يصوت الناخبون المصريون بعد أيام قليلة فى انتخابات رئاسية لها أهمية كبيرة. تأتى هذه الانتخابات بعد أن أكمل نظام الثلاثين من يونيو السنوات العشر الأولى من عمره، مر خلالها بتجارب ومنعطفات كثيرة، بما فى ذلك من أثر فى إنضاج نظم الحكم والمؤسسات. جرى خلال العشرية المنقضية تجريب واختبار الكثير من الأفكار فى قضايا السياسات العامة والحكم والسلطة، بما منح لنظام الحكم ومؤسساته عمقا من المعرفة والخبرة، وصنع له إرثا يستند إليه، ويحتكم إليه فى السياسات والقرارات التى يتخذها فى السنوات التالية، صانعا من هذه الخبرة وهذا الميراث عقيدته السياسية الخاصة. بخلاف الوطنية المصرية، ليس لنظام الثلاثين من يونيو أيديولوجيا محددة. التجربة والخطأ هى أيديولوجيا الثلاثين من يونيو، فيما يمكن اعتباره استمرارا لتقاليد السياسة والحكم المصرية منذ ثورة يوليو 1952. التجربة والخطأ هما منهج عمل، وأسلوب تعلم، وعقيدة سياسية ترفض الأيديولوجيات وبرامج العمل سابقة التجهيز، محليا ودوليا، وتفضل البحث عن طريق خاص، انطلاقا من اعتقاد قوى بتفرد الحالة المصرية.
رغم أن الإطار الدستورى والقانونى الذى تجرى فيه هذه الانتخابات لم يتغير كثيرا عن انتخابات سابقة جرت خلال السنوات العشر الأخيرة، فإن هذه الانتخابات تختلف عن سابقاتها فى عدة نواح. انفتاح المجال السياسى العام بدرجة ملحوظة هو أحد أهم سمات المرحلة الراهنة، فقد تمت تصفية مواقف عدد كبير من المحبوسين على ذمة قضايا لها علاقة بالرأى، وجرى تخفيف الضوابط المتعلقة بالتعبير عن الرأى عند مناقشة وتقييم الأداء الحكومى والسياسات العامة. حدثت هذه الإصلاحات نتيجة لعملية تفاعل سياسى طويل بين مكونات المجتمع السياسى المختلفة، مستفيدة من المنصة التى وفرها الحوار الوطنى الذى دعا إليه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى شهر أبريل من العام الماضي. مثل إطلاق الحوار الوطنى اعترافا من الدولة بواقع التعددية السياسية والفكرية فى المجتمع، وعكس استعدادها لتعزيز التعددية وتعميقها، ورغبتها فى فتح قنوات تعزز التفاهم وتحد من الاستقطاب، وكلها خطوات وإجراءات مهمة على طريق الإصلاح السياسى.
فى هذا السياق يجرى تنظيم الانتخابات الرئاسية، التى تتسم بوجود مرشحين يتمتعون بالجدية والاحترام وتنوع الخلفيات والميول، وهو ما لم نشهده بهذه الدرجة فى انتخابات سابقة. لدينا الرئيس عبدالفتاح السيسى بما له من خبرة ورصيد وإنجازات خلال فترتى رئاسته السابقتين. لدينا المرشح عبدالسند يمامة رئيس حزب الوفد صاحب الاسم والتاريخ العريق.لدينا المرشح فريد زهران، القادم من خلفية يسارية، ويقود الحزب الديمقراطى الاجتماعى، صاحب التجربة المثيرة فى المزج بين الاشتراكية والليبرالية، متمتعا بدعم مهم بين فئات من المثقفين والمهنيين والأكاديميين. لدينا المرشح حازم عمر، القادم من خلفية الإدارة والأعمال، والمنحاز لاقتصاد السوق المعزز بسياسات حماية اجتماعية قوية، ولحزبه الشعب الجمهورى قواعد تأييد مهمة على المستوى المحلى، يعكسها عدد نوابه المنتخبين فى مجلس النواب.
رغم ما بينهم من اختلافات، ينتمى المرشحون الأربعة لتيارات الوسط. بين المرشحين من يصنف نفسه فى تيار يسار الوسط، وإن لم يكن بينهم من يصنف نفسه فى اليمين، وقد تكون هذه مساحة خالية فى نظامنا الحزبى والسياسى مازالت تبحث عمن يشغلها. يبدو أن هناك نوعا من الإجماع آخذا فى التشكل فى مجتمع السياسة المصرية، فأغلب المرشحين يتحدثون عن القطاع الخاص والمنافسة بغض النظر عن الخلفيات الأيديولوجية، وهذا تطور شديد الأهمية فى بناء إجماع وطنى حول طبيعة السياسات العامة الواجبة الاتباع والتطبيق فى مصر.
تجنب الخطاب والنزعات الشعبوية والصدامية هو إحدى نقاط الإجماع الأخرى المميزة لهذه الانتخابات. رفض الإخوان هو إجماع آخر ظهر فى هذه الانتخابات. فى هذا السياق يمكن فهم الرفض الذى قوبل به مرشحون محتملون تمسكوا بخطاب وأساليب شعبوية وصدامية، وترددوا فى إظهار موقفهم من التنظيم والفكر الإخوانى، بل وربما سعوا للائتلاف معهم.
رغم أهميتها القصوى فإن هذه الانتخابات لم تحظ بما تستحقه من اهتمام وتسليط الضوء، وذلك بسبب الحرب المشتعلة عبر الحدود فى غزة، ومشاهد القتل والتدمير التى يعانيها الأشقاء الفلسطينيون على مدار الساعة. للرأى العام طاقة محددة للتركيز والانتباه، وقد فازت فلسطين بالقسم الأكبر منها، وأظن أن كثيرا من المكاسب التى كان يمكن لنظامنا السياسى أن يجنيها من وراء هذه الانتخابات الرئاسية قد أهدرت بسبب مزاحمة الصراع فى فلسطين؛ وهكذا مرة جديدة يمارس الصراع العربى – الإسرائيلى أثره المعوق لتقدم بلادنا نحو التنمية والديمقراطية.
غير أن فرصة تعظيم الفائدة من هذه الانتخابات لم تضع تماما، فمازال لدينا ثلاثة أيام قبل بدء التصويت، وثلاثة أيام أخرى تفتح فيها لجان الانتخاب، وأدعو من لم يجد الفرصة قبل ذلك لقضاء بعض الوقت فى متابعة أحاديث وخطابات المرشحين المتنافسين الكثيرة المتاحة على الإنترنت، وفيها نقاش جاد للتحديات التى تواجه مصر، وفيها أيضا أفكار وبرامج عمل مدروسة للتعامل مع هذه المشكلات، وفيها تنوع فى الاتجاهات والتحيزات والخطاب السياسى وأساليب التعبير، بما يتيح فرصة واسعة للاختيار، وبما يشجع على المشاركة بالصوت لأى من المتنافسين.
قد نتوقع الفائز فى هذه الانتخابات، لكن أهمية هذه الانتخابات ليست فقط فى الرئيس الذى تفرزه، ولكن أيضا فى العملية السياسية التى تدشنها، وفى تضاريس خريطة الأحزاب والتيارات السياسية التى ترسمها. إنها انتخابات تؤسس لمرحلة سياسية جديدة، وهى فرصة أتمنى لو تمسكنا بها بالمتابعة والمشاركة.