هناك فى داخل روسيا من يتحدث؛ عن المؤسسة العسكرية التى لم تنس ما تجرعته من حرج بالغ وصل إلى حد الإهانة، خلال أحداث الرابع والعشرين من يونيو الماضى حين تناقلت وسائل الإعلام المحلية والعالمية، أخبار «التمرد المسلح» الذى كبد خلال ساعاته المحدودة سلاح الجو الروسى خسائر، تفوق ما تعرض له فى شهور الحرب الأوكرانية الطويلة. وهناك من يتذكر أنه مضى على هذا المشهد شهران كاملان، دون أن يفصح الكرملين ولو بإشارة واحدة عن التسوية الغامضة بالغة السرية، التى استعان فيها الرئيس بوتين بحليفه البيلاروسى ألكسندر لوكاشينكو، كى يغير مسار زحف مقاتلى فاجنر وعلى رأسهم يفجينى بريغوجين من الطريق نحو موسكو، للانحراف تجاه الأراضى البيلاروسية لتصير ملاذا وساحة علاج لاحقة، لتلك الفوضى التى لم يكن بوتين ليتحمل أبعادها على مكانته.
الإقالة التى جرت فى 23 أغسطس نفس يوم سقوط طائرة قادة فاجنر، بإزاحة الجنرال «سيرجى سوروفيكين» من قيادة سلاح الجو واستبداله بالعقيد «فيكتور أفزالوف»، تلقى بشكوك حول الارتباط الذى لا يجوز اعتباره محض صدفة. خاصة والجنرال سوروفيكين يحيط مصيره كثير من التكهنات منذ أحداث تمرد فاجنر، فقد غاب سوروفيكين عن المجال العام بعدما جرى تصفية التمرد مباشرة. كان الجنرال سوروفيكين وسيطا رسميا بين الجيش ومجموعة فاجنر عقب الأزمة التى نشبت بين بريغوجين والقيادة العسكرية،الخاصة بتزويد مقاتليه بالذخيرة التى يحتاجونها للقتال فى أوكرانيا. قبل هذا الموقع الوسيط بين المؤسسة وقيادة فاجنر؛ شغل سوروفيكين فى أكتوبر 2022 منصب قائد القوات الروسية فى أوكرانيا، فى خطوة قيل حينها إنها بإيعاز وترحيب من بريغوجين. لكن هذه المهمة سرعان ما تعثرت فلم تدم سوى ثلاثة أشهر، قبل أن يعهد بقيادة هذه القوات الى رئيس الأركان جيراسيموف مباشرة. تبقى هذه الإزاحة الأخيرة؛ الثابت أن هناك دورا خفيا لم يكشف عن تفاصيله بعد لعبة الجنرال سوروفيكين فى تمرد قوات فاجنر، مدى هذا الدور غير واضح لكن الثابت أن هناك مقطعا مصورا جرى تداوله على نحو واسع حينها، يشبه إلى حد كبير المقاطع التى كان يبثها بريغوجين، مما رجح أن تصويره جرى بمعرفة الآلة الإعلامية لفاجنر. هذا المقطع ظهر فيه الجنرال سوروفيكين فى أحد معسكرات فاجنر ليلة «23 ـ 24 يونيو» بين عدد كبير من المقاتلين، يستحثهم فيه على عدم المضى قدما إلى موسكو بأداء مريب أثار كثيرا من الشكوك، فيما اعتبر نوعا من التمويه أو اصطناع تبرئة الذمة التى لم تقنع أحدا !
بعد شهرين من أحداث التمرد المسلح؛ باتت الشروخ ظاهرة ولا يمكن لأحد إخفاؤها، وظهر للعلن شكل الاصطفاف بين المحاور، الذى سعت القيادة الروسية لإنكاره طوال الوقت. وزير الدفاع ورئاسة الأركان فى جانب يغلب عليه الطابع المؤسسى، وفى المقابل هناك رئاسة الدولة ممثلة فى الرئيس بوتين ودائرته السياسية، هم من أفسحوا المجال بأكثر مما كان يحتمله مشهد الحرب بتعقيداته كى تدخل فاجنر، على أن يسند لها مهام تعثر وتباطأ الجيش الروسى فى تحقيقها. استثمر بريغوجين علاقته الاستثنائية بالكرملين فى مواقف كثيرة، بدت خشنة فى عديد منها بالنسبة لقيادات المؤسسة العسكرية، للحد الذى صارت فيه فاجنر تدريجيا تمثل عبئا حقيقيا على توازنات الحكم. لذلك لا يستبعد كثير من المراقبين داخل روسيا أن قيادة الجيش مارست ضغطا على الرئيس من أجل تصفية ملف «فاجنر» وقياداته، بل هناك من أكد وجود خطة اعتمادها الكرملين، عملت عليها أجهزة الاستخبارات بهدف تصفية وتشتيت هذه القوات، ومن ثم الانقضاض على قيادته فى الوقت المناسب.
فى منتصف يوليو الماضى نشر موقع (Gulagu. Net) الاستقصائى الروسى، نقلا عن مصادر فى مقر قيادة قوات فاجنر أن «أندريه تروشيف» الرجل الثانى بعد بريغوجين، رفض المشاركة فى التمرد المسلح بل وسلم جهاز الأمن الروسى ووزارة الدفاع معلومات ثمينة عن مسار التمرد وأبعاده، مكنت تلك المعلومات حينها قيادات الجيش من إدارة مشهد الانقلاب عن بعد، ليخرج بتلك الصورة الفاضحة، التى فتحت لهم المجال لاحقا لتقليص وجود قوات فاجنر بجبهات القتال، وهو ما تم بالفعل بعد أسابيع قليلة من هذا التاريخ. نشر هذا التقرير الروسى جاء بعد أيام من مقابلة أجراها الرئيس بوتين مع صحيفة «كوميرسانت»، ذكر فيها لأول مرة اسم «أندريه تروشيف» عندما لمح إلى أنه عرض على عناصر فاجنر الفرصة لمواصلة القتال، تحت قيادة تروشيف الذى كان قائدهم الحقيقى طوال الوقت بحسب تعبير الرئيس بوتين. اليوم بعد نحو شهر ونصف شهر من بث هذا التقرير والمقابلة، يتردد اسم «أندريه تروشيف» كونه أهم وأقوى المرشحين لخلافة يفجينى بريغوجين فى قيادة شركة فاجنر، ويبدو أنه لا ينقصه، مباركة كل من الكرملين والمؤسسة العسكرية كى يتقدم لإدارة العلامة التجارية بجميع أفرعها، كرجل أول يحظى بالدعم الرسمى ويمكنه أن يرتب البيت الداخلى ويضبط الولاءات التى اختلت على يد بريغوجين. الثابت أن الطائرة التى سقطت، كانت تحمل على متنها بالإضافة لبريغوجين عددا آخر من قيادات فاجنر، كلا من ديمترى أوتكين، وسيرجى بروبوستين، ويفجينى ماكاريان، وألكسندر توتمين، وفاليرى تشيكالوف، ونيكولاى ماتيوسييف، وجميعهم لقوا حتفهم فى الحادث. هذه حمولة ثقيلة؛ كون هؤلاء هم القادة الكبار والأهم داخل فاجنر، بطبيعة مسئولياتهم والمهام التى يقومون بها، وبدا تجمعهم على هذا النحو فى رحلة جوية واحدة، بغرض معالجة أمر جلل يخص الشركة ما دفعهم لتجاوز إجراءات الحيطة الأمنية، بالنظر أيضا إلى أنه كانت هناك طائرة أخرى مصاحبة ولم يستقلها أى منهم. على أى حال؛ التحقيقات تدور لمعرفة ملابسات ما جرى، فيما تظل الشواهد والظلال محيطة بمن تحتم عليه ترتيب الفوضى وما خلفته.