عقد المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، السبت 16 مارس 2019، حلقة نقاش حول أزمة مدينة “تاورغاء” (غربي ليبيا). وقد ركزت الندوة على الأبعاد الإنسانية والحقوقية للأزمة، وتأثيراتها في المشهد الليبي. شارك في حلقة النقاش كل من: الأستاذ “سراج شعبان التاورغي”، الناشط والحقوقي الليبي، والأستاذ “أحمد إبراهيم عامر”، نائب رئيس تحرير مجلة “الأهرام العربي” والمتخصص في الشأن الليبي، ودكتور “خالد حنفي علي”، الباحث المصري في الشئون الإفريقية، بالإضافة إلى باحثين وخبراء من المركز.
طرح “سراج التاورغي” في بداية النقاش توصيفًا للأزمة الإنسانية لمدينة تاورغاء، والتي برزت في أعقاب انتفاضة فبراير 2011 ضد نظام “القذافي”، إذ تعرضت المدينة، التي تضم 42 ألف نسمة، لعمليات نزوح وتهجير جماعي خلفت مأساة إنسانية لا تزال تُلقي بظلالها حتى اللحظة على أزمة المصالحة في هذا البلد.
بدأت الأزمة الإنسانية باتهام مصراتة لبعض أهالي تاورغاء بالمشاركة في كتائب “القذافي”، التي هاجمت مدينتهم (لا تبعد عن تاورغاء سوى 40 كم) في مارس 2011 إبان الانتفاضة الليبية، الأمر الذي أدى إلى قيام ميليشيات من مصراتة بالانتقام وتهجير جميع سكان تاورغاء في أغسطس من العام نفسه.
واعتبر “سراج” أن أزمة “تاورغاء” من الجرائم الإنسانية الكبرى في القرن الحادي والعشرين، حيث تم تهجير كامل سكانها بلا استثناء، وتشتيتهم في أحد عشر مخيمًا بمختلف مدن ليبيا، خاصة بنغازي وطرابلس. كما مُورست انتهاكات إنسانية وحقوقية بحق أهالي المدينة، في وقت لا تزال فيه اتفاقات التسوية المحلية حول أزمة تاورغاء تتعرض للتعثر، بسبب الميليشيات المسلحة الرافضة لعودة نازحي المدينة إلى ديارهم.
وأشار “سراج” إلى دور منظمات المجتمع المدني في تخفيف المعاناة الإنسانية لأهالي المدينة، بخلاف دور مدينة بنغازي وشرق ليبيا إجمالًا في حماية النازحين من أهالي تاورغاء. ونوّه إلى تضامن المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية (مثل: منظمة الصليب الأحمر، وأطباء بلا حدود) مع أزمة تاورغاء من خلال ما أصدرته من تقارير دولية عن الوضع الليبي، وإدانة ما يتعرض له أهالي تاورغاء من انتهاكات.
من جانبه، أوضح أ. أحمد إبراهيم عامر، في ضوء خبرته كمراسل صحفي ميداني لمؤسسة الأهرام في ليبيا، جوانب متعددة من المعاناة الإنسانية لأهالي تاورغاء، منها -على سبيل المثال- نقص المواد الغذائية والخدمات التعليمية، خاصة لمن نزحوا من أهالي المدينة إلى مخيم الرياضية في مدينة بنغازي، إضافة إلى انتشار الأوبئة والأمراض.
وأشار عامر أيضًا إلى حالة مخيم الحليس الذي يقع بين بنغازي وأجدابيا؛ فبرغم قلة أعداد ذلك المخيم مقارنة بنظيره “الرياضية”، إلا أن الوضع الإنساني به يتسم بأنه الأسوأ به، خاصة مع عدم تقبل أهالي المدن الليبية لدمج التاورغيين، وذلك حفاظًا على هوية المدن، إضافة إلى عدم ضياع القضية وحقوق أهالي تاورغاء في العودة لمدينتهم.
في السياق ذاته، قال د. خالد حنفي، إن أزمة تاورغاء هي عَرَضٌ ضمن أعراض أخرى لأزمة عدم التسامح في ليبيا، في مرحلة ما بعد سقوط “القذافي”. إذ يعاني هذا البلد -حسب وجهة نظره- من أشكال متعددة من عدم التسامح، تارة تأخذ شكلًا سياسيًّا (بين أنصار القذافي والمناصرين لانتفاضة ليبيا، وتجسدت في قانون العزل السياسي في 2013 الذي ألغاه لاحقًا مجلس النواب في 2015). وتارة أخرى تأخذ شكلًا دينيًّا في شكل قيام بعض التيارات الدينية المتطرفة بهدم الأضرحة الصوفية. وتارة ثالثة تتمثل في أشكال مجتمعية إنسانية، كما الحال مع أزمة تاورغاء.
وعزا د. خالد حنفي أزمة تاورغاء إجمالًا إلى تعثر الانتقال الليبي بعد “القذافي”، حيث تغولت سلطة الميليشيات على الوظيفة الأمنية للدولة في مرحلة ما بعد “القذافي”، وهو ما ظهر في رفض ميليشيات من مصراتة عودة نازحي تاورغاء، إضافة إلى صعود عداءات قديمة في ظل هشاشة السلطة وانقسامها شرقًا وغربًا، بخلاف النزاع على الأراضي والموارد، وعدم التمييز بين ما هو سياسي وإنساني، علاوة على دور العامل الخارجي المتمثل في قطر وتركيا.
آفاق الحل
حول محاولات تسوية أزمة تاورغاء، أشار “سراج التاورغي” إلى أنه تم عقد الكثير من اتفاقات الصلح بين مصراتة وتاورغاء لكنها لم تؤدِّ إلى إنهاء الأزمة، حيث اعتبر أن الاتفاقات كانت مجحفة بحقوق أهالي تاورغاء في التقاضي والتعويض. فوفقًا لنظام روما الدولي، فإنه ينبغي معاقبة كل من ساهم في تهجير وتشتيت أهالي المدينة. لكن مع ذلك، فإن “سراج” يرى أن الأمل لا يزال معقودًا على الحوار السلمي لحل الأزمة، حيث تبنى الكثير من حكماء وعقلاء مدينة مصراتة الحوار، ويدعمون حل أزمة تاورغاء. وأكد “سراج” على دور المجتمع المحلي في المصالحة الاجتماعية، وأن يكون الضامن لاتفاقات التسوية بين تاورغاء ومصراتة من أطراف داخلية قوية، كالجيش الوطني الليبي، على سبيل المثال.
وأكد الأستاذ “أحمد عامر” على خصوصية الوضع الليبي، خاصة أنها دولة قبلية اجتماعية بامتياز، تتحكم بها العادات والتقاليد، الأمر الذي يقضي بضرورة التعامل مع الأزمة بمداخل محلية، وتفعيل المصالحة، حيث إن الحلول الدولية لم تثبت نجاعتها حتى الآن.
أخيرًا، أكد د. خالد حنفي أهمية وجود مقاربة للعدالة الانتقالية المحلية للتعامل مع الأزمة عبر تفعيل دور لجان الحكماء، وتوفير الأوراق الثبوتية للأهالي، وتحجيم التدخل الخارجي، لا سيما أننا إزاء أزمة إنسانية تختلط فيها الأبعاد السياسية مع الأبعاد الاجتماعية، مثل الثأر القبلي والانتقام المتبادل. واعتبر أن تمدد سيطرة الجيش الوطني الليبي من الشرق إلى الجنوب مؤخرًا، يعني بدء عودة وظيفة الدولة، وهو أمر إن اتسع إلى منطقة الغرب الليبي فقد يشكل الضامن الأساسي للاتفاقات المحلية بين تاورغاء ومصراتة، حيث إن العامل المليشاوي والدور الخارجي يحجمان تسوية هذه الأزمة الإنسانية في ليبيا.