في ظل أوضاع كارثية يعيشها سكان قطاع غزة، وتوترات متصاعدة في الشرق الأوسط سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو في الجولان – جاءت تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب عن إعادة توطين سكان قطاع غزة المدمر لتشكل سابقة خطيرة صادرة عن القوة العالمية العظمى، وتعد خروجًا محتملًا على كافة المواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والمجرمة للتهجير القسري، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. فبنود القانون الدولي المختلفة، والمعاهدات التي وقعت عليها الولايات المتحدة ذاتها، تضع تصريحات الرئيس الأمريكي في خانة الخروج على الجماعة الدولية التي تمتلك الولايات المتحدة حق النقض على قراراتها في مشهد يغلفه الكثير من الدهشة.
التداعيات القانونية والسياسية لقرارات الرئيس ترامب بالتهجير القسري لسكان قطاع غزة:
أولًا: التداعيات القانونية:
استخدمت الولايات المتحدة منذ 7 أكتوبر 2023 حق الفيتو لصالح إسرائيل وضد فلسطين 6 مرات منهم ثلاث مرات ضد قرارات وقف إطلاق النار في غزة والسماح بدخول مساعدات إنسانية وفك الحصار عليها لقوات الاحتلال الإسرائيلي.
إلا أنه إذا قرر الرئيس ترامب المضي قدمًا في خطة التهجير القسري لسكان القطاع أو دعم تلك الخطة بشكل علني فذلك بلا شك سيحول دور الولايات المتحدة في النزاع (الفلسطيني – الإسرائيلي) من كونها وسيطًا، ويجعلها طرفًا مباشرًا في النزاع.
فما تنوي الولايات المتحدة فعله يشكل عدة جرائم دولية؛ منها جرائم حرب وجريمة ضد الإنسانية وجريمة تطهير عرقي ومخالفة لكافة القرارت والمواثيق الدولية؛ حيث يحظر القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني النقل القسري للسكان ويعتبره جريمة دولية؛ مما يحملها المسئولية الدولية عن أي فعل يجرمه القانون الدولي أو القانون الدولي الإنساني.
ولا بد لنا من السؤال؛ هل يغامر الرئيس ترامب بوضع نفسه أمام الرأي العام الدولي بوصفه مرتكبًا لجرم دولي أو مشارك فيه؟؟
حيث تضمنت اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 في المادة 49 حظر النقل القسري الفردي أو الجماعي للأشخاص المحميين أو ترحيلهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي القوة المحتلة أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أيًا كانت دوافعه ولا يجوز أن يترتب على مثل هذه الإخلاءات تهجير الأشخاص المحميين خارج حدود الأراضي المحتلة، وهو ما يشكل عدة جرائم دولية وهي:
جريمة حرب: وهو ما تضمنه ميثاق روما الأساسي مادة (8) الخاصة بجرائم الحرب حيث يعتبر جريمة حرب أي انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف المؤرخة أغسطس 1949 وأي فعل من الأفعال ضد الأشخاص أو الممتلكات الذين تحميهم أحكام اتفاقية جنيف ذات الصلة، ومن تلك الأفعال؛ الإبعاد أو النقل غير المشروعين أو أبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها.
جريمة ضد الإنسانية: فقد عرفت المادة (7/2/د) من ميثاق روما الأساسي أن إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان بأنه” نقل الأشخاص المعنين قسرًا من المنطقة التي يوجد فيها بصفة مشروعة بالطرد أو بأي فعل قسري آخر دون مبررات يسمح بها القانون الدولي”.
ويعتبر أيضًا جريمة تطهير عرقي لما تمثله من استبعاد منهجي ومقصود للسكان من أوطانهم من قبل طرف مهيمن عن طريق استخدام القوة أو تدمير الممتلكات المدنية بهدف القضاء على تلك الجماعة لإحداث تغيير ديمغرافي مطلوب بالمنطقةـ وهي بذلك تعد انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني وتعتبر جريمة دولية ولا يتمتع فاعلها بأي حصانة قانونية ولا يعفى من المسئولية كونها جريمة تمس أمن وسلامة المجتمع الدولي.
وهو ما تؤكده قرارات الأمم المتحدة 242 لسنة 1967 والقرار رقم 194 لسنة 1948 على رفض الاستيلاء على الأراضي بالقوة وضمان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، فلا يوجد أي سبب أو دافع قانوني أو مشروع لإجازة مثل هذه التصرفات نظرًا لما تتركه من انعكاسات جسيمة على المنقولين لإبعادهم عن ديارهم وفقدان ممتلكاتهم والتأثير في أمنهم واستقرارهم، فنقل السكان المدنيين من أماكنهم المعتادة إلى أماكن أخرى دون مبررات يسمح بها القانون الدولي هو أمر محرم، أيًا كان المكان الذي سوف يُنقلون إليه، ويؤدي ذلك إلـى نتـائج خطيـرة تـؤدي إلـى إذابـة الكيـان القـومي للسـكان الأصـليين لقطاع غزة.
وبذلك يخضع كل ما سبق ذكره للتجريم ويدخل في اختصاص المحكمة الجائية الدولية حتى بالنسبة للدولة التي تستند إلى قوانين من صنعها أو تحت دواعي الأمن طالما أن الفعل لا یسمح به القانون الدولي، وهو ما فعلته دولة الاحتلال الإسرائيلي بإبعاد الفلسطينيين عن موطنهم، فالعبرة بإرغام السكان قسرًا على نقلهم من مكان لآخر دون رضاهم ويكون الإرغام ليس بالقوة المادية فقط، فممكن أن يتخذ أشكالًا أخرى كالتهديد باقتراف أفعال إجرامية ضدهم فالإبعاد القسري الذي تود الولايات المتحدة فعله مع سكان القطاع بنقلهم إلى دول أخرى
يشمل الإخلاء القسري والترحيل القسري وإجبار السكان على الابتعاد عن موطنهم وأملاكهم، والضغط عليهم حتى يفرون خارج حدود الدولة.
فأي خطة لترحيل الفلسطينيين قسرًا خارج الأراضي المحتلة ضد إرادتهم هي جريمة حرب، وعندما تُرتكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي على السكان المدنيين، فإنها تشكل جريمة ضد الإنسانية.
– ويمثل تهجير ونقل سكان غزة انتهاك صريح لميثاق الأمم المتحدة في المادة (2/4) حيث نصت على امتناع أعضاء الهيئة جميعًا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة، وهو ما أكده الملحق الأول الإضافي للاتفاقية والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة.
فأركان وجود الدولة تتمثل في ( شعب – إقليم – سلطة سياسية ) وهو ما يعني أن نقل السكان بقطاع غزة لأماكن خارج حدود دولتهم هو إخراج قطاع غزة من السيادة الفلسطينية وبتهجير سكان القطاع سوف يفرغ من السكان. وكذلك عدم وجود سلطة سياسية بالقطاع يفقده وصف إقليم تابع للدولة فكيف يمكن بقاء دولة دون وجود شعب على إقليمها
فالتهجير يهدف إلى اقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره التاريخية وتحويل الأرض إلى مشروع استيطاني إسرائيلي ويؤدي إلى إنهاء وتصفية القضية الفلسطينية؛ مما يجعل أي مسار نحو حل الدولتين مستحيلًا، فكيف يمكن الحديث عن دولة فلسطينية دون وجود شعب على إقليمها؟
فليس من المنطق أو العدالة أن يتم تهجير سكان من أرضهم ووطنهم بحجة أن المكان غير صالح للمعيشة.
وهو ما يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية بفعلها ذلك ستكون أمام المجتمع الدولي شريكًا في هذه الجريمة الدولية؛
مما يمكن معه ملاحقة الولايات المتحدة أمام محكمة العدل الدولية
إذا أقيمت دعوى التهجير القسري ضد الولايات المتحدة وليس إسرائيل فقط على غرار القضية التي أقامتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل والتي تتهمها بارتكاب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين وخاصة قطاع غزة، وهو ما لا يمكن للولايات المتحدة معه الانسحاب من المحكمة علي غرار انسحابها من مجلس حقوق الإنسان أو التهديد بالانسحاب من منظمات دولية أخرى تابعة للأمم المتحدة؛ حيث إنها بذلك الانسحاب ستكون منسحبة من ميثاق الأمم المتحدة وهو ما يمثل وضع الولايات المتحدة لنفسها وبكامل إرادتها في عزلة دولية.
وتظل الدولة المصرية وحدها في خضم الأحداث تحاول الوصول لحل شامل وعادل للقضية الفلسطينية ورفع المعاناة عن سكان قطاع غزة باعتزامها التعاون مع الشركاء والأصدقاء في المجتمع الدولي لتنفيذ إعادة الاعمار بغزة خلال إطار زمني محدد ودون خروج الفلسطينيين من القطاع فالتهجير القسري لسكان قطاع غزة ظلم لا يمكن أن نشارك فيه،
في عصر سادت فيه المصالح السياسية على حساب تطبيق العدالة.
وختامًا فإذا كانت نية الإدارة الامريكية هي إعادة إعمار غزة وإحلال السلام بين الدولتين فالمعضلة ليست في وجود الفلسطينيين على أرضهم بل في استمرار الاحتلال الإسرائيلي والحصار الخانق على قطاع غزة، فالتنمية الاقتصادية التي ترغب الإدارة الأمريكية في خلقها بغزة لا تكون بتهجير صاحب الأرض، فإحلال السلام بين الدولتين يكون بمنح الفلسطينيين حقهم غير القابل للتصرف في تقرير مصيرهم وحل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وهو ما تم النص عليه في قرارات الأمم المتحدة رقم 181، 194 كذلك قرارت مجلس الأمن 242، 338.
فالنظام العالمي العادل لن يتحقق إلا عندما تعم العدالة على جميع البشر دون تفرقه.
دكتور القانون الدولي العام