تزامناً مع الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية، أعلنت طهران، السبت الماضى، إجراء تجربة ناجحة لصاروخ عابر جديد، يصل مداه لنحو 1350 كيلومتراً. ليس مستغرباً أن تكون إيران قد اختارت ذلك التوقيت للإعلان عن هذا التطور العسكرى التقنى الذى يضيف لها رصيداً نوعياً فى منظومة قوتها الشاملة، فهى لم تكن، وسط اضطراب علاقاتها الخارجية، لتضيع فرصة تلك الذكرى من دون أن تقفز خارج أسوار التقييد والعقوبات الأمريكية، بـ«مشهد» يرمم ما تتعرض له من اهتزاز داخلى، ولعله يصحح زاوية الإبصار إلى المستقبل بدلاً من تلك العيون الغائمة.
وزير الدفاع الإيرانى «أمير حاتمى»، فى خيلاء الاحتفال الرسمى بعملية الإطلاق، أعلن أن الصاروخ «هويزه» سيمثل الذراع الطولى لجمهورية إيران الإسلامية، بعد أن تمكن من التحليق على علو منخفض للغاية، وأصاب هدفه المحدد بدقة. مما يعنى أن التجهيزات التقنية لـ«التوجيه» وصلت، فى حال صحة هذه التجربة، إلى مستوى متقدم، خاصة أن القائمين على هذا التطوير من خبراء «المنظمة الجوية الفضائية» التابعة لوزارة الدفاع الإيرانية. مما لا شك فيه أن الصاروخ «هويزه» ينتمى لمجموعة صواريخ «سومار» العابرة، التى كُشف عن نماذجها الأولى عام 2015، بمدى لم يكن يتجاوز حينها 700كم. الآن فضلاً عن الوصول إلى المدى المذكور، ودقة التوجيه، فالنسخة الجديدة قادرة على حمل رؤوس تتراوح أوزانها بين 450 و1200كجم من المواد شديدة الانفجار، القادرة على إحداث إصابات بالغة وتدمير كبير لأهداف أرضية ثابتة.
لا يخلو المشهد الإيرانى من شكوك عديدة، لدى خبراء دوليين فى تقنيات صناعة صواريخ الكروز وغيرها من تكنولوجيا إنتاج المحركات النفاثة، من أن تكون طهران قد تغلبت بالفعل على المشكلات التقنية الخاصة بالصواريخ الباليستية طويلة المدى، خاصة أن فشل تجربة وضع قمر صناعى، بعد إطلاقه يناير الماضى، فى مداره عبر صاروخ «سفير» لا تزال ماثلة للعيان. لذلك تأتى عادة ردود سلبية على مثل تلك الإعلانات الإيرانية، خاصة من جانب الخبراء الأوروبيين الذين يصفون الأمر بالمبالغة الإيرانية فى قدرات ما تصنعه، فى حين تعتبره الولايات المتحدة خرقاً للقرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن، ويحظر على طهران تطوير منظومات الصواريخ الباليستية، القادرة على حمل رؤوس نووية، لمدة ثمانية أعوام اعتباراً من يناير 2016، فواشنطن كشفت منذ شهر تقريباً، معلوماتها الاستخباراتية التى توصلت إليها قبيل إصدار دونالد ترامب قرار انسحابه من المعاهدة النووية، ومثلت تلك المعلومات حينها الظهير الذى استندت إليه تلك الإدارة وهى تكيل الاتهامات إلى سابقتها التى عدتها سبباً فى تفاقم الوضع الذى مارست طهران عليه احتيالاً فاضحاً من وجهة نظرها وتقديرها المعلوماتى.
حينها كانت إدارة ترامب تتحدث عن صاروخ «خرمشهر» الذى أعلنت عنه طهران فى سبتمبر 2017، باعتباره الصاروخ الباليستى الأكبر فى الترسانة الإيرانية، من خلال قدرته على التزود برؤوس نووية، فضلاً عن مداه الذى يمكن أن يصل إلى 2000كم. وقد حذر وزير الخارجية الأمريكى طهران من المضى قدماً فى تطوير التجارب الصاروخية، خاصة التى تشمل صواريخ يمكن التحكم بها عن طريق الأقمار الصناعية. لذلك اعتبر الصاروخ «خرمشهر» أساس البرنامج الصاروخى، بقدرته على حمل عدة رؤوس يصل وزنها إلى 1800كجم، وهذا يمنحه قدرة اختراق الدفاعات الصاروخية للعدو، على اعتبار أن رأساً نووياً واحداً يمكن أن يتسبب بدمار كبير فى منطقة واسعة، حتى وإن لم يصب أهدافه بدقة.
كلمات نائب القائد العام لقوات الحرس الثورى الإيرانى، التى أطلقها بشكل معلن صباح الأحد فى حديث تليفزيونى، تُعد الأقرب التصاقاً بما تخطط له الدولة الإيرانية فى استراتيجيتها المتعلقة ببناء قدراتها الشاملة، فهو ذكر بوضوح أن إصرار الدول على نزع السلاح الصاروخى الإيرانى قد يدفع بلاده إلى المضى قدماً بشكل متسارع إلى إحداث طفرة استراتيجية فى صناعة الصواريخ، معتبراً أن تعزيز قدرات إيران فى هذا الاتجاه لن تتوقف أبداً، حيث تمثل القدرة الصاروخية لطهران واحداً من أركان قوة الردع الإيرانى، ومشيراً إلى أن ما تعيشه إيران اليوم، فى ظل تهديدات جدية، يحتم عليها توجيه تحذير، خص أوروبا تحديداً به، بأن التآمر على هذه القدرات من خلال التخطيط لنزع السلاح الصاروخى لن يكون مقبولاً، ولن تسمح طهران بإدراجه فى أى مفاوضات بينية معها مستقبلاً.
هذا الملخص من حديث نائب القائد العام للحرس الثورى يترجم واقعياً ما تقوم به طهران، وما تتحسب منه فى آن واحد. هى تدرك جيداً أن مساحة الحركة أمام الدول الأوروبية ليست مطلقة الأفق، بل هى أقرب للتقلص فى أول فرصة قد تجدها مهددة لمصالحها المتشعبة. لذلك خص النائب أوروبا بحديثه، فضلاً عن إدراكه أن الجسر الذى من الممكن لطهران عبوره مستقبلاً تجاه إدارة أمريكية جديدة، أو الحالية فى حال تبدل تشددها، سيكون أوروبياً، وسيتشكل بوساطتها، فهى عادة ما تغلِّب مصالحها المشتركة مع إيران، فمشهد المستقبل أمام طهران يبدو غائماً، إلا من مفردات صفقة، يمكنها أن تخرج بها إلى آفاق أبعد من الضيق الذى بدأت تُدفع إليه.
مبدأ الصفقة التى لا تجد طهران مخرجاً إلا عبرها، يحتم عليها الإمساك بالعديد من أوراق اللعب، التى ستحتاجها على موائد التفاوض. هذا ظهر أيضاً فى جُل حديث العميد «حسين سلامى»، حيث وضع المباحثات حول المشروع الصاروخى موضع الرفض، ربما بطريقة حث الأطراف على الدخول على هذا الخط، حيث يمكن تقديم تنازلات فيه مقابل الحصول على انفراجات تتلهف عليها طهران. وهنا فى طيات تلك الصفقة لم يظهر، حتى الآن، مفردات تعكس اهتماماً بالمصالح العربية، رغم أن ما جرى على أى حال، وما خرج من تلك الذكرى التى استدعت شحذاً صاروخياً، مما يخل بموازين القوة فى المنطقة المزدحمة بصراعاتها.
*نقلا عن صحيفة “الوطن”، نشر بتاريخ ٥ فبراير ٢٠١٩.