ربما تفاجأ البعض من الإعلان الفرنسى الذى صدر مؤخراً الأسبوع الماضى، مع بداية العام الجديد، حين أبلغ الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون نظيره الأوكرانى، خلال مكالمة هاتفية استمرت لساعة كاملة، أذيع أهم ما جاء فيها، أن باريس تستعد لتسليم كييف «دبابات خفيفة» فرنسية التصميم والصنع من طراز (AMX – 10 RC)، فى سابقة هى الأولى من نوعها تستقبل فيها كييف دبابات غربية الصنع.
وفق هذا التعهد ستصبح فرنسا الدولة الغربية الأولى التى ستقدم على تلك الخطوة، حتى وإن كان هذا الطراز من الدبابات يعمل فى خدمة الجيش الفرنسى منذ الثمانينات، ويجرى استبداله الآن تدريجياً بدبابات «جاكوار» القتالية الجديدة.
هناك من لم تصبه الدهشة بسبب هذا التطور للأزمة الأوكرانية، التى باتت أخبار تفاقمها وتعقيداتها تزاحم كافة أخبار العالم مجتمعة. الخبير الأمنى البريطانى «باتريك بيرى» قدّم فى معرض إجابته عما سُمى بالأسئلة الصعبة، التى طرحها موقع الشرق بلومبرج على مجموعة من الخبراء الدوليين بمناسبة العام الجديد، أن الزيادة فى التهديدات القادمة نتيجة للحرب الكاسحة التى شنتها روسيا على أوكرانيا، وفى أجواء التغول الصينى المتنامى على تايوان، قد حدت بدول كثيرة إلى زيادة إنفاقها الدفاعى بقدر كبير.
لذلك فى ظل التهافت الجديد على حيازة السلاح والعتاد، فإن المخزون المتوفر من شتى أنواع القذائف والأسلحة، سواء فى ترسانات روسيا أم الغرب، يتآكل بوتيرة سريعة فى أوكرانيا؛ ما أوجد طلباً إضافياً عاجلاً على السلاح وسبّب مشكلات استراتيجية أوسع أيضاً. أبرزها أن العالم فيما يتأسى على التكلفة البشرية المؤلمة لحرب روسيا على أوكرانيا، صار مشدوداً وبقسوة للتكلفة الباهظة التى تكبّدها الاقتصاد والخسائر فى السلاح.مديرة مجمع الاستخبارات الأمريكية «آفريل هينز» لفتت الانتباه مؤخراً إلى أن كافة التقارير التى تتوافر أمام مؤسستها تفيد بأن القوات الروسية فى أوكرانيا تستهلك الذخائر بمعدلات تفوق قدرة صناعة الدفاع فى روسيا على ملاحقتها، مما حدا بموسكو إلى التطلع لدول أخرى كى تساعدها فى سد تلك الفجوة المتسارعة.
تلك التقارير حددت متوسط (20000) قذيفة مدفعية تطلقها وحدات الجيش الروسى يومياً، وهذا معدل ينهك مخزونها من الذخائر التقليدية بأسرع مما تستطيع تعويضه، وينطبق هذا على بقية المخزون الروسى من القذائف ذاتية التوجيه مرتفعة التكلفة، التى تستعملها روسيا فى استهداف البنية التحتية الأوكرانية لتوليد الطاقة بغرض تعطيلها فى أشهر الشتاء.
وهذا ضغط استثنائى فادح مضاف إلى الخسائر العسكرية التى تتكبدها كييف، مما جعل وزارة المالية الأوكرانية تقدّر كلفة الحرب بعد مرور ما يقارب العام بنحو (10 مليارات) دولار شهرياً. الولايات المتحدة وحدها، وهى سابقة للداعمين الآخرين، قدمت حجم إنفاق عسكرى يتراوح بين 18 و20 مليار دولار خلال عشرة أشهر من عمر الحرب.
تضمّن 35 من أنظمة صواريخ المدفعية المتنقلة (HIMARS) مزودة بقذائفها، فضلاً عن أنظمة (Javelin) المضادة للدروع التى بلغت نحو (8500 وحدة)، و(1750) من نظام (Stinger) المضاد للطائرات، وأكثر من 3000 طائرة مسيرة تكتيكية، كما شمل الدعم مؤخراً أنظمة صواريخ أرض/ جو متطورة (NASAMS)، ونحو 150 من مدافع هاوتزر مع ذخائر تقارب المليون قذيفة تقريباً تحتاجها تلك الأنظمة المتنوعة وغيرها من الأسلحة.
حجم إنفاق هائل، وميزانيات ثقيلة فى حال أضفنا لها بقية دول الأطلسى التى تداخلت هى الأخرى بأحجام متفاوتة، تلك الدول لم تقدم إفصاحاً شاملاً كما الحال بالنسبة للولايات المتحدة، لكن الصفقات البريطانية والألمانية منذ بداية الحرب ومؤخراً الفرنسية التى دخلت إلى مستويات متقدمة، مجموعها لن يبتعد كثيراً عن رقم يقارب حجم الإنفاق الأمريكى.
هذا فيما يتعلق بالميزانيات المخصصة للسلاح والذخائر فقط دون التطرق إلى أرقام الدعم الاقتصادى والإنسانى، وهى تقدر بالمليارات أيضاً، وإن ظلت أقل كثيراً عن تلك التى تحاول اللحاق بالاستهلاك الجنونى الذى تتطلبه مقتضيات جبهات القتال على الجانبين. لهذا خرج مؤخراً للنور ما سمته عواصم غربية عدة بـ«صدمة المخزون الاستراتيجى»، فبالرغم من اتجاه الدول الغربية إلى تطوير أنظمتها اللوجيستية التى تتعامل مع مخزونها الاستراتيجى من الأسلحة والذخائر، فإن أحداث الحرب الروسية الأوكرانية أصابت غالبية تلك الأنظمة بانكشاف غير محسوب، فيما ثبت لديها أن احتياجات حروب سابقة مثل «العراق، وأفغانستان» تختلف جذرياً عما تتعرض له تلك البلدان الآن.
هذا المأزق لا يقتصر على الدول الغربية وحدها، ففى الجانب الآخر نجد روسيا التى ظلت تفاخر بقدرات آلة تصنيعها العسكرى على الوفاء باحتياجات جيشها خلال عمليات ما قبل الحرب التى ظلت فى حدها «الآمن»، بل وتحتل هذه الصناعة الهائلة مركزاً متقدماً على المستوى الدولى، فى حجم التصدير واعتمادية دول عديدة على تلك الآلة ذات القدرات المتنوعة، اليوم ومع اختبار قاس كما هو الحال فى أوكرانيا، وعلى أعتاب العام الثانى من عمر الحرب، انزلقت تلك السمعة الروسية التاريخية لذات الصدمة الاستراتيجية، بل وبدت أقرب لما يوصف فى الغرب بالأقل مناعة وأدنى تحملاً لما يجرى من حجم إنفاق، وقدرة الإنتاج والمخزونات على الوفاء بالعاجل والأكثر عجلة.
لهذا صار الآن الحديث عن لجوء موسكو إلى بلدان أخرى كى توفى باحتياجاتها الملحة من الأمور التى شكلت مفاجأة فى البداية لكن ما لبث أن توافر لأجهزة استخبارات الدول الأخرى الكثير من التفاصيل المؤكدة لهذا الأمر.عندما تم كشف استعانة موسكو بالمسيّرات الإيرانية «شاهد»، طُرحت عديد التساؤلات فى ظل حالة إنكار واسعة من الدولتين، إلى أن ثبت ذلك فى ميادين القتال وصارت حقيقة قديمة نسبياً.
بالنظر إلى ما يؤكده مجمع استخبارات الولايات المتحدة حديثاً؛ من أن روسيا لجأت إلى كوريا الشمالية لتأمين المزيد من إمدادات ذخائر المدفعية بالخصوص، ربما يبدو حجم الإمداد محدوداً حتى الآن، لكن فيما سيستمر مجمع الاستخبارات فى مراقبة مستوياته، يبقى التساؤل عن المدى الذى ستذهب إليه معدلات الإنفاق العالمى وسباقات احتواء «ما صُدمت به» الأطراف، وصُدم معها العالم أجمع!