وافق البرلمان الإيراني على تعديل قانون الانتخابات الرئاسية في 21 مايو الماضي؛ لإجرائها في موعد مُبكر، حيث كان من المفترض أن يتم إجراء الانتخابات العام المقبل، إلا أن وفاة الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” ووزير الخارجية “حسين أمير عبد اللهيان” والوفد المرافق لهما على إثر تحطم الطائرة التي كانت تقلهم في أثناء عودتهم من أذربيجان في 19 مايو الماضي، حال دون ذلك. وفي هذا الصدد، أعلن المرشد الأعلى تعيين “محمد مخبر”، النائب الأول للرئيس الإيراني الراحل، ليتولى مهام الرئاسة حتى تعقد الانتخابات، وفقًا للبند 131 من الدستور الإيراني.
بدأت أولى جولات الانتخابات الرئاسية الإيرانية في 28 يونيو الماضي، لاختيار الرئيس التاسع في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وفي الدورة الأولى، نال “مسعود بزشكيان” 42,4% من الأصوات، في مقابل 38,6% لـ “سعيد جليلي”، وانعقدت الجولة الثانية من الانتخابات في إيران، في 5 يوليو 2024، بين “بزشكيان” و”جليلي”. انتهت الانتخابات الإيرانية، يوم السبت الموافق 6 يوليو 2024، بفوز المرشح الإصلاحي، “بزشكيان”، الذي يسعى للانفتاح على الغرب، بنحو 53.7% من الأصوات.
وفي هذا السياق، يدفع المشهد الحالي نحو التساؤل حول مستقبل الاتفاق النووي الإيراني، لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية.
الاتفاق النووي الإيراني
تم توقيع الاتفاق النووي الإيراني، المعروف بخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، في 14 يوليو 2015، بين إيران وأعضاء مجلس الأمن الدائمين وألمانيا (5+1)، بعد عام ونصف من المفاوضات، وقد أيد مجلس الأمن الدولي هذا الاتفاق من خلال القرار 2231 الذي اعتُمد في 20 يوليو 2015.
كان لدى إيران ما يقارب 20 ألف جهاز طرد مركزي، وبموجب الاتفاق، احتفظت بما لا يزيد عن 5060 من أجهزة الطرد المركزي الأقدم والأقل كفاءة في محطة نطنز النووية حتى عام 2026، كذلك، في إطار الاتفاق النووي، التزمت إيران بتخفيض مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 98% إلى 300 كيلو غرام، وهي كمية لا يجب تجاوزها حتى عام 2031، وبالمحافظة على مستوى تخصيب المخزون بدرجة 3.67%. وتجدر الإشارة إلى أن الاتفاق النووي الإيراني حقق العديد من المكاسب، سواء للدول الغربية، أو لإيران، وهو ما سنوضحه على النحو التالي:
من ناحية المكاسب الغربية، يمكننا الإشارة إلى مساهمة الاتفاق في تقليص الأنشطة النووية الإيرانية، وهو ما حد من القدرات التي تسمح لطهران بتطوير أسلحة نووية؛ مما عزز بدوره الاستقرار الإقليمي، وذلك من خلال تقليل مخاطر انتشار الأسلحة النووية في المنطقة، وكذلك سمح الاتفاق النووي للولايات المتحدة الأمريكية بالتفرغ لمواجهة التحديات الاستراتيجية الأخرى، مثل صعود الصين المتنامي.
من ناحية أخرى المكاسب الإيرانية، من خلال الاتفاق مع القوى الكبرى، تمكنت إيران من رفع العديد من العقوبات الدولية، الأمر الذي حسن الأوضاع الاقتصادية الداخلية؛ مما سمح لطهران بالانخراط من جديد في الاقتصاد العالمي، هذا بجانب حصول إيران على اعتراف ببرنامجها النووي السلمي، كما استمرت طهران في تطوير القدرات النووية ضمن الاستخدامات السلمية، بما في ذلك البحث والتطوير في التكنولوجيا النووية.
إلا أن الوضع لم يبقى كما هو عليه، حيث أصبح “دونالد ترامب” رئيسًا للولايات المتحدة في يناير عام 2017، الأمر الذي ألقى بظلاله على الاتفاق النووي الإيراني، وهو ما سنوضحه فيما يلي.
تعقُد المشهد
عبر الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” في أكثر من مناسبة إبان حملته الانتخابية وحتى تم انتخابه عن رغبته في إلغاء الاتفاق النووي الإيراني، حيث وصفه بأنه أسوأ اتفاق في تاريخ الولايات المتحدة، وامتنع عن التصديق على التقرير الذي يُقدم له كل ثلاثة أشهر عن مدى التزام إيران بتعهداتها، ولم يكن ذلك مجرد تهديدًا، حيث انسحب “ترامب” من الاتفاق في مايو 2018.
أقدم “ترامب” على تلك الخطوة؛ لأنه يرى أنه بدلًا من أن يجهض الاتفاق طموحات إيران في امتلاك سلاح نووي، فإنه سمح لها بمواصلة تخصيب اليورانيوم؛ مما مكنها من الاقتراب من القدرة على إنتاج قنبلة نووية، كما أشار إلى أن العقوبات الاقتصادية التي رُفعت عن إيران لم تضع قيودًا لتحركاتها في المنطقة، كذلك، من وجهة نظر الرئيس الأمريكي السابق، يفتقر الاتفاق إلى آليات تفتيش صارمة، حيث إن المفتشين لا يملكون حق التفتيش غير المشروط لعديد من المواقع المهمة.
خلق الانسحاب الأمريكي من الاتفاق العديد من التداعيات، على رأسها، بِدأ إيران في زيادة أنشطتها النووية تدريجيًا، وذلك ردًا على إعادة فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية والسياسية، هذا بجانب الهجمات السيبرانية. إذ تجاوز البرنامج النووي ما كان متفقًا عليه؛ لأنه كان يحدد نسبة معينة من تخصيب اليورانيوم، ألا وهي 3.67%، ولكن طهران بعد الانسحاب رفعت نسبة التخصيب إلى أعلى من 5%، ثم إلى 20%، ثم إلى 63%، بحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي نسبة قريبة من 90% اللازمة لتطوير أسلحة نووية، كما منعت الوكالة من وضع كاميرات للمراقبة.
علاوة على ذلك، أظهر الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني، ضعف قدرة الاتحاد الأوروبي على حماية الاتفاق أو تقديم بدائل اقتصادية فعالة لإيران؛ مما أدى إلى تقويض الثقة في قدرة الاتحاد على الوساطة أو لعب دور مؤثر في الساحة الدولية، من خلال أجندة مختلفة عن أجندة الولايات المتحدة.
كما شهدت تلك المرحلة تصعيدًا في المنطقة، تجلى من خلال إعلان الكونجرس الأمريكي أنه بأمر من الرئيس السابق “ترامب”، اتخذ الجيش الأمريكي إجراءات دفاعية حاسمة لحماية الموظفين الأمريكيين في الخارج وذلك عبر قتل قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني “قاسم سليماني”، وذلك في 3 يناير عام 2020، في ضربة أمريكية على السيارة التي كانت تقله بالقرب من مطار بغداد الدولي، وكان معه نائب رئيس الحشد الشعبي، “أبو مهدي المهندس”. وردت إيران، بعد بضعة أيام من الاغتيال، بإطلاق أكثر من 12 صاروخًا بالستيًا، على القاعدتين الأمريكيتين، عين الأسد غربي الأنبار وقاعدة حرير في أربيل.
مستقبل الاتفاق النووي الإيراني
ينتظر الاتفاق النووي الإيراني حاليًا مسارين محتملين؛ إما العودة لإحيائه أو بقاء الوضع كما هو عليه، وسيتوقف تطبيق أي من المسارين على مجموعة من المحددات، والتي سنوضحها على النحو التالي:
محدودية السلطة: إن نظام السلطة في إيران يحد بشدة من سلطة الرئيس والسلطة التنفيذية الذين لا يديرون البلاد بشكل مستقل، حيث يعد المرشد الأعلى “علي خامئني” المقرر الرئيسي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وتقتصر السلطة الرسمية للرئيس في إيران على “القضايا الداخلية”، الأمر الذي يعني أنه حتى إذا أراد الرئيس الإيراني الجديد “مسعود بزشكيان” الانفتاح على الغرب كما دعا إلى تحسين العلاقات الإيرانية مع الغرب، بهدف رفع العقوبات عن طهران، فإن تحركاته مقيدة بإدارة المرشد الأعلى لذلك الملف، حيث تظل الكلمة الحاسمة في الاتفاق مع الغرب للمرشد. وتجدر الإشارة إلى أن “بزشكيان” أكد في أكثر من مناسبة أنه “لن يكون إلا منفذًا لخطط وسياسات المرشد الأعلى الإيراني”.
وربما تعكس حقيقة أن المجلس الديني الذي يفحص المرشحين الرئاسيين سمح بترشح إصلاحي، على عكس 2021 عندما تم استبعاده، رغبة طهران في تغيير الاتجاه قبل الانتخابات الأمريكية، واعتماد لهجة أكثر تصالحية تجاه الدول الغربية، بيد أن التغيير المأمول قد يكون محدودًا وفي إطار المسموح به فقط.
انفراجة محتملة: إن إدارة الرئيس الأمريكي الحالي “بايدن” للعلاقات مع إيران والمحاولة لفتح قنوات التواصل غير المباشرة بينهما، إلى جانب رغبة الولايات المتحدة وإيران في تجنب التصعيد في المنطقة، قد يشير إلى سعي “بايدن” للتوصل إلى اتفاق مع طهران بشأن الملف النووي، قبل موعد الانتخابات الأمريكية، ويمكن التدليل على ذلك من خلال الفقرات التالية.
أفاد موقع “أكسيوس” الأمريكي في مايو الماضي، بأن مسئولين أمريكيين وإيرانيين أجروا محادثات غير مباشرة في سلطنة عُمان لتجنب التصعيد في المنطقة ولمناقشة وضع البرنامج النووي الإيراني، وكانت هذه أول جولة محادثات بين واشنطن وطهران منذ يناير الماضي.
علاوة على ذلك، أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية، في 8 يوليو الجاري، عن مفاوضات غير مباشرة بين إيران والولايات المتحدة بوساطة عمانية، حيث أكد المتحدث باسم وزير الخارجية “ناصر كنعاني” أن إيران ملتزمة بالتفاوض، وأن القنوات الدبلوماسية بين طهران وواشنطن مفتوحة، موضحًا أن الحكومة الإيرانية الحالية تابعت المفاوضات النووية الرامية إلى رفع العقوبات. ويأتي ذلك في سياق انتخاب رئيس إيراني جديد، وقرب موعد الانتخابات الأمريكية، ووجود عدد من الملفات الخلافية، على غرار الملف النووي الإيراني والحرب في غزة واحتمالية نشوب حرب في جنوب لبنان.
وبناء على ما تقدم، قد ينجح الرئيس الأمريكي “بايدن” في التوصل لاتفاق مع إيران بشأن الملف النووي، وذلك مرهون بتهدئة الأوضاع في المنطقة، من حيث وقف إطلاق النار في غزة، وبدء المفاوضات بين إسرائيل وحركة حماس، لا سيما بعدما أعلنت الحركة تنازلها عن شرط التزام إسرائيل بوقف الحرب على قطاع غزة، قبل بدء أي مفاوضات حول تهدئة في القطاع، وهو ما يفتح الباب أمام اتفاق محتمل، وجعل نهاية الحرب ممكنة أكثر من أي وقت مضى.
ثأر قديم: مع تزايد فرص الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” في الفوز، لا سيما عقب أول مناظرة بين “بايدن” و”ترامب”، في يونيو الماضي، والتي عكست الأداء غير الجيد لـ “بايدن”؛ مما أدى إلى تصاعد المطالب بانسحاب الرئيس الأمريكي الحالي وتقديم مرشح بديل عنه، قد يكون من الصعب التوصل لاتفاق بين طهران وواشنطن بشأن برنامج إيران النووي، وكذلك إمكانية توقف المباحثات غير المباشرة التي كانت بين إيران وواشنطن، وذلك لاعتبارين؛ يتمثل الأول في شخص “ترامب”، الذي انتقد سياسة الرئيس الأمريكي الحالي “جو بايدن” في التعامل مع إيران، حيث يرى أن إدارة “بايدن” لذلك الملف، مكنت طهران من الاقتراب من تصنيع القنبلة النووية، ولذلك قد يرغب في فرض مزيد من العقوبات عليها ليمنعها من تحقيق ذلك.
يكمن ثاني الاعتبارات في شخص “بزشكيان”، أعلن الرئيس الإيراني الجديد عن رغبته في إحياء الاتفاق النووي من جديد، ومع ذلك، إذا ما تعنت “ترامب” وانتهج نهجًا تشدديًا تجاه إيران، قد يدفع ذلك طهران إلى المعاملة بالمثل، ويعرقل جهود الإصلاحي “بزشكيان” في التوصل لاتفاق مع الولايات المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس السابق “حسن روحاني” كان معتدلًا ومنفتحًا على الغرب ونجح في التوصل للاتفاق النووي الإيراني، ولكن أيضًا شهد فترة التصعيد غير المباشرة بين طهران وواشنطن الذي أعقب الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني. لذلك، إن مرشحًا منفتحًا على الغرب ليس بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث يتوقف ذلك على المصالح الاستراتيجية لإيران، وأيضًا على توجهات المرشد الأعلى.
مخاوف روسيا: إن موسكو لديها قلق من احتمالية الاتفاق بين طهران والإدارة الأمريكية الحالية، لا سيما بعد فوز الإصلاحي “مسعود بزشكيان”، الذي دعا إلى إقامة علاقات بناءة مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية بهدف إخراج إيران من عزلتها، والسعي لإحياء مفاوضات الملف النووي الإيراني، وحدد أن أولوياته تتمثل في تخفيف العقوبات وتحسين الاقتصاد، مع عدم الإشارة إلى إقامة علاقة خاصة مع موسكو، وهو ما قد يهدد مصالح الأخيرة التي تستفيد من إيران في إيصال تجارتها وغازها إلى دول الجنوب والمحيط الهندي.
بالإضافة إلى ذلك، وفقًا لمعهد “تشاتام هاوس Chatham House“، يعارض “بزشكيان”، اعتماد طهران الأحادي الجانب على التعاون مع روسيا والصين، كما أشار المعهد إلى أن العديد من أنصار المعسكر المحافظ في إيران، يروا أن التوجه نحو الشرق لم يحسن الوضع الاقتصادي في إيران، بل على العكس من ذلك، لم تؤدِ مساعدة طهران لموسكو في حربها في كييف سوى إلى زيادة أعباء العقوبات المفروضة على طهران.
وفي سياق متصل، سارعت موسكو إلى تعزيز علاقاتها المصرفية مع طهران، وذلك من خلال توقيع روسيا وإيران، في يوليو الجاري، أول اتفاقية لتوفير العملات الوطنية في التعاملات التجارية بينهما والانتهاء من عملية ربط نظام الدفع “مير” بشبكة نظام “شتاب” الإيراني، وتستفيد إيران من هذه الخطوة في ظل عدم انضمامها لمعاهدة مكافحة غسيل الأموال (فاتف)، والقيود المفروضة على نظامها المصرفي، وعلى عمليات التبادل التجاري مع الخارج.
ختامًا، في الواقع تغيرت الظروف بشكل جذري لإحياء الاتفاق النووي المبرم عام 2015؛ حيث أصبح البرنامج النووي الإيراني متقدمًا بشكل ملحوظ، وانخفضت الثقة بين مختلف الأطراف. كذلك، يوجد عدد من العوامل الحاكمة التي من شأنها التأثير في مجريات المشهد، أولًا: فيما يتعلق بالداخل الإيراني، على الرغم من تحدث “بزشكيان” في حملته الانتخابية عن ضرورة التفاوض مع الغرب ورفع العقوبات الدولية، إلا أن قرار “علي خامنئي” سيكون حاسمًا في هذا الصدد.
ثانيًا: فيما يتصل بالانتخابات الأمريكية، يدرك الإيرانيون أن تخفيف العقوبات يتطلب أولًا مباحثات مع واشنطن، وبالتالي فإن بقاء الديموقراطيين في السلطة قد يسهل من تحقيق هذه الغاية؛ لأن احتمالية عودة “ترامب” للرئاسة الأمريكية، قد يزيد من تشدد الأخير تجاه طهران.
علاوة على ذلك، إذا استمر “بايدن” في السلطة، وتوصلت واشنطن وطهران لاتفاق فيما يتعلق بالملف النووي، قد تراجع إيران علاقتها مع روسيا، لا سيما في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، حيث الدعم الأمريكي لأوكرانيا، والدعم الإيراني لروسيا. وفي حالة فوز “ترامب”، قد يحدث تقارب بين موسكو وواشنطن، خاصة مع إعلان الرئيس السابق في أكثر من مناسبة انتقاده لإدارة “بايدن” للحرب على أوكرانيا، حيث يرى أن الولايات المتحدة أنفقت الكثير من الأموال على حرب لم تكن لتحدث إذا كان في السلطة، وإذا ما حدث هذا التقارب، فلا مانع من تنامي العلاقات الروسية-الإيرانية.