نصف قرن يفصلنا عن ملحمة حرب أكتوبر المجيدة التى شهدت تشكل تجربة فريدة، أفصحت بجلاء عن مكنون العبقرية المصرية حين تقف على أعتاب لحظة مصير كما كان الحال عام 1973. سنوات طوال ومازالت نسمات أكتوبر، تحمل لنا أريج هذه الأيام الأغلى من تاريخنا الحديث، كونها صناعة مصرية وطنية خالصة تعطى لها بالفعل أسبقية فخر، لكن هذا لم يكن وحده، ففى حرب أكتوبر دشن المقاتل المصرى حزمة من القيم تصلح لكل عصر، وفيها أدرك الشعب المصرى أن طريق البطولة قبل أن يفرش بالورود، يعبد بالجهد والعرق والدم، والكثير من العمل متسلحا بالذخيرة المعرفية.
وانحيازا لإعلاء قيمة المعرفة؛ فى العام الذى يحمل رقماً فارقاً من عمر تلك الذكرى السنوية، أرشح عملين على قدر عال من الأهمية نقدمهما ونمضى مع بعض مما جاء فيهما من حقائق دامغة، اعتقادا بأن قراءة وبحثاً من هذا النوع، يضيئ أمام الأجيال الأهم فيما جرى من أحداث خلال حرب أكتوبر، ويعيد لهم القدرة على التسلح فى مواجهة «حرب الوثائق»، التى يعمل عليها الجانب الإسرائيلى منذ أعوام ويستعد لطرحها هذا العام بمناسبة مرور خمسين عاما على حرب أكتوبر.
العمل الأول صادر عن المركز القومى للترجمة فى 2014، بعنوان «انتصار أكتوبر فى الوثائق الإسرائيلية: وثائق القيادة السياسية»، خرج هذا العمل البحثى المهم فى جزءين بدراسة ومراجعة دكتور إبراهيم البحراوى الأستاذ الكبير للدراسات العبرية الحديثة، ومشرفا على فريق بحثى مكون من «10 باحثين». طرح فى مقدمته؛ أن الكتاب يطرح سؤالاً من شقين، الأول لماذا صممت السلطات الإسرائيلية على حجب أهم الوثائق لمدة 40 عاما، والثانى لماذا تعمدت حذف بعض الكلمات أو الأسطر والفقرات من الوثائق، وقد أثبتت مواقعها فى الترجمة. والكتاب يضعنا أمام مادة جديرة بالبحث المتعمق من جانب مثقفينا وباحثينا فى الشئون السياسية والعسكرية، لكشف أبعاد الانتصار المصرى وأعماق الهزيمة الإسرائيلية.
العمل الثانى كتاب إسرائيلى صدر فى 1974 بعنوان «المحدال» (التقصير)، قامت مؤسسة الدراسات الفلسطينية بترجمته إلى العربية فى نفس العام. جاءت فى مقدمة الكتاب المحررة بمعرفة مؤسسة الدراسات الفلسطينية، أن اختيارها هذا الكتاب من بين عدد من الكتب العبرية عن حرب يوم الغفران جاء لعدة أسباب، منها أن الكتاب يؤكد الحقائق الأساسية التى تنطوى عليها حرب أكتوبر، وأهمها كفاءة الجندى العربى، وقدرته على القتال واستعمال السلاح بمهارة. وسقوط ما أحاط بالإنسان العربى كمقاتل وبسلاحه من تشويه، بعد هزيمة يونيو 1967. حيث يمثل الكتاب شهادة إسرائيلية على هذه الحقائق، شهادة تتسم بالكثير من العفوية، فمؤلفو الكتاب قدموا من تجربة النار توا، وأصدروا كتابهم بعد الحرب مباشرة.
وهناك إشارة من المؤسسة الفلسطينية بالغة الأهمية، وهى تأكيد أن المؤلفين ليسوا من الخارجين على الصهيونية، ولا تجمعهم فكرة مناهضة للأساس الذى تقوم عليه إسرائيل. فكتابهم إسرائيلى صميم، وفى كل صفحة منه اتهام جديد للقيادتين العسكرية والسياسية فى إسرائيل. وقد جاء تقرير «لجنة آجرانات» التى تولت التحقيق فى تقصيرات الحرب، داعماً للاتهامات التى يوجهها المؤلفون إلى القيادات، وهو بالمناسبة ذات التقرير الذى أفرج عن وثائق تحقيق القاضى آجرانات الذى حملت اللجنة اسمه، بعد أربعين عاما من عمر الحرب والذى تناولها بالتفصيل الكتاب الأول المشار إليه، وفيه اختارت المجموعة البحثية المصرية بقيادة دكتور إبراهيم البحراوى، أن تنتقى شهادات القادة السياسيين والعسكريين الأبرز، منها شهادة «جولدا مائير» رئيسة الوزراء و«موشيه دايان» وزير الدفاع، والعميد «يسرائيل لينور» سكرتير رئيسة الوزراء للشئون العسكرية و«يجال آلون» نائب رئيسة الوزراء. وشهادة «أبا إيبان» وزير الخارجية وأيضا «يسرائيل جاليلى وزير الدولة للإعلام، وأيضا «حاييم تسادوق» رئيس لجنة الخارجية والأمن بالكنيست و«موشيه كول» وزير السياحة، وغيرهم من أبرز قادة الأسلحة والأركان والجبهات الرئيسية.
كتب مؤلفو «المحدال» فى أولى فقرات مقدمة كتابهم؛ شاهدنا الحرب. شاهدناها تقترب، ولم يصدق الكثيرون منا أنها ستقع. شاهدناها تقع وتمنينا اللحظة التى تنتهى فيها. شاهدنا معارك الحرب وميادين القتال، وغرف العمليات، والشعب فى الجبهة الداخلية، شاهدنا ولم نصدق ما تشاهده عيوننا. عدنا من الحرب والتقينا: سبعة صحافيين من ثلاث صحف مختلفة، «صقور» و«حمائم» وأصحاب آراء سياسية متناقضة، وأصحاب وجهات نظر اجتماعية مختلفة. عدنا إلى منازلنا وأعمالنا العادية، وقفنا حائرين إزاء هؤلاء الذين يريدون السير وكأن شيئا لم يحدث، وكأن هذه الحرب لم تقع. وقفنا مذهولين أمام محاولات الإخفاء والتشويه والتغطية على التقصيرات التى أدت إلى الحرب وجعلتها تقع كما وقعت، وتنتهى كما انتهت. إن ما يجمع بيننا هو الاعتراف المشترك بأنه من المستحيل تجاوز ما حدث، ومن المستحيل إخفاء الحقيقة المجردة.
نحن لسنا لجنة تحقيق، ولا ندعى أننا نصدر الحكم، اشتركنا فى وضع هذا الكتاب وهو ليس قصة حب يوم الغفران وليس بحثا تاريخيا، إنه عمل صحفى محدود بضغط الوقت، وظروف النشر فى الدولة. حاولنا أن نطرح فيه نظرات مختلفة عن الحرب، نتقصى جذور ما جرى بقدر ما يسمح لنا بذلك، ولم نأل جهدا للتوصل إلى كشف الحقيقة على الرغم من جميع هذه القيود. هذان الكتابان اللذان سنقتفى خلالهما آثار الحقائق انتصارا لأهمية المعرفة، وتأتى كشهادات إسرائيلية مباشرة، فى احدهما أمام اللجنة القضائية الرسمية للتحقيق فى وقائع ومسئوليات ما جرى فى الحرب. والآخر شهادة حية طويلة كتبت ساخنة، بحرارة العودة من تحت النار مباشرة، إلى أوراق التدوين والاعتراف والرغبة فى التطهر.