتة الى جوهر الازمة وعلاج الجذور، يمكن أن يؤدى الى رؤية واضحة المعالم، ووضع خريطة كاملة للإصلاح الاقتصادى الشامل الذى يؤدى لإنهاض القدرات الكامنة فى المجتمع، عن طريق زيادة الانتاجية الكلية لعوامل الانتاج، والتى تعد المحرك الأساسى للتنمية ورفع مستويات المعيشة على المدى الطويل. وهو ما يتطلب استخدام ادوات السياسة الاقتصادية بالطريقة المثلى التى تحقق هذه الاهداف.
من إدارة مؤسسات الدولة إلى إدارة رأس مال الدولة
يعد دور الحكومة من القضايا الأساسية التي طرحتها الوثيقة، حيث أشارت الوثيقة الى التحول من ادارة مؤسسات الدولة إلى ادارة رأسمال الدولة، وبالتالي دور جديد يمكن فيه تقديم الخدمات العامة بجودة أعلى وتعزيز البنية الاساسية الداعمة للاستثمار المحلى والأجنبي وهذا مطلب أساسي، فكما قال آرثر لويس في كتابه نظرية النمو الاقتصادي والصادر عام 1955 أن الحكومات قد تفشل لأنها تفعل اقل مما ينبغي أو لأنها تفعل أكثر مما ينبغي فدورها يتطور مع الزمن. كما أن الانشغال بحجم الحكومة يصرف الانتباه عن فعاليتها، فالهدف هو تحسين فعاليتها وليس تجريدها من مهامها حيث لا توجد صيغة واحدة صالحة للتطبيق في كل البلدان وفي أي زمان، فلكل دولة خصائصها التي تنفرد بها وخبراتها التاريخية وواقعها المعيش. وكما اجمع خبراء الاقتصاد فإنها لو كانت هناك نظرية واحدة أو مذهب واحد صالح للتطبيق في جميع الاحوال لكان من السهل العثور عليه فالتوقيت والظروف هي التي تحدد آليات التعامل. ورغم ذلك تظل المشكلة الاساسية كما ذكر ذلك وبحق جون ميناردكينز هي الجمع بين الفعالية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحرية السياسية والاصلاحات العميقة التي تحقق ذلك. من هذا المنطق فإننا نتفق مع ما أشارت إليه الوثيقة من ضرورة تغيير العقد الاجتماعي الحالي والذى مر عليه عدة عقود وفقد قدرته على تحقيق الأهداف المرجوة منه بعد أن تراجع القطاع العام وعدم قدرة القطاع الخاص على ايجاد ما يلزم من الوظائف وفرص العمل وانخفاض الانتاجية السلعية (الصناعة والزراعة)، وأصبحت الخدمات العامة لا تتسم بالجودة او العدالة لذا اصبح من الضروري البحث عن عقد اجتماعي جديد يتلاءم مع الواقع الاقتصادي المتغير ويكفل التعامل بصورة افضل مع الآثار الاجتماعية والاقتصادية للازمة الاقتصادية العالمية الراهنة. ويكون داعما للنمو وتقديم الخدمات الصحية والتعليمية واعادة توزيع الثروة بصورة سليمة. وبعبارة اخرى دور مختلف للحكومة والقطاع الخاص.
ومن الموضوعات المهمة التي طرحتها الوثيقة ضمن أهدافها تحقيق وفرات مالية لدعم الموازنة العامة للدولة وهذا ما يحتاج إلى نقاش لأنه يتغاضى عن مبدأ مهم هو أنه لا يجوز تسييل أصل معين لتمويل إنفاق جار، وبالتالي من الأجدى أن تستخدم هذه الاموال في تمويل إنفاق استثماري جديد وليس عجز الموازنة اذ إن هذا له أدوات أخرى ليس من ضمنها بيع الأصول. من هذا المنطلق ومع اتفاقنا التام بما ذهبت إليه الوثيقة من ضرورة العمل على رفع معدل الاستثمار إلى ما يتراوح بين 25% و30%، الا أنه يظل برنامجا طموحا للغاية حيث بلغ معدل الاستثمار نحو 12.2% عام 2020/2021 ويقدر في خطة العام القادم بنحو 15.2% من الناتج المحلي. وقد بلغ نصيب القطاع الخاص نحو 26.3% من إجمالي الاستثمارات المنفذة عام 2020/2021، مقابل 38.3% خلال عام 2019/2020. وبالتالي هبطت نسبته إلى الناتج من 5.2% الى3.2%. وهنا نلحظ أن الحكومة قد قامت بالعديد من الإجراءات والسياسات الهادفة لتحفيز الاستثمار منها تعديل التشريعات المنظمة للاستثمار والضرائب والجمارك، وكذلك المساندة التمويلية والمالية وخفض أسعار الغاز الطبيعي والكهرباء للصناعة، وحل مشكلات متأخرات دعم الصادرات. الخ من إجراءات، ولكنها لم تفلح حتى الآن في زيادة الاستثمارات الخاصة. الأمر الذي يشير إلى عدم قدرة هذا القطاع على إدارة عجلة الاقتصاد القومي في ظل غياب الاستثمار العام، حيث مازال يسير في ركاب الاستثمارات العامة دون أن يبادر بالولوج إلى المجالات الاستثمارية المختلفة. ومما يزيد من خطورة المسألة عدم وجود طبقة المنظمين بالمجتمع، وهم وحدهم القادرون على الاستخدام الجيد لهذه الاستثمارات والولوج بها في قطاعات إنتاجية جادة. وعلى الرغم مما سبق فلايزال هناك دور مهم وحيوي يقع على كاهل القطاع الخاص المصري خلال المرحلة الراهنة وتتطلب مشاركة فعالة وقوية منه، إذا أراد أن يكون شريكا حقيقيا وفاعلا في العملية التنموية بالبلاد.
خريطة الملكية العامة في مصر
يفرق القانون بين الأصول المملوكة للدولة ملكية خاصة وتلك المملوكة ملكية عامة، فالثانية تكون مخصصة للنفع العام ولا يجوز الحجز عليها ولا تملكها بالتقادم أو وضع اليد وخاضعة للقانون الاداري. وتكتسب هذه الملكية بمقتضي القانون أو قرارات وزارية أو جمهورية. ولذلك نصت المادة 32 من الدستور على أنه لا يجوز التصرف في أملاك الدولة العامة. أما الأصول المملوكة للدولة ملكية خاصة فهي تحكمها قواعد القانون المدني مثلها مثل الأفراد، مع حمايتها من التعدي عليها، وبالتالي فإذا أردنا التصرف في الاصل العام فيجب أولا تجريده من صفته العامة وتحويله الي الملكية الخاصة، وهنا يجوز التصرف فيه بجميع أنواع التصرف اسوة بالخاص.
من هذا المنطلق فان الملكية العامة في مصر كبيرة ومتشعبة حيث تتراوح بين الهيئات الاقتصادية (55 هيئة) وشركات قطاع الاعمال العام الخاضعة للقانون رقم 203 لسنة 1991وعددها 21 شركة قابضة، منها 8 شركات قابضة تعمل تحت مظلة وزارة قطاع الاعمال العام، يتبعها عدد 119 شركة، و13 شركة قابضة تتبع وزارات مختلفة مثل الطيران والبترول والنقل، والتموين والري والزراعة.. الخ، بالإضافة الى الشركات الخاضعة للقانون 97 لسنة 1983 وعددها 43 شركة معظمها تابع للهيئات الاقتصادية وبعض الوزارات والشركات القابضة النوعية التابعة للوزارات (وعددها 14 شركة تتبعها 91 شركة تابعة) والشركات الخاضعة لأحكام القانون 159 لسنة 1981 وهي عديدة ومتنوعة وبنوك القطاع العام والتنمية والائتمان الزراعي، فضلا عن الشركات الخاضعة لبعض الهيئات الاقتصادية مثل هيئة البترول وتتبعها 12 شركة، وقناة السويس وتتبعها 7 شركات، والإنتاج الحربي وتتبعه 19 شركة وغيرهما.
ناهيك عن المشروعات والشركات المشتركة، ورغم غياب الحصر الدقيق لها فإنها قد وصلت الي 704 شركات في نهاية 2013 برأسمال يبلغ 683 مليار، ووصلت حصة المال العام فيها الي ٦٤٫٤ مليار جنيه تتوزع على جميع قطاعات الاقتصاد القومي. يضاف إلي ما سبق المشروعات الاقتصادية بالمحافظات والتي يقدر عددها بنحو 2300 مشروع تعمل في مجالات عديدة منها النقل والخدمات والأمن الغذائي.
بالإضافة إلى الأراضي والعقارات والمباني وحقوق الملكية الفكرية على الآلاف من المصنفات الفنية والكتب وغيرها، ناهيك عن الثروات الطبيعية التي حبا بها الله مصرنا العزيزة، اذ إن الصحراء التي تشكل نحو 94% من مساحة الدولة تتمتع بثروات معدنية كثيرة ومتعددة ولها مميزات نسبية من حيث الوفرة والجودة سواء تمثل ذلك في الذهب والفضة والحديد والمنجنيز والفوسفات، او الرمال السوداء والرمال البيضاء عالية الجودة والعديد من الخامات الأخرى التي تدخل في معظم الصناعات التكنولوجية والكيماوية والحرارية ومواد البناء.. الخ، وكلها أصول يمكن أن تولد قيما وتدفقات نقدية تساعد في تمويل عجز الموازنة العامة للدولة.
ونظرا لأن هذه الكيانات تعتبر وحدات مستقلة ذات شخصية اعتبارية ولها استقلالها المادي والإداري باعتبارها ذات طابع اقتصادي وفقا للقوانين المنظمة لها. فان العلاقة بينها وبين الموازنة العامة للدولة بمثابة علاقة ملكية تتركز في نتائج الأعمال. وعلاقة تمويلية تتركز في المساهمة والإقراض. وكان من المفترض ان تحقق هذه الجهات الهدف من استقلالها وان تدار على أسس اقتصادية وتجارية تمكنها من تحقيق فوائض مالية أو على الأقل تسهم في تمويل نفسها ذاتيا وبالتالي تخفف العبء عن الموازنة العامة إلا أن هذا لم يتحقق على الإطلاق بالنسبة لعدد كبير منها. بل وظلت هذه الجهات تحقق خسائر متراكمة عبر السنوات مما ادي الي التدخل لتمويلها من جديد وبأموال طائلة للغاية، وعلى الجانب الآخر فان الفوائض المحولة للموازنة العامة للدولة من بعض هذه الجهات، لم تعد تتناسب مع الأموال المستثمرة فيها من جهة، ومع ما تسهم به الموازنة في هذه الجهات من جهة أخرى.
وهنا تشير الإحصاءات إلى ضآلة ما تحققه هذه الثروات من عوائد وعدم تحصيل المستحقات على هذه الأصول وتراكم المتأخرات وعدم الاستغلال الأمثل. فرغم التحسينات التي دخلت على السياسة المالية فإنها لم تؤد الى زيادات الإيرادات العامة للدولة، بل على العكس نلحظ أن الإيرادات العامة للناتج المحلى قد انخفضت من 21% عام 2013/2014 الي 16% عام 2020/2021. وكما هو معروف فان هذه الإيرادات تأتي من الضرائب والمنح والايرادات الأخرى، مع ملاحظة ان هناك تراجعا هيكليا في مساهمة عناصر الايرادات الأخرى (والتي تأتي أساسا من أرباح الشركات والبنوك العامة والهيئات الاقتصادية وغيرها). وهنا نلحظ ان الأرباح المحولة للموازنة العامة من أسهم هذه الكيانات قد انخفضت من 71.6 مليار جنيه عام 2014/2015، الي نحو55 مليارا عام 2020/2021 بينما زادت الإيرادات من قطاع الاعمال العام والقطاع العام من 3.2 مليار الي 11.1 مليار خلال نفس الفترة. بينما تراجعت إيرادات المناجم والمحاجر (متضمنة إتاوة الذهب) من1.2 مليار جنيه الى 921 مليونا.
وهنا توجد عدة تساؤلات على رأسها الآليات الخاصة بنقل الاصول المملوكة للدولة ملكية خاصة، وبعبارة اخري ما هي آلية النقل وهل ستتم مقابل مديونيات هذه الجهات لمؤسسات؟ وهنا تثار قضية مهمة تتعلق بطبيعة هذه الأصول من حيث كونها تدخل في إطار الدومين الخاص للدولة، فهي أصول ملك للدولة ويمثلها في هذا المجال وزارة المالية التي تدير هذه الأموال لحساب الدولة، ومن ثم فان حصيلة استغلال هذه الأصول يجب ان تدخل للخزانة العامة باعتبارها موردا من موارد الدولة، واي خروج عن ذلك يتعارض مع مبادئ المالية العامة خاصة الوحدة والشمول.
دور جديد للدولة
للإجابة على التساؤل الذي يطرحه البعض عن سر الاهتمام بهذه الوثيقة، وهنا تجدر الإشارة الى أن أهميتها تكمن في كونها تعبر عن طبيعة الدولة المصرية ودورها المستقبلي. وهي مسألة خلافية، قابلة للأخذ والرد، القبول والرفض، والخلاف فيها جائز والاجتهاد واجب وطني شديد الاهمية يكاد يصبح فرض عين وليس فرض كفاية على كل المثقفين والمهتمين بالعمل العام في مصر، في هذا التوقيت بالذات. فاذا كانت ورقة أكتوبر الصادرة في السبعينيات من القرن العشرين، بمثابة التعبير الأيديولوجي عن سياسة الانفتاح الاقتصادي وما تلاها من دعوات لتشجيع الاستثمار الأجنبي والعربي وتنشيط دور القطاع الخاص، وإعادة تنظيم القطاع العام. فان هذه الوثيقة تمثل نقلة فكرية جديدة في هذا المجال، حيث وضعت عقدا اجتماعيا جديدا واقترحت ادوارا مختلفة للحكومة والدولة والقطاع الخاص وقطاع الاعمال العام الخ. من هذا المنطلق تقوم السياسة الاقتصادية المقترحة على دعامة أساسية مفادها إفساح المجال للقطاع الخاص للإسهام بالنصيب الأكبر في العملية الإنتاجية (زيادة الاستثمارات الخاصة الى 65%). من هذا المنطلق تمت إعادة صياغة الإطار العام والأهداف الحاكمة للتحول نحو القطاع الخاص على النحو الذي يصون المال العام، وتم ذلك من خلال رؤية شاملة ووافية لمحفظة الاستثمارات الحكومية ركزت على استهداف الكفاءة في إدارة الأصول المملوكة للدولة، ووضع أولويات المرحلة الحالية.
ومع تسليمنا الكامل بأن هناك حدودا قصوى للقطاع العام لا يمكن تخطيها، وذلك انطلاقا من ان أفضل ضمان لاستمرار القطاع العام هو تحوله الى قطاع كفء من الناحية الاقتصادية. وهذا ما يتطلب الانخراط في الاعمال والانشطة الاقتصادية الاساسية وترك الباقي للقطاع الخاص، وكما ذكر الاقتصادي الشهير كينز أن الشيء المهم بالنسبة للحكومات ليس هو ان تقوم بالأشياء التي يقوم بها الافراد بالفعل، وان تقوم بها على نحو أفضل قليلا أو أسوا قليلا، بل هو القيام بالأعمال التي لا يقوم بها هذا القطاع على الاطلاق.
ولا شك أن نجاح هذه السياسة يعتمد بالأساس على وجود سوق تنافسي قوي، وهى مسألة مهمة في ظل الأوضاع الحالية بالأسواق المصرية من هنا فقد أحسنت الوثيقة صنعا حين ركزت على الحياد التنافسي كوسيلة فعالة لضمان حرية المنافسة دون الحاجة الى النظر في شكل الملكية، وطالبت بتعزيز دور جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية ومطالبتها بسرعة إدخال التعديلات على القانون الحالي، وهى مسألة مهمة وضرورية. فعلى الرغم من أهمية آلية السوق فإن اللجوء إليها في كل الأمور يعتبر من قبيل الخطأ القاتل. اذ تعاني الأسواق اختلالات عديدة أكدها الكثيرون بشكل واضح صريح يعود بعضها الى الأوضاع الاحتكارية، والبعض الآخر ناجم عن الاعتبارات القصيرة الاجل في العمل، والتي تجعل السوق اقل قدرة على المنافسة او اقل كفاءة. من هذا المنطلق فان مواجهة هذه المشكلات تحتاج الى ارادة سياسية عن طريق تفعيل دور الدولة لتعويض اوجه النقص في هذا النظام. وتنشأ الحاجة الى التدخل الحكومي لضبط عمل الاسواق.
وينبغي ألا يفهم من ذلك أننا ضد الأخذ بمبدأ اقتصاد السوق وجهاز الثمن، بل على العكس من ذلك تماما فإننا نرى أن أفضل السبل لإحداث النهضة في المجتمع المصري هي السير على نظام «السوق الديمقراطي»، والذي يرتكز على معادلة الدولة الرشيدة والسوق الناضج وهي الوسيلة المثلى لصنع النهضة الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد.
فالحكومة في النموذج الذي نقترحه عليها عدة أدوار أساسية ورئيسية منها ضمان كفاءة آلية السوق بما يعنيه ذلك من توفير الظروف التي تجعل تفاعل العرض والطلب يتم في إطار حقيقي مع ضمان التخطيط الاستثماري السليم. وكذلك توفير المناخ الاستثماري الجيد، وهذا يعنى ببساطة إيجاد بيئة تنافسية تدفع للمزيد من الكفاءة في الإنتاج مع ضمان عدالة التوزيع لثمار النمو. وبمعنى آخر فانه بقدر ما لا يمكن إهمال آلية السوق وجهاز الثمن، الا انه لا يمكن ان يستمر ذلك دون التدخل الذكي والمنظم من جانب الدولة. فعلى سبيل المثال لا يمكن الاعتماد على قوى العرض والطلب في المشروعات الكبرى والعملاقة، اذ ان الطلب في السوق في النهاية هو محصلة للقوى الشرائية بينما الاهداف التنموية (مثل الصحة العامة ومحاربة المرض والتعليم او النهوض بالأحياء الفقيرة) تقع على عاتق الدولة.
وهنا يثار العديد من التساؤلات أولها يتعلق بتوقيت طرح الوثيقة في ظل عالم يموج بالتغيرات الاقتصادية الكبرى، وفى ظل موجة تضخمية تسود الاقتصاد العالمي ومن ضمنه مصر، وآثارها السلبية على أسواق المال وما يولده التضخم من شكوك ومخاوف تؤدى لإضعاف سوق المال خاصة مع ارتفاع أسعار الفائدة الى مستويات مرتفعة.
وعلى الجانب الآخر تشير الوثيقة الى انه من ضمن المعايير معيار الربحية ولم توضح هل تتحدث عن الربحية المالية بالمعنى الضيق ام الربحية الاقتصادية بالمعنى الواسع مثل الأثر على التشغيل والنمو الاقتصادي والتنمية الإقليمية الخ وهو الأهم.
ومن المعايير الأخرى التي أشارت إليها الوثيقة حوكمة الاستثمارات العامة وهي قضية جوهرية، فسوء تنظيمها يؤدى إلى الحد من المنافسة، ويزيد من التكاليف والأعباء على الخزانة العامة. وهو لا يقلل فقط من حجم الاستثمارات الجديدة والقائمة وفاعليتها، بل يؤثر أيضا على الاستثمارات الخاصة. كما يؤدى إلى سوء اختيار المشروعات وتغيير أولوياتها من جهة وعدم المتابعة الجادة والمستمرة لها خلال فترة التنفيذ، فضلا عن عدم إدراج بعض الأعمال الضرورية ضمن بنود العقود ومن ثم المغالاة في أسعارها بعد ذلك. وكلها أمور تؤثر بالسلب على العملية التنموية.