بات بحر الصين الجنوبي ساحةً للتنافس إلى الحد الذي جعل بعض التحليلات تراه إحدى أكثر النقاط اشتعالًا في المستقبل، لتكون ساحة حرب فيما بعد بين القوة الصينية الصاعدة، وبين الولايات المتحدة وحلفائها. ففي أغسطس الجاري، شهدت منطقة ريناي المرجانية في جزر سبراتلي، أو منطقة سكند توماس شول -وفقًا للتعريف الصيني- مناوشات بين قوات خفر السواحل الصينية والفلبينية، بعد توجيه خفر السواحل الصينية مدفع مياه إلى سفن إعادة إمداد خفر السواحل الفلبينية في طريقها إلى توماس شول محل النزاع بين البلدين، وهو حادث وصفته مانيلا بالمفرط والهجومي، واعتبرته بكين ممارسة لضبط النفس العقلاني.
تاريخ مأزوم
لم تكن تلك الحادثة هي الأولى بين الصين والفلبين، بشكل عام تراوحت بين الحصار، وتوجيه الليزر إلى أبراج المراقبة. وقد بدأت المناوشات بينهما حول السفينة محل الحادث منذ عام 1999م، حين رست سفينة حربية فلبينية تدعى “سييرا مادري” في منطقة ريناي، وهو ما اعتبرته الصين أمرًا غير قانوني، وطالبت السفينة بالانسحاب، لكن حتى الآن لم يتم تنفيذ الوعد بسحب تلك السفينة منذ ذلك الوقت، وباتت محل مناوشات بسبب السعي الأمريكي للتواجد بشكل أكبر هناك بحجة دعم الفلبين. لكن في الوقت نفسه غضت الصين الطرف عن قيام الفلبين بتجديد الإمدادات لمشاة البحرية على متن السفينة، إلا أنها منعت تسليم المواد التي يمكنها إصلاح السفينة.
وقد أُغرقت تلك السفينة عمدًا في العام ذاته 1999م، لإثبات حقوق الفلبين في تلك المنطقة من جزر سبراتلي، التي تطالب بها بكين أيضًا. إذ ترى بكين أن لها الحق في حوالي 80% من بحر الصين الجنوبي فيما يطلق عليه خط القطاعات التسعة، ويمتد من البر الصيني إلى المياه القريبة من كل من إندونيسيا، وماليزيا، وفيتنام، وبروناي، والفلبين.
وبالنسبة لحالة إطلاق المياه على السفن الفلبينية من جانب الصين، فقد سبق أن حدث مثيلها في نوفمبر من عام 2021م، وتمثل الرد الفلبيني وقتها في استدعاء السفير الصيني بعد اتهام بكين بسلوك غير قانوني ومناورات خطيرة، وحازت بعد ذلك بدعم العديد من الدول على رأسها الولايات المتحدة، وفرنسا، واليابان، وأستراليا.
خلال تلك السنوات وحتى الآن، ورغم تلك المناوشات، باتت الفلبين أمامَ ضرورةِ اتباعِ نهجٍ حذرٍ خلال السنوات الماضية للحفاظ على خط تواصل مع الصين، لكنها في الوقت نفسه تعرضت لبعض الحوادث، مثل استخدام الصين ليزر عالي الطاقة ضد سفينة خفر سواحل فلبينية في فبراير الماضي، بالإضافة لزيادة التدريبات البحرية في بحر الصين الجنوبي.
مؤشرات تصعيدية
يحمل هذا الحدث مجموعة مؤشرات للتصعيد بين البلدين في حالة أنّ استيلاء الصين على توماس شول بات أمرًا حتميًا، وفي ظل رغبة الفلبين للحفاظ على سيطرتها على الشعاب المرجانية المتنازع عليها، يمكن ذكر بعضها كالآتي:
- تحريض أمريكي: هددت الولايات المتحدة عبر وزارة خارجيتها بالتدخل إذا تعرضت مانيلا لهجوم من طرف آخر، متهمة الصين بانتهاك القانون الدولي. وعبّر بيان البنتاجون الصادر إبان الحادث عن دعمه لحكم تحكيم عام 2016م، كما عملت الولايات المتحدة على استغلال علاقتها الدفاعية بالفلبين للتواجد بتلك المنطقة، وحشد حلفائها مثل اليابان وأستراليا لزيادة تواجدهم عسكريًا في بحر الصين الجنوبي. كما بات تعاون الفلبين مع تلك الدول إحدى أولويات الرئيس الفلبيني الحالي دون اعتماد مفرط. في البداية كان التواجد من خلال التدريبات المشتركة بين واشنطن ومانيلا، ومنها ما تم إجراؤه في أبريل 2023م، وتم اعتبارها أكبر تدريبات مشتركة حتى الآن بينهما.
وقد سبق أن أبدت الولايات المتحدة تخوفها من مشاريع الاستصلاح التي تجريها بكين في خليج مانيلا، لبناء المزيد من الجزر الصناعية، وعملت على الترويج عالميًا للتأثيرات البيئية لذلك، ومناقشتها مع مانيلا، خاصةً أنّ الشركة القائمة بتلك الأعمال مدرجة في القائمة السوداء الأمريكية، كما أنّ عملية الاستصلاح تتم بالقرب من السفارة الأمريكية في مانيلا.
جدير بالذكر تلك المفارقة بين التعامل الأمريكي مع المناورات المشتركة التي أجرتها الصين بالتعاون مع روسيا قبالة سواحل ألاسكا في المنطقة الاقتصادية الخالصة للولايات المتحدة، ورد فعلها تجاه حادثة السفينة الفلبينية.
- تعزيز التعاون الأمريكي الفلبيني: تعمل الولايات المتحدة على التقارب مع الفلبين، والعديد من الدول الآسيوية لتطويق الصين، ولنفي مسألة التراجع الأمريكي عن التزاماتها، وإظهار أنها “شريك أفضل” في المنطقة، وظهر ذلك من خلال الزيارات المتلاحقة، والمبادرات الاقتصادية. وفيما يخص الفلبين، كجزء من اتفاقية التعاون الدفاعي المعزز، التي تم توقيها في عام 2014م، تم الإعلان في فبراير 2023م، عن اتفاق دفاعي أمريكي فلبيني، يستهدف السماح للجنود الأمريكيين باستخدام 4 قواعد عسكرية للتصدي للنفوذ الصيني، وتم تطوير الأمر لتكون المناقشات المشتركة حول استخدام تسعة معسكرات فلبينية. يستهدف هذا التقارب بشكل عام، ردع التغلغل الصيني في منطقة بحر الصين الجنوبي، واستغلال ما تتعرض له السفن الفلبينية للتواجد في تلك المنطقة بحجة تنفيذ التزاماتها الدفاعية. على الجانب الآخر، سبق أن اعتبر مسئولون فلبينيون أن السماح بتوسيع الوجود العسكري الأمريكي يصب في مصلحة مانيلا، ويعزز قدرتها على الاستجابة للكوارث الطبيعية.
- تكثيف عسكري صيني: منذ عام 2014، بدأت الصين تكثيف تواجدها بشكل عام في بحر الصين الجنوبي عبر إقامة 4 جزر صناعية في خطوة لإثبات حقوق السيادة على أجزاء من البحر، وتوسيع مجال نفوذها. ثم تم العمل على عسكرة تلك الجزر في خطوة تتنافى مع تعهد الرئيس الصيني “شي جين بينج” في عام 2015، بأنّ الصين لا تنوي الاستمرار في نهج عسكرة الجزر، لكن ما يحدث على أرض الواقع يؤكد نهج “الذئب المحارب”، الذي تسلكه الصين مؤخرًا في السياسة الخارجية. كما أنّ الصين لا تعترف بحكم تحكيم عام 2016م، الذي يرفض ما يسمى بخطة القطاعات التسعة، الذي وضعته بكين لتحدد سيادتها في بحر الصين الجنوبي، وتراه غير قانوني، وينتهك اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
- استخدام القوات غير الرسمية: في ظل الحديث في الآونة الأخيرة حول دور القوات شبه العسكرية في السياسة الخارجية للدول، أظهرت تقارير أنّ الصين لجأت في حادث إطلاق المياه إلى السفينة الفلبينية قوات تشبه الميلشيا البحرية، تستخدم ما يشبه قوارب الصيد الزرقاء، وهي سفن لا تتشابه مع سفن خفر السواحل التي تحمل العلم الصيني، وهي نفس نوع السفن التي سبق أن اجتاحت في عام 2021م، منطقة وايستون التي تطالب بها الفلبين أيضًا، لكن لا تعترف بكين بوجود مثل هذه الميليشيا؛ إلا أنها تساعد الصين بالفعل فيما يسمى “المنطقة الرمادية” من خلال تنفيذ أعمال أقل من وصفها بأعمال الحرب، لكنها تساعدها في كسب الأراضي، والسيطرة عليها دون إراقة الدماء.
- اتهامات وتهديدات صينية: كرد فعل صيني على التقارب الأمريكي الفلبيني، اتهم سفير بكين في مانيلا الفلبين بإذكاء نار التوترات الإقليمية، من خلال السماح للولايات المتحدة الوصول لمواقع عسكرية على اعتبار أنه تدخل في شئون الصين مع تايوان. وجّه السفير تهديدًا للعمال الفلبينيين المغتربين في تايوان، مطالبًا مانيلا بمعارضة استقلال تايوان، وعدم السماح بدخول القوات الأمريكية بمواقع قريبة من الجزيرة.
احتمالات التراجع
رغم وجود الأسباب التصعيدية للأزمة بين الصين والفلبين، إلا أنّ هناك مجموعة أخرى يمكن رؤيتها كمسببات لتراجع الطرفين عن مزيد من التصعيد، يمكن ذكر بعضها كالآتي:
- جهود الآسيان: وسط آراء تدعو لوقف المفاوضات بين الآسيان والصين، حول مدونة قواعد السلوك التي تحكم سلوك الدول المتشائطة على بحر الصين الجنوبي، إلا أنّ إندونيسيا كونها رئيسة الدورة الحالية لرابطة الآسيان تبذل الجهود؛ كي يتم إحراز تقدم في تلك المفاوضات، والوصول على الأقل لاتفاق عملي، وقابل للتنفيذ في المستقبل القريب؛ كي يتم ربطها بالقانون الدولي، وقانون البحار.
- تذبذب الفلبين: كرد فعل على الحادث؛ صرح الجيش الفلبيني أنه يبحث خيارات تعزيز سيطرته على منطقة سكند توماس شول، وانظر في إجراءات إطالة فترة الإقامة هناك، بجانب إجراء دوريات بحرية مشتركة مع الولايات المتحدة بحلول نهاية عام 2023م، وتوفير أساطيل إضافية من السفن لمرافقة مهام إعادة الإمداد. لكن بشكل عام، ورغم هذا التحفز الظاهر، تحاول الفلبين إقامة توازن في علاقتها بالصين والولايات المتحدة، ورفض الوقوع فيما يطلق عليه الحرب البادرة، إلا أنّ البعض يذهب إلى أن الرئيس الفلبيني الحالي “ماركس جونيور” عمل على استئناف الاتصالات مع بكين بشأن القضايا الاقتصادية، وفي نفس الوقت تعزيز نظامه الدفاعي بمساعدة أمريكية، إذ منحت الولايات المتحدة في عام 2022م، ما يقرب من 100 مليون دولار لتعزيز القدرات الدفاعية الفلبينية.
- التخوفات الفلبينية من الهجوم على تايوان: تعد الفلبين الأقرب إلى تايوان، التي تقع في أقصى شمال لوزون على بعد 200 كيلومتر، بما يجعلها محل محتمل لمواجهة الغزو البرمائي لتايوان. لكن لا يزال من غير الواضح، إلى أي مدى ستسمح الفلبين باستخدام أراضيها للدفاع عن تايوان، فهناك مخاوف من أن أي نزاع حول تايوان سيجعل من الصعب على الفلبين أن تظل محايدة فيه، وأنها ستكون الوجهة الأكثر احتمالًا للاجئين التايوانيين، وسيتعرض حوالي 150 ألف فلبيني للخطر؛ بسبب أي هجوم صيني. وهو ما قد يجعل الفلبين – في ظل القيادة المتقاربة مع الولايات المتحدة – أن تطالب بضمانات أمريكية، والمساعدة في تحديث قواتها المسلحة.
في الختام، تذهب الترجيحات إلى أن سلوك بكين، قد يؤدي لمواجهة بين القوى الكبرى في حالة اتخاذ الولايات المتحدة القرار بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك مع الفلبين، وأنّ ما فعلته الصين يضع الفلبين في موقف لا يمكنها من خلاله التهدئة دون التعرض لمذلة دولية. إلا أنه رغم تزايد النشاط البحري الصيني في ظل مساعي الدولة لتقوية وتحديث القوات المسلحة، وبناء قوة بحرية يمكنها التكيف مع الاحتياجات العسكرية للقرن الجديد، وهو ما دفعها لزيادة إنفاقها العسكري بنسبة 7.2% هذا العام. كما أنّ الترجيحات بتصعيد لحد الوصول لحالة الحرب في الوقت الحالي في المنطقة لا تزال مقيدة بعدم اليقين، لأن الصين تركز في أهدافها الخاصة بتجديد شباب الأمة، وفي الوقت نفسه الحفاظ على حالة ثنائية جيدة في علاقتها بالدول المحيطة، التي ستراقب عن كثب تطورات النزاع بين الصين والفلبين، لتحدد موقفها هي الأخرى من نزاعاتها الإقليمية.