مع دخول حرب غزة شهرها العاشر، وما تلاها من تداعيات هددت استقرار المنطقة والتي من بينها هجمات الحوثيين على البحر الأحمر بشكل عام، واستهداف ميناء إيلات بشكل خاص، وسط غياب الرد الإسرائيلي المباشر على جماعة الحوثي، والاكتفاء برد الحلفاء الغربيين على الجماعة، شهد ميناء الحديدة سلسلة غارات جوية إسرائيلية، في 20 يوليو الجاري، تسببت في وقوع عدد من القتلى والجرحى، وتأتي الغارات على الحديدة بعد يوم من الهجوم الحوثي عبر طائرة مسيرة على تل أبيب، الأمر الذي يثير تساؤلًا حول دلالات تنامي لغة التهديد بين إسرائيل والحوثيين.
هجمات حوثية وتحركات دولية
انخراط حوثي: منذ بدأ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عقب عملية طوفان الأقصى، أعلن الحوثيون مشاركتهم لحركة حماس في الحرب ضد إسرائيل وذلك من خلال استهدافهم ميناء إيلات الإسـرائيلي بالعديد من الصواريخ البالستية والطائرات المسيرة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل في خطاب ألقاه زعيم الجماعة “عبد الملك الحوثي” في 14 من نوفمبر 2023، حذّر قائلًا: “عيوننا مفتوحة من أجل الرصد الدائم والبحث عن أي سفينة إسرائيلية في البحر الأحمر، وباب المندب على وجه التحديد، وما يحاذي المياه الإقليمية اليمنية”. وبالفعل، قامت الجماعة في 19 نوفمبر 2023 باحتجاز سفينة “جلاكسي ليدر” المملوكة لشركة “راي شيبينغ ليميتد” ومقرها إسرائيل، وفي 9 ديسمبر 2023 أعلنت الجماعة منع مرور جميع السفن من كافة الجنسيات المتوجهة من وإلى الموانئ الإسـرائيلية.
تعاطي الحلفاء: قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإطلاق عملية “حارس الازدهار”، ردًا على ما قامت به جماعة الحوثي من عرقلة لحركة التجارة العالمية، حيث أعلن وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن”، بعد منتصف ليل يوم 18 ديسمبر 2023 في البحرين، عن تشكيل قوة بحرية متعددة الجنسيات لحماية حركة الملاحة البحرية في المنطقة. علاوة على ذلك، قامت الولايات المتحدة وبريطانيا، وبدعم من باقي دول القوة البحرية متعددة الجنسيات، بتنفيذ هجمات مشتركة في مواقع تابعة للحوثيين في اليمن. هذا إلى جانب إعلان عدد من الدول الأوروبية عن إطلاق عملية “أسبيدس” في البحر الأحمر لحماية الملاحة في المنطقة، وذلك في فبراير الماضي.
تصعيد نوعي
لم تقم تل أبيب بالرد على الحوثيين في البحر الأحمر طوال الأشهر الماضية، وتركت الأمر لحلفائها في الغرب، نظرًا لانشغالها بالحرب على القطاع من ناحية والهجمات المتبادلة مع حزب الله، وحربها بالوكالة ضد إيران في سوريا من ناحية أخرى. ولذلك اكتفت الحكومة الإسرائيلية بإرسال عدد من القطع البحرية وغواصة متطورة إلى البحر الأحمر وباب المندب لرصد تحركات إيران في 3 ديسمبر 2023.
بيد أن ولأول مرة منذ بدأ حرب غزة، أعلنت إسرائيل مسئوليتها عن الضربة التي نفذتها 12 طائرة من طراز إف 35 ضد ميناء الحديدة، انطلقت من “قاعدة نيفتيم” في النقب باتجاه البحر الأحمر، في 20 من يوليو الجاري، واستهدفت الضربة مستودعات للغاز والنفط ومحطة كهرباء في الميناء، وذلك بالتنسيق مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي الذي تم تشكيله لمواجهة هجمات الحوثيين، وفقًا لموقع اكسيوس. أسفرت الضربة التي أطلقت عليها إسرائيل “عملية اليد الطويلة” عن نشوب حريق في الميناء الرئيسي، ووفاة 14 شخصًا وإصابة 90 على الأقل، ووفقًا لتل أبيب تم استهداف الميناء لأنه يعد مصدر نقل وسائل قتالية إيرانية الصنع من إيران إلى اليمن ويعد مصدرًا اقتصاديًا مهمًا للحوثيين.
جاء ذلك ردًا على انفجار مسيرة في تل أبيب، على بُعد عدة أمتار من مبنى السفارة الأمريكية دون تفعيل صفارات الإنذار؛ مما أسفر عن مقتل إسرائيلي وإصابة 10 آخرين، وأعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي “أن التحقيق الأولي أظهر أن المسيرة إيرانية الصنع من طراز (صماد3)”، وكان المتحدث العسكري باسم جماعة الحوثي “يحيى سريع” قد أعلن في 19 يوليو الجاري، أن الحوثيين نفذوا عملية عسكرية نوعية في تل أبيب بطائرة مسيرة جديدة اسمها “يافا”، والتي لديها القدرة على تجاوز المنظومات الاعتراضية للعدو ولا تستطيع الرادارات اكتشافها، ردًا على المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
دلالات عدة
تنامي لغة التصعيد: من الواضح من استهداف الحوثيين لمبنى قريب من السفارة الأمريكية في تل أبيب، وكذلك من رد الأخيرة على جماعة الحوثي باستهداف ميناء الحديدة، تصاعد لغة التهديد، حيث منذ السابع من أكتوبر قامت الجماعة باستهداف ميناء إيلات عدة مرات، وكذلك السفن المتوجهة من وإلى إسرائيل، ولكن لم تستهدف بشكل مباشر تل أبيب، وفي الوقت نفسه لم ترد الأخيرة على الهجمات الحوثية طوال الفترة الماضية، وتركت الأمر للتحالف الدولي، ولكن عندما تم استهداف تل أبيب بشكل مباشر، شنت إسرائيل عملية “اليد الطويلة”، ولا تكمن أهمية العملية فقط في الهجوم والأهداف التي جرى ضربها، حيث منشآت تخزين الوقود ومحطة كهرباء كبيرة، ولكن أيضًا في وقوف تل أبيب وراء العملية، وهو ما لم يحدث من قبل عندما هاجمت إسرائيل مناطق أخرى.
حفظ ماء الوجه: على مدار الأشهر الماضية أطلق الحوثيون حوالي 200 تهديد جوي مختلف تجاه إسرائيل بتمويل وتوجيه إيراني، تم اعتراض أو إسقاط معظم التهديدات من قبل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، ولم تقُم إسرائيل بالرد في أي مرة. بيد أن مع استهداف جماعة الحوثي لتل أبيب ووفاة مواطن إسرائيلي، قد تكون أرادت إسرائيل تأكيد أن الغارات الأمريكية والبريطانية لم تعد تردع الحوثيين، وعليه، عقد “بنيامين نتنياهو” اجتماعًا لقادة الجيش والمخابرات ووزيري الدفاع والاستراتيجية، “يوآف غالانت” و”رون دريمر”، وخلال الاجتماع طرح رئيس دائرة اليمن في قسم العمليات في رئاسة الأركان تصورًا قال فيه: إن عدم الرد على قصف تل أبيب والاستمرار في الاعتماد على التحالف الدولي في الرد على الحوثيين، سيفسر عن أنه ضعف إسرائيلي، وعليه يجب أن يكون هناك رد إسرائيلي مباشر حتى تفهم الجماعة أن قصف تل أبيب خطّ أحمر.
فشل تكتيكي: على الرغم من أن القوات الجوية تقوم باستمرار بتشغيل طائرات مقاتلة فوق منطقة البحر الأحمر وفي شرق البلاد للمساعدة في اكتشاف التهديدات المحتملة، وأن إسرائيل رفعت درجة حماية أجوائها في مختلف المناطق إلى أعلى درجة، فإنه فشل نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي في اعتراض المسيرة، حيث رصد شهود مسار المسيرة فوق البحر بارتفاع منخفض لا يتجاوز المبنى الذي سقطت عليه. علاوة على ذلك، إن ما يعزز إخفاق إسرائيل، أن نظام الدفاع الجوي التابع لسلاح الجو الإسرائيلي لديه تدابير إضافية، للكشف عن أي تهديد مقترب، مثل الكشف عبر الأقمار الصناعية، والكشف بالوسائل البصرية والرادارات. وبعد سقوط المسيرة دعا زعيم المعارضة الإسرائيلية “يائير لبيد” إلى رحيل حكومة “بنيامين نتنياهو”، قائلًا: إن “انفجار المسيرة في تل أبيب دليل آخر على أن هذه الحكومة لا تعرف ولا تستطيع توفير الأمن لمواطنيها”، وأضاف “لبيد” أن “من يفقد الردع في الشمال “لبنان” والجنوب “غزة” يفقده أيضًا في “تل أبيب”.
فتح عدد من الجبهات: قد يكون هذا الهجوم جزءًا من تحركات إيران في المنطقة، ورغبتها في التخفيف من حدة الضغط على حزب الله، في ظل التهديدات الإسرائيلية بشن حرب على جنوب لبنان، حيث قررت طهران توجيه رسالة مبكرة لإسرائيل على أن أذرع إيران قادرة على قصف تل أبيب، وأن قدراتها الدفاعية والقبة الحديدية لن تكون فعالة. وعليه، من المحتمل أن يكون هذا الهجوم الحوثي على تل أبيب مباشرةً، غرضه تشتيت جهد إسرائيل على أكثر من جبهة واستنزاف قدراتها.
تفاقم الأزمة الإنسانية: إن استهداف إسرائيل لميناء الحديدة من شأنه أن يفاقم الأزمة الإنسانية، بدلًا من ردع عمليات الحوثيين، في بلد يعاني بالفعل من واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، حيث تستورد اليمن ما يقارب 90% من احتياجاتها من الوقود والأغذية والمواد الأساسية، ويعد ميناء الحديدة أحد أهم الموانئ التي تستقبل هذه المواد. وتسبب الهجوم في أزمة وقود حادة في كثير من المدن اليمنية الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، فبحسب التقارير، استهدفت العملية الإسرائيلية 20 خزانًا للوقود من أصل أكثر من 82 خزانًا في الميناء. علاوة على ذلك، من الممكن أن يتسبب هذا الهجوم في عزوف شركات النقل عن إرسال سفنها إلى اليمن، أو أن تقوم إسرائيل بتوسيع عملياتها ضد الحوثيين إلى تنفيذ حصار بحري، الأمر الذي سيزيد من تبعات الأزمة على المواطنين اليمنيين.
اكتساب شعبية: على الرغم من خطابات التصعيد التي يتبناها الحوثيون والتوعد بالرد بقوة على إسرائيل، حيث كتب المتحدث باسم الحوثيين “نصر الدين عامر”، في وقت سابق، على مواقع التواصل الاجتماعي أن “بلادنا في حالة حرب مع الكيان الصهيوني ولن تتوقف عملياتها نصرة لغزة بل ستصعد العمليات”، بيد أنه من الواضح أن الهجمات الحوثية ليست إلا لخدمة أغراض محلية متعلقة بصرف الانتباه عن الأزمة الداخلية واستمرار التوازنات السياسية الداخلية الراهنة، إلى جانب اكتساب شعبية إقليمية من منطلق مساندة الجماعة للقضية الفلسطينية.
وفي الختام، على الرغم من تبني طرفي الصراع خطابات تصعيدية ضد بعضهم بعضًا، قد لا تشتد حدة المواجهة بينهم على غرار ما يحدث بين إسرائيل وحزب الله، ولكن قد تتكرر الضربات المتبادلة على فترات متقطعة خاصة إذا ما قُتل مواطن إسرائيلي مرة أخرى، حيث قال وزير الدفاع الإسرائيلي، “يوآف غالانت”، إن “الحوثيين هاجمونا أكثر من 200 مرة، وفي المرة الأولى التي ألحقوا فيها الأذى بمواطن إسرائيلي، قمنا بقصفهم، وسنفعل ذلك في أي مكان إذا اقتضت الضرورة”.
ومع ذلك، لا تزال الأطراف تضبط تحركاتها لتجنب حرب إقليمية واسعة، وذلك نظرًا لعدد من الاعتبارات، من بينها أنه قد لا يرغب الحوثيون في دخول حرب شاملة مع إسرائيل، لا سيما عقب استهداف تل أبيب ميناء الحديدة، واحتمالية ضرب إسرائيل لمواقع استراتيجية أخرى في اليمن، من شأنها أن تكبد الجماعة مزيدًا من الخسائر وسط أزمة إنسانية يعاني منها الشعب اليمني بالفعل، وهو ما قد يؤثر في شرعية الحوثيين ورغبتهم في استرجاع شعبيتهم في الأوساط اليمنية، علاوة على ذلك، قد لا ترغب إسرائيل تكبُد خسائر عسكرية واقتصادية إضافية، لا سيما في ظل اشتعال ثلاث جبهات تمثل خطوط محورية بالنسبة لأمنها القومي. وبناءً على ما تقدم، طالما لم يتم التوصل لوقف إطلاق النار في غزة، سيظل التهديد قائم.