أنجز باحثو «معهد دراسات الأمن القومى» الإسرائيلى، التابع لجامعة تل أبيب، الوثيقة السنوية التى يعمل عليها فريق من الخبراء فى الشأن الإقليمى والدولى والعسكري. وتصدر بعنوان «التقييم الاستراتيجى لإسرائيل» مصحوبا بتاريخ العام الذى يتناوله التقييم المهم. كون المعهد من الكيانات البحثية الأقرب لصانع القرار فى دائرة الحكم، فقد شهد تقديم الوثيقة البحثية إلى رئيس الدولة «يتسحاق هرتسوج» حفلا أقيم فى مكتبه، ترحيبا وتقديرا لرئيس المعهد البروفيسور «مانويل تراختنبرج» ومديره اللواء احتياط «تامير حيمان»، اللذين حرصا على استعراض موجز لما تحويه الوثيقة من تحليل شامل للبيئة الاستراتيجية لإسرائيل من منظور أمنها القومى، فضلا عن الوقوف على التهديدات والفرص المحتملة المصحوبة بسلسلة من التوصيات السياسية لصانعى القرار الإسرائيليين.
رئيس الدولة هرتسوج وصف ما جاء فيه أثناء لقائه بفريق المعهد البحثى، بأنه يظهر الفهم الإقليمى الذى بات أكثر وضوحا أن مستقبل الشرق الأوسط، هو إلى حد كبير مستقبل الشراكات. وحدد التهديد الإيرانى وانتشاره فى المنطقة بأنه يمثل أولوية تعاون، مشيرا إلى الأصدقاء فى الشرق الأوسط، باعتبار قضية إيران تشكل مصلحة إقليمية ليست مقصورة على مواطنى إسرائيل وحدها. هذه النقطة ليست بالجديدة، فإسرائيل لم تكف طوال السنوات الماضية، عن الإلحاح بأن التهديد الإيرانى هو الأبرز على مقياس معادلة الأمن الإقليمى، الذى تدعو أطرافه لتفعيل نوع من الشراكة فى مواجهته. هذا بالطبع طرح يختزل حقيقة المهددات، فهناك قائمة أخرى تقف على ذات مستوى التهديد الإيرانى، تطرحها أطراف رئيسية فى الإقليم الذى تخاطبه إسرائيل، لكن تل أبيب لم تبد فى أى وقت اهتماما فى التفاعل معها، أو استثمار الشراكات المشار إليها فى محاولة البحث عن آلية لإرساء معادلة استقرار حقيقية. لكن ما يمكن اعتباره صدقا مع النفس والواقع، أشار رئيس الدولة لما جاء فى التقييم الاستراتيجى ويثير القلق بشكل خاص، وهو ما يسمى بـ«المنطقة الداخلية» ويمثل ارتباطا وثيقا بأمن دولة إسرائيل. فقد أشار التقييم إلى أن الدولة تشهد أزمة ناتجة عن صراع داخلى خطير، فسر تفاصيلها الرئيس حين أشار إلى قدرة المجتمع الإسرائيلى على احتواء أعمق الخلافات فى الرأى، دون التخلى عن الإيمان بعقيدة العيش معا والعمل كشعب واحد. لذلك يرى أن تجسير الانقسامات، بما فيها الانقسامات السياسية، أهم خطوة فى الحفاظ على أمن دولة إسرائيل واستقرارها وازدهارها. هذا تفسير واف لعمق الشروخ التى أصابت الداخل الإسرائيلى، بعد صعود اليمين الأكثر تطرفا لمقاليد الحكم، مما استدعى البحث عن الجسور المفقودة التى أشار لها رئيس الدولة. اتفق قادة معهد دراسات الأمن القومى مع الجزء الأخير من تعليق الرئيس، وهو بالفعل ما تضمنه التقييم، مشيرا إلى توازن الأمن القومى الإسرائيلى، واعتبره مستقرا وإيجابيا فيما يتعلق بأعدائها الإقليميين. لكن يجىء عام 2023 بحسب التقييم؛ ليطرح سلسلة من التحديات التى قد تقوض هذا التوازن، قبل كل شيء الخطر على المرونة الاجتماعية، وعلى نظام الضوابط والتوازنات فى الديمقراطية الإسرائيلية. فمن المتوقع أن يؤدى تعميق الاستقطاب الاجتماعى بإسرائيل، إلى صعوبة التعامل مع التهديدات الخارجية. فما يعتبره تقييم معهد دراسات الأمن القومى أكبر تهديد إستراتيجى وأمنى تواجهه إسرائيل فى الوقت الحالى، يتمثل بإمكانية تدهور علاقاتها مع الدول الغربية والإدارة الأمريكية بالخصوص، فالخطوات التى تتخذها الحكومة الإسرائيلية يترجمها الغرب على أنها «إضرار بالديمقراطية»، لاسيما مخطط إضعاف الجهاز القضائى، إلى جانب تغيير نمط العلاقات مع السلطة الفلسطينية.
مدير المعهد ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية «أمان» السابق تامير حيمان؛ كان واضحا فيما توصل له التقييم، بأن المجال الجيواستراتيجى لإسرائيل بات مهددا بشدة، ذلك نابع من التغيرات الداخلية فى الولايات المتحدة. فريق باحثى المعهد أرجعوا فى تقييمهم الأمر إلى اشتداد حدة الاستقطاب والتطرف على جانبى الحاجز السياسى داخل الولايات المتحدة، ما تسبب فى تآكل تدريجى للمكون السياسى الداعم لإسرائيل. وقدمت توصيات تحذيرية، أن خطوات الحكومة الحالية سيتم تصويرها على أنها تثير غضب الولايات المتحدة والغرب، هذا سيصيب المصالح الإسرائيلية بضرر بالغ بحسب التقييم، وقد حدد بأنه لن يقتصر على الجمهور الأمريكى، لكنه سيمتد أيضا إلى أوساط المسئولين فى المناصب الحكومية. فالتقييم الإسرائيلى الاستراتيجى يرصد؛ تصاعد قوة التيار التقدمى فى الولايات المتحدة، مشيرا إلى أن هذا التيار ينكر «شرعية» إسرائيل والصهيونية، ويعتبرها تجسيدا للتفوق العرقى للبيض والكولونيالية. بقى من التقييم الاستراتيجي؛ الجزء المتعلق بما سماه «انهيار السلطة الفلسطينية»، فقد اعتبر هذا الأمر يمكن أن يؤدى إلى تصعيد أمنى خطير فى الضفة الغربية، ووصفه بالتهديد الأكثر إلحاحا لإسرائيل، رغم اتفاق التقييم مع رئيس الدولة باعتباره يأتى فى المرتبة الثانية بعد التهديد الإيراني. لكن أهم ما تناوله التقييم فى تلك النقطة أن استمرار وجود السلطة الفلسطينية، رغم مشكلاتها وعيوبها، هو مصلحة إسرائيلية واضحة. اللافت أن توصية التقييم بهذا الشأن جاءت لتشير إلى أنه فى ظل غياب حل واضح مع اقتراب نهاية فترة رئاسة محمود عباس السلطة الفلسطينية، وعلى خلفية الاضطرابات المتزايدة بين شريحة واسعة من الشباب المحبطين، هناك خطر متزايد من تأجج العنف. مما سيؤدى بالتبعية إلى تفاقم التهديد الاستراتيجى الخطير الكامن فى الانزلاق إلى واقع «الدولة الواحدة»، الذى سيعرض للخطر هوية إسرائيل اليهودية.
نقلا عن جريدة الاهرام السبت28 يناير 2023 السنة