من المؤكد أن أى تحرك مصرى تجاه الأوضاع الحالية فى قطاع غزة يعتمد بصورة رئيسية ليس فقط على إرث تاريخى مشرف، ولكنه يستند أيضاً إلى حاضر مميز وواقع يقرأ الأحداث بكل موضوعية ويتعامل معها بالقدر الذى يحقق مصالح الشعب الفلسطينى، وهذا هو الإطار الذى يحكم موقف القيادة السياسية المصرية تجاه القضية الفلسطينية على مدى عقودها الماضية وخلال مراحلها المقبلة.
وفى هذا السياق فإن التحرك المصرى منذ بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية تجاه غزة والتى بدأت يوم 7 أكتوبر 2023 عقب عمليتى طوفان الأقصى والسيوف الحديدية قد اتسم بثبات المحددات والمبادئ المصرية التى لم ولن تتغير ومن أهمها الرفض المطلق لتصفية القضية الفلسطينية أو تهجير السكان إلى خارج أراضيهم، ولاسيما إلى سيناء ومعارضة سياسة العقاب الجماعى وعمليات القتل والتدمير الممنهج، الذى تنفذه إسرائيل فى مواجهة المدنيين العزل طوال ثلاثة أشهر سابقة دون أى رادع. وقد تحركت مصر منذ اليوم الأول للعمليات الإسرائيلية وهى تعلم أنها تتحرك فى حقل ألغام وأن الحرب الحالية تختلف تماماً عن الحروب الست السابقة التى شهدها قطاع غزة منذ عام 2008، وبالرغم من العقبات غير المسبوقة فإن الاهتمام المصرى ركز على كيفية التوصل إلى وقف إطلاق النار أو هدنة إنسانية طويلة نسبياً باعتبار أن هذا المسار يعد هدفاً تكتيكياً يهيئ المناخ لتحقيق بعض الخطوات الإيجابية، أهمها إدخال مزيد من المساعدات الإنسانية وإنجاز صفقة تبادل أسرى ومن ثم يمكن الانتقال فى مرحلة تالية للهدف الإستراتيجى بإحياء عملية السلام.
وفى هذا المجال كانت مصر على مستوى المسئولية عندما طرحت مقترحات تضمنت عدة مراحل متتالية بهدف تغيير الوضع الراهن فى غزة حتى ينتقل من حالة الحرب بكل مآسيها إلى حالة التهدئة حتى لو كانت مؤقتة، ومن الضرورى أن أشير هنا إلى نقطة شديدة الأهمية تحسب بكل فخر لمصلحة الدولة المصرية ومفادها أن مصر هى الدولة الوحيدة فى العالم التى اجتهدت من أجل أن تطرح رؤية متكاملة للخروج من المستنقع الحالى فى القطاع، وعلينا ألا ننسى أن الرئيس قد طرح فى 21 أكتوبر 2023 خلال مؤتمر القاهرة للسلام مجموعة مبادئ رئيسية لحل أزمة غزة .
ومن الإنصاف أن أؤكد أن قيمة المقترحات المصرية التى طرحت مؤخرا لاترتبط فقط بما تضمنته من مراحل ومتطلبات، وإنما القيمة الأكبر فى رأيى تتمثل فى أن مصر رفضت أن تكون مجرد رقم فى مصاف الدول المراقبة ومن ثم قررت التحرك وسط النار والاشتباك بقوة فى المعركة السياسية حفاظاً على أمنها القومى، الذى لن نسمح بالمساس به، من أجل البحث عن حلول نظراً لأن الخسائر التى تعرض لها القطاع حتى الآن فاقت الخسائر التى تعرضت لها القضية منذ 1948 .
ومن ناحية أخرى لايمكن النظر إلى المقترحات المصرية على أنها مقدسة أو غير قابلة للتعديل، ولكن المؤكد أنها صالحة لتكون قاعدة للتفاوض بين جميع الأطراف المعنية، وبالتالى ليس من المنطق أو المتوقع أن يكون الرد عليها بالرفض التام أو القبول التام، ولابد أن ينظر الجميع إليها على أنها شعاع ضوء فى نفق مظلم للغاية، وعلى الأطراف كلها أن تتلقاها وتستثمرها وتبدأ بها مرحلة جديدة يمكن أن تؤدى إلى تغيير فى مسار الحرب الحالية التى لايعلم أحد متى وكيف ستنتهى. وبالتوازى مع هذه المقترحات، حرصت مصر على أن تتواصل مع كل الأطراف بما فيها حركتا حماس والجهاد الإسلامى من أجل التوصل إلى تفاهمات تصلح أن تكون أرضية يمكن البناء عليها مستقبلاً بهدف التوصل إلى التهدئة المطلوبة، وعلى أمل أن يتغير الوضع الحالى فى غزة تدريجياً خاصة تخفيف الكارثة الإنسانية التى تفتك بالسكان الفلسطينيين فى غزة.
وبالرغم من التحرك المصرى الإيجابى الذى يسعى إلى إنضاج رؤية للتهدئة يتوافق عليها الجميع، إلا أن هناك بعض الصعوبات التى تحيط بهذا التحرك من جانبين رئيسيين، الأول أن المواقف الأمريكية لا تساعد فى تهدئة الأوضاع فى غزة، والجانب الثانى يتمثل فى المواقف المتطرفة التى تعلن عنها إسرائيل من بينها رفض عودة النازحين إلى شمال غزة بل واعتزام احتلال الشريط الحدودى الفاصل بين القطاع ومصر والذى يطلق عليه اسم محور فيلادلفيا، وهو الأمر الذى يزيد من تعقيدات الموقف وينبئ بأن مثل هذه الخطط الإسرائيلية من شأنها أن تفشل أى جهود للحل.
ولاشك فى أن مثل هذه المواقف الإسرائيلية يجب أن نأخذها مأخذ الجد حيث إن إسرائيل على وشك الانتقال إلى المرحلة الثالثة من العملية البرية التى ستتركز فى جنوب القطاع والتى سوف تغير فيها إسرئيل تكتيكاتها العسكرية التى انتهجتها خلال عملياتها فى منطقتى الشمال والوسط، بحيث سيكون توغلها البرى أقل وعمليات القصف والتدمير والاستهداف أكثر تحديدا مع تجنب قتل المدنيين قدر المستطاع حتى لاتتعرض لمزيد من الانتقادات الإقليمية والدولية وتماشيا مع بعض المطالب الأمريكية.
وبالرغم من كل العقبات المرتبطة بالوضع الحالى فى غزة والتى تزداد تعقيداً فإن مصر لن تتوقف عن التحرك وستظل حريصة على التواصل مع جميع الأطراف حتى تصل إلى التهدئة المنشودة، سواء من خلال الطرح الذى قدمته أو أى مقترحات أخرى، وسوف تظل مصر منفتحة على التنسيق مع جميع القوى المعنية من أجل الوصول إلى وضع أفضل ينقل السكان الفلسطينيين فى القطاع من الوضع الكارثى الذى يشاهده العالم بلا حراك إلى وضع إنسانى يحصل فيه الفلسطينيون على أقل حقوقهم الإنسانية وسط عالم لا يعترف فيه إلابحقوق الإنسان لمجتمعاتهم فقط .