عادت القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد الإقليمي والدولي بعد عقود من المفاوضات، بما لا يضع مجالًا للشك أن الجرائم المرتكبة بقطاع غزة أحدثت العديد من التغييرات على العديد من المستويات وفي مقدمتها المستوى الدولي، فقد عادت القضية الفلسطينية كقضية شعب يريد الخلاص من الاحتلال، ولا يمكن أن يتم حل القضية الفلسطينية كما تريد إسرائيل؛ بل بما يتم التوافق عليه من الجانبين.
ومنذ 7 أكتوبر 2023 ارتكب ضد السكان المدنيين في غزة كافة أشكال الجرائم الدولية، فالجرائم الدولية بصفة عامة من المهددات الخطيرة لحياة الإنسان والدول، وفي وقتنا الحاضر نظرًا لتطور العلاقات الدولية وتشابكها ظهرت الجريمة الدولية التي يتجاوز تأثيرها حدود الدولة وتُخلّ بالنظام العالمي ككل، فالجرائم الدولية تُعد من أشد الجرائم خطورة على المجتمع الدولي وهي المتمثلة في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم العدوان، ومع تطور الإدراك اللاإنساني أصبحت تلك الممارسات العدوانية مرفوضة في مجال العلاقات الدولية.
والجرائم ضد الإنسانية بصفتها أحد أصناف الجرائم الدولية فإنها كانت ولا تزال تُرتكب على نطاق واسع بسبب نزعة السيطرة والبحث عن النفوذ والقوة والتطلع إلى السلطة والسيادة والتي أدت إلى ارتكاب أنواع متعددة من الجرائم، وعليه فقد أدرك المجتمع الدولي أن الجرائم ضد الإنسانية هي أكثر الجرائم المتعلقة بحقوق الإنسان وذلك لما تشكله من اعتداء صارخ على حياة الفرد وحقوقه وحرياته، فعمل على تفادي وقوعها ومعاقبة مرتكبيها عن طريق تجريم كل مساس بالحياة وبالسلامة الجسدية والمعنوية للفرد.
وقد ارتكب في قطاع غزة أكثر من صورة من الجرائم ضد الإنسانية، فقد دمرت قوات الاحتلال الإسرائيلي أحياءً بكاملها وتم استهداف المدنيين بشكل عشوائي بالقتل والاعتقال والتشريد والتهجير القسري من قطاع غزة، ومارست قوات الاحتلال العقوبات الجماعية والاعتقالات التعسفية الجماعية وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية التي لا تزال تُرتكب حتى كتابة هذه السطور.
وهو ما سوف نوضحه ببيان بعض الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة بحق الفلسطينيين بقطاع غزة على سبيل المثال لا الحصر:
صور الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في غزة
أولًا- القتل العمد:
يقصد بالقتل العمد إزهاق الروح سواءً بسلوك إيجابي أو سلبي، وأيًا كانت الوسيلة التي تحقق ذلك، ويستوي أن تكون هذه الأفعال المعاقب عليها ارتكبت بقصد القتل أو نتج عنها القتل كنتيجة حتمية لهذه الأفعال.
ولكي يكون القتل العمد كإحدى الجرائم ضد الإنسانية فهو الذي يمارس بصفة منتظمة لها طابع الاستمرار والانتشار، دون أن يأخذ شكلًا فرديًا موجهًا إلى إنسان بذاته، فقد يكون قتلًا جماعيًا أو جزءًا من ممارسة الإبادة، وقد يكون قتلًا فرديًا موجهًا ضد أشخاص معينين بذواتهم كنوع من الترهيب.
وتضمنت المادة (۷) فقرة (أ) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أركان جريمة القتل العمد التي تشکل جريمة ضد الإنسانية وهي:
- أن يقتل المتهم شخصًا أو أكثر.
- أن يرتکب السلوك کجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين.
- أن يعلم مرتكب الجريمة أن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سکان مدنيين أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك جزءًا من ذلك الهجوم وهو ما يؤكده التوجه نحو اعتماد المفهوم الموسع الذي أخذت به المادة (7) من نظام روما الأساسي.
فوفقًا لمكتب تنسيق الشئون الإنسانية، حتى 16 فبراير 2024، قتل ما لا يقل عن 28,775 فلسطينيًّا في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023. إن حوالي 70 بالمئة من الذين قتلوا هم من النساء والأطفال بحسب التقارير، وتفيد التقارير بأن 68,552 فلسطينيًّا آخر قد أصيبوا بجروح، وقد صدرت بيانات رسمية لوزارة الصحة في غزة، أن حوالي 70 بالمئة من الذين قتلوا هم من النساء والأطفال بحسب التقارير.
ثانيًا- جريمة الإبادة:
يُعد جوهر جريمة الإبادة في إنكار حق بقاء مجموعات بشرية بعضها أو كلها، فضلًا عن منافاتها للأخلاق ومبادئ الأمم المتحدة، ولارتكاب فعل الإبادة يلزم أن يقتل مرتكب الجريمة شخصًا أو أكثر بما في ذلك إجبار الضحايا على العيش في ظروف تؤدي حتمًا إلى هلاك جزء من مجموعة من السكان، ویمکن أن تشمل هذه الظروف الحرمان من إمكانية الحصول على الأغذية والأدوية، وهي ما تفعله دولة الاحتلال حاليًا في قطاع غزة من منع وصول المساعدات الإنسانية للقطاع.
وقد أدرجت الإبادة كجريمة دولية وكجريمة ضد الإنسانية في كافة المواثيق الدولية.
وزاد الاحتلال من حرب الإبادة والانتقام من المدنيين للضغط على المقاومة، فقد تم ارتكاب الآلاف من المجازر بحق الأطفال والنساء وأهالي القطاع التي راح ضحيتها آلاف الشهداء، بالإضافة إلى تدمير البنية التحية والمساكن والمؤسسات والمساجد والمستشفيات والجامعات والمدارس حتى وصل التدمير إلى ما نسبته 70% من القطاع.
ثالثًا- الإبعاد والنقل القسري للسكان:
نقل السكان المدنيين من أماكنهم المعتادة إلى أماكن أخرى دون مبررات يسمح بها القانون الدولي هو أمر محرم، أيًا كان المكان الذي سوف يُنقلون إليه، فلا يوجد أي سبب أو دافع قانوني أو شرعي لإجازة مثل هذه التصرفات؛ نظرًا لما تتركه من انعكاسات جسيمة على المنقولين لإبعادهم عن ديارهم وفقدان ممتلكاتهم وفقدان أمنهم واستقرارهم.
ویُقصد بالإبعاد القسري نقل مجموعة كبيرة من السكان بالقوة من منطقة إلى أخرى ضمن سياسة حكومية أو طبقًا لسلطة دولیة؛ بحیث يتم ذلك علی أساس إثني أو ديني ويشمل كلًا من النقل والإخلاء القسري والترحيل القسري وإجبار السكان عن الابتعاد عن موطنهم وأملاكهم.
وتعرف المادة (7/2/د) من النظام الأساسي إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان بأنه: “نقل الأشخاص المعنيين قسرًا من المنطقة التي يوجدون فيها بصفة مشروعة بالطرد أو بأي فعل قسري آخر دون مبررات يسمح بها القانون الدولي”، وبذلك يخضع هذا الفعل للتجريم ويدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية حتى بالنسبة للدولة التي تستند إلى قوانين من صنعها أو تحت دواعي الأمن طالما أن الفعل لا یسمح به القانون الدولي.
وذلك ما فعلته دولة الاحتلال الإسرائیلي بإبعاد الفلسطينيين عن موطنهم، فالعبرة بإرغام السكان قسرًا على نقلهم من مكان لآخر دون رضاهم، ويكون الإرغام ليس بالقوة المادية فقط، فممكن أن يتخذ أشكالًا أخرى كالتهديد باقتراف أفعال إجرامية ضدهم كالخطف، وقد يشمل التهديد باستخدامه أو القسر الناشئ عن الخوف من العنف والإكراه والاحتجاز والاضطهاد النفسي وإساءة استخدام السلطة من هذا الشخص المعني أو أي شخص آخر أو استغلال بيئة قسرية.
وتم ذلك في قطاع غزة حيث صدر بيان عن منظمة الأونروا في الأيام الـ 100 الماضية، بأن تسبب القصف المستمر في جميع أنحاء قطاع غزة في نزوح جماعي لمجتمع في حالة تغير مستمر، حيث تواصل إجبارهم على مغادرة أماكن معيشتهم، فقط للانتقال إلى أماكن غير آمنة بالقدر نفسه، وكان هذا أكبر تهجير للشعب الفلسطيني منذ عام 1948، وأثرت هذه الحرب بأكثر من 2 مليون شخص أي جميع سكان غزة. وسيعاني الكثير منهم مدى الحياة، جسديًا ونفسيًا، وتعاني الغالبية العظمى -بما في ذلك الأطفال- من الصدمات الشديدة؛ حيث تسبب القتال العنيف في خان يونس (جنوب غرب غزة) على مدى الأسابيع الأربعة الماضية بخسائر في الأرواح وأضرار في البنية التحتية المدنية، ويشمل ذلك أكبر ملجأ للأونروا في المنطقة الجنوبية، مركز تدريب خان يونس وهذا ما يجبر آلاف الفلسطينيين على الفرار جنوبًا باتجاه رفح، التي تشهد اكتظاظًا شديدًا. وتم الإبلاغ عن تحركات للسكان من رفح باتجاه مخيمي دير البلح والنصيرات للاجئين في المنطقة الوسطى، في أعقاب تكثيف الغارات الجوية على رفح، وحتى 17 فبراير الحالي نزح ما يصل إلى 1,7 مليون شخص (أو أكثر من 75 بالمئة من السكان) في مختلف أنحاء قطاع غزة، ويتم إجبار العائلات على الانتقال بشكل متكرر بحثًا عن الأمان، وفي أعقاب القصف الإسرائيلي المكثف والقتال في خان يونس والمناطق الوسطى في الأيام الأخيرة انتقل عدد كبير من النازحين مرة أخرى إلى الجنوب.
يذكر أن المخيمات تحمل رمزية كبيرة بالنسبة لأهل المخيم أنفسهم وبالنسبة للفلسطينيين فالمخيم يمثل شاهدًا ماديًا على تهجير شعب وطرده من أرضه، ويذكر العالم بمعاناة الشعب الفلسطيني والجرائم التي تمت ممارستها بحقهم.
رابعًا- السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي:
المقصود بالسجن المشكل للجريمة ضد الإنسانية هو العقوبة المطبقة على شخص ما بدون سند شرعي فلا يكون السجن هنا تنفیذًا لحكم قضائي، فالمقصود منها تلك المعاملات التي تلجأ إليها بعض السلطات أو الحكومات بطريقة غیر شرعية، وهو ما حثّ المجتمع الدولي على التدخل لتجريم كل الأفعال السالبة للحرية متى شکلت خرقًا للقانون الدولي.
والاحتجاز التعسفي يتنافى مع حقوق الإنسان المكفولة للأفراد والمعترف بها في المادة (9) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة (9) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وتشمل الفقرة الفرعية وهي أيضًا حالات الاحتجاز الواسعة النطاق أو المنهجية مثل معسكرات الاعتقال الإسرائيلية للمدنيين الفلسطينيين.
خامسًا- الاختفاء القسري للأشخاص:
تعد جريمة الاختفاء القسري من أخطر الجرائم ضد الإنسانية وذلك لما تترکه من آثار سلبية في نفسية كل من الضحية وأهلها؛ نظرًا لما يخلفه غياب الضحية المفاجئ، وجريمة الاختفاء القسري في بعض الأحیان تنقلب إلى المساس بالحياة؛ لأن الضحايا في أغلب الأحيان لا يعودون، فالاختفاء القسري يقوض أعمق القیم رسوخًا في أي مجتمع ملتزم باحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والحریات الأساسية، وإن ممارسة هذه الأفعال على نحو منتظم يُعد بمثابة جريمة ضد الإنسانية، فكان لزامًا الحد من هذه الظاهرة وبغية منعها سواء في حالة السلم أو الحرب، فبادرت الجمعية العامة للأمم المتحدة بإصدار إعلان بشأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.
ووفقًا لتقرير منظمة الأونروا وقعت عدة عمليات تفتيش واعتقال نفذتها القوات الإسرائيلية أدت إلى مواجهات مع الفلسطينيين؛ حيث نفذت القوات الإسرائيلية عمليات التفتيش والاعتقال التالية:
في فبراير الماضي، اعتقل ستة فلسطينيين خلال عملية تفتيش واعتقال في عزون شمال الضفة الغربية، نفذت قوات الاحتلال عملية تفتيش واعتقال في طولكرم شمال الضفة الغربية، وكذلك نفذت قوات الاحتلال عملية تفتيش واعتقال في بيت أمر جنوب الضفة الغربية، وأفادت التقارير بأن تلك القوات أطلقت الذخيرة الحية، مما أدى إلى إصابة فلسطيني واحد، واعتقال 16 فلسطينيًّا، كما نفذت القوات الإسرائيلية عملية تفتيش واعتقال في شمال الضفة الغربية، وأفادت التقارير بأن تلك القوات أطلقت النار في اشتباكات مع فلسطينيين، مما أدى إلى إصابة فلسطيني بالذخيرة الحية، واعتقال ستة فلسطينيين.
سادسًا- جريمة الاضطهاد:
تُعد جريمة الاضطهاد أكثر الجرائم ضد الإنسانية أهمية وأشدها خطورة نظرًا لما تنطوي علیه من تمیيز شديد في المعاملة، وهو ما دفع بعض فقهاء القانون الدولي الجنائي لتسميتها بجرائم الكره، فالاضطهاد جريمة عنصرية يعتمد فيها الجاني أو الجناة حرمان ضحاياهم من حقوقهم الأساسية على نحو يخالف القواعد المستقرة في القانون الدولي، وعلى ذلك استقر الرأي على أن الاضطهاد لا يتم لأسباب دينية أو سياسية أو عنصرية، وإنما أيضًا لأسباب قومية أو عرقية أو متعلقة بنوع الجنس.
والاضطهاد يتخذ أشكالًا عديدة، ولكن سمته المحورية هي الحرمان من حقوق الإنسان الأساسية التي يحق لكل فرد التمتع بها دون تمييز، وهو ما تم مع الفلسطينيين في كافة عمليات الاجتياح الإسرائيلي، فقد مارست إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني الاضطهاد المتمثل في حرمانهم من حقوقهم الأساسية.
وختامًا، فإنه لمواجهة تلك الجرائم التي ارتكبتها دولة الاحتلال فإن على دول العالم أن تضطلع بمسئوليتها والتزاماتها الدولية للعمل على ملاحقة دولة الاحتلال الإسرائيلي عما ارتكبته من جرائم دولية بحق الفلسطينيين وتحملها المسئولية الدولية المدنية والجنائية عما اقترفته في فلسطين، وعدم إخضاع تلك المسئوليات لاعتبارات سياسية.