تحت غطاء من النيران الكثيفة برا وجوا، يستمر الجيش الإسرائيلى عملياته العسكرية فى جباليا شمالى القطاع، حيث يوجد أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية التاريخية فى غزة، وفى حى الزيتون بمدينة غزة، وفى الأحياء الشرقية لمدينة رفح، بينما دعا سكان أحياء أخرى إلى النزوح باتجاه منطقة المواصى (بين رفح وخان يونس)، بذريعة وجود نشاط عسكرى لحركة حماس. بهذه السيطرة التامة تخوض إسرائيل حربها ضد المدنيين العزل، مما أسفر عن استشهاد وإصابة عشرات الفلسطينيين وتهجير آلاف العائلات، خلال أسبوع واحد فقط.
على الرغم من التحذيرات الدولية من وقوع كارثة انسانية، بنيامين نيتانياهو مصر على تحقيق ما يسميه «النصر الكامل». وهو يعنى تدمير قدرات حماس العسكرية وقدرتها على حكم غزة وإعادة الرهائن الإسرائيليين، وتمكين ما يقرب من 250 ألف مستوطن إسرائيلى، ممن اضطروا إلى ترك مستوطناتهم بالقرب من غزة ولبنان بسبب القتال مع حزب الله، من العودة، وفق ما صرح به وزير الدفاع الإسرائيلي.
اذا كانت هذه هى أهداف إسرائيل من هذه الحرب الوحشية، فإن العالم، بما فى ذلك الإسرائيليون أنفسهم، يتساءلون عن الثمن الذى يجب دفعه أكثر مقابل تحقيق هذا النصر المزيف؟
بعد كندا وإيطاليا، أعلن جو بايدن أنه سيقطع إمدادات الأسلحة اللازمة لهجوم كامل لرفح، وهو ما يراه بعض الإسرائيليين يمثل أكبر تهديد أمريكى لمصلحة إسرائيل منذ عقود. لكن الى أى درجة يمكن أخذ تصريحات بايدن هذه على محمل الجد؟ وهل الهدف منها ممارسة ضغط حقيقى على إسرائيل، ام هو مجرد شو إعلامى لتهدئة الرأى العام الأمريكى والإسرائيلى على حد السواء؟
تعقيبا على تصريحات الرئيس الأمريكى، اعتبر نيتانياهو إن إسرائيل تواجه تحديات لم يواجهها أى جيش حديث، وأنها يجب أن تدافع عن نفسها وألا تطلب ذلك من الأمريكيين أو غيرهم. لكن بعيدا عن لغو التصريحات، الواقع يقول إنه منذ بداية هذه الحرب والإدارة الامريكية تتمسك بدعم حكومة نيتانياهو، سواء من خلال تزويدها بالأسلحة والذخيرة، وتحريك أسطول بحرى فى مياه المنطقة، وامتد الدعم ليشمل الجانب الدبلوماسى فى المحافل الدولية لتأمين استمرار الغطاء السياسى للحرب على قطاع غزة. على النقيض، حاولت أمريكا فى كل مناسبة إعطاء الانطباع بأنها تشعر بالقلق إزاء الخسائر الفادحة فى أرواح الفلسطينيين. الخلاصة، فى كل مرة، كانت الإجراءات الأمريكية الفعلية تتناقض مع الخطابات الإعلامية التى تعرب من خلالها عن القلق من الدمار الذى يشهده القطاع.
حتى مع تصريحات بايدن الأخيرة، فهو يعلم أن إسرائيل مستمرة فى حربها فى رفح لاعتبارات سياسية أكثر منها عسكرية. وهو يدعم بالتأكيد هذه العملية، ما لم يصعد جيش الاحتلال من هذا الغزو إلى المستويات المروعة التى شوهدت فى مدن أخرى فى غزة. ويبدو أن مستوى القوة النارية التى تستخدمها إسرائيل حاليا، والتى تستهدف من خلالها العشرات من المدنيين بدل المئات، هو أمر مقبول بالنسبة لبايدن. وبالتالى فهو يستطيع تبرير استمرار الحرب، ويستطيع الاستمرار فى الدفاع عن إسرائيل أمام الرأى العام الأمريكى والدولى الذين يطالبون بوقف الحرب ووقف الدعم العسكرى الأمريكي. وأيضا يستطيع من خلال الضغط على إسرائيل بالحفاظ على نفس القوة النارية التى تستخدمها حاليا فى رفح، التخفيف من حدة الذعر الذى أصاب حزبه مؤخرا.
لا شك فى أن نيتانياهو يعلم ان النصر الشامل هو أمر مستحيل، ومع ذلك فهو يعلق بعض الأمل على عملية رفح، التى يطمح من خلالها، على الأقل، الى استعادة بعض الاسرى سواء كانوا أحياء أو أمواتا، بالإضافة إلى تمديد الحرب أشهر إضافية مما يمكن أن يقيه من شر سقوط حكومته وتقديمه للمحاكمة بتهم الفساد وربما جرائم الحرب.
والمعارضة الإسرائيلية وان كانت تنادى بإيقاف الحرب التى أثقلت كاهل الإسرائيليين اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا، الا انها تدرك أن الالحاح فى معارضة اجتياح رفح يعنى أنها تقدم لنيتانياهو هدية عبارة عن حجة سيتخذها حتما لتبرير خسارته للحرب.
أما الرئيس الأمريكى المقبل على انتخابات رئاسية نهاية العام، فإيقافه الدعم عن إسرائيل يعنى ربما نهاية الحرب دون تحقيق ولا واحد من أهدافها، فقط قتل آلاف المدنيين وتدمير البنية التحتية الصحية والتعليمية لغزة وهدم آلاف المنازل وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين. بهذه النتيجة السلبية، لن يستطيع بايدن إقناع كتلة الناخبين المسيحيين الصهاينة الذين يمثلون 30% تقريبا من القاعدة الانتخابية (ديمقراطيين وجمهوريين). لذلك فمهما تتنوع وتتناقض لغات خطابه، فدعمه لإسرائيل مستمر وبأشكال مختلفة.