أصبح العالم الذى نعيش فيه مكانا شديد الخطورة. وعلينا الاستعداد للأسوأ. فى أوكرانيا حرب بين روسيا وحلف الأطلنطي. مع كل منعطف جديد فى الحرب الأوكرانية تتجدد التهديدات باستخدام السلاح النووي. فى شرق آسيا هناك سباق تسلح محتدم، وهناك تحالفات عسكرية جديدة، وهناك أيضا تحرشات ومواجهات متواصلة بشأن حقوق السيادة على الجزر والممرات الملاحية. الصراعات المسلحة فى الشرق الأوسط تتكاثر كالفطر داخل الدول أو بينها. حروب الشرق الأوسط لها بدايات نعرفها، لكن ليس لها نهايات يمكن التنبؤ بها.
عالم الدول بطبعه مليء بالمخاطر، تتخوف فيه الدول من بعضها، وتخشى إن ظهر عليها الضعف أن يفترسها منافسون طامعون فى الأرض والموارد وطرق المواصلات والتكنولوجيا والسيطرة.ليس للدولة سوى الاعتماد على نفسها لحماية أمنها ومصالحها الحيوية فى عالم لا توجد فيه حكومة عالمية تنجد المظلوم، وتقتص من المعتدي، وتنفذ القانون، أى قانون.
فى المرحلة السابقة كانت الولايات المتحدة مهيمنة ومتفوقة، تخدم مصالحها الخاصة بينما تقدم بعض الخدمات للنظام الدولي. لعلنا نذكر عندما قامت الولايات المتحدة بإنقاذ الكويت من احتلال صدام، وإنقاذ مسلمى البوسنة من التطهير العرقي، ما أعطى للنظام الدولى مسحة من الأمن واحترام القانون والأخلاق. إنها نفس المرحلة التى اقترب فيها الفلسطينيون من تحقيق دولتهم الوطنية، فتشكلت السلطة الفلسطينية، وعاد ياسر عرفات والقادة المؤسسون للحركة الوطنية الفلسطينية إلى بلدهم. فى هذه المرحلة فتحت الولايات المتحدة أسواقها لمنتجات أتت من الصين وكوريا ومن كل بلد لديه إرادة النهوض والالتحاق بنادى الكبار. لولا الأسواق الغربية المفتوحة لسلع قادمة من بلاد صاعدة لاستغرق تحقيق النهضة الاقتصادية فى بلاد المعجزة الآسيوية وقتا أطول بكثير. فى هذه المرحلة التحق آلاف طلاب العلم من الصين والهند وغيرهما بالجامعات الأمريكية الفائقة التقدم، ونقلوا إلى بلادهم علوما ومعارف ومبتكرات اسهمت فى تسريع التصنيع والتحديث التكنولوجى والابتكار.فى نفس هذه المرحلة قامت الولايات المتحدة مع آخرين بحماية حرية الملاحة عندما تجرأ القراصنة على مهاجمة السفن. لم يعد شيء من هذا يحدث اليوم، فأمريكا لم تعد مهتمة بإشاعة الرفاهية الاقتصادية بقدر انشغالها بمنع المنافسين من اللحاق بها.
كانت الولايات المتحدة متفوقة للغاية، وكانت قوة عظمى بحق، ومع العظمة والتفوق يأتى غرور القوة، وتأتى الاستهانة بالآخرين، ويأتى ارتكاب الحماقات. تم استفزاز روسيا وإشعارها بالتهديد مع توسع حلف الناتو باتجاه حدودها. غزت أمريكا أفغانستان والعراق كرد فعل لهجمات الإرهاب فى الحادى عشر من سبتمبر. أبدى العالم تفهما لغزو أفغانستان باعتباره البلد الذى أتاح أراضيه قاعدة للإرهاب، لكن كان من الصعب تفهم غزو العراق، الذى بدا للكافة شديد الغرابة ومخالفا لكل منطق. عجزت الولايات المتحدة عن استصدار قرار من مجلس الأمن يضفى شرعية قانونية على غزو العراق. تجاهلت أمريكا المعارضة الدولية، وضربت بموقف مجلس الأمن عرض الحائط، واحتلت العراق، فوجهت ضربة شديدة الوطأة للنظام الدولى الذى تجلس على قمته، وأعطت شرعية سياسية للقائلين إن للدول القادرة الحق فى استخدام قوتها بالمخالفة للقانون، مادام كان ذلك يخدم مصلحتها. استنت الولايات المتحدة سابقة مدمرة استندت إليها روسيا وإسرائيل وآخرون فى تبرير تدخلهم بالقوة فى شئون دول أخري، حتى وصلنا إلى الحالة الراهنة التى ينشب فيها صراع مسلح جديد كل بضعة أشهر. فى أفغانستان والعراق صور غرور القوة للأمريكيين قدرتهم على إنشاء ديمقراطيات ليبرالية على الطريقة الغربية فى بلاد لها ثقافة وتاريخ خاص بها. آمن الأمريكيون بأن نظامهم السياسى هو الأفضل فى العالم، وظنوا أن الشعوب سوف تكون ممتنة لهم لو ساعدوهم فى استيراد هذا النظام لبلادهم. بقى الأمريكيون فى أفغانستان والعراق لعشرين عاما، فلم تتحقق الديمقراطية، بينما تأججت صراعات عرقية وعقائدية ومذهبية وأيديولوجية، تضع هذه الدول فى قائمة الدول الفاشلة أو قريبا جدا منها. انسحبت الولايات المتحدة فى النهاية من العراق وأفغانستان. حدث هذا ليس فقط بعد أن فشلت الولايات المتحدة فى تحقيق أهدافها، ولكن أيضا بعد أن تم إرهاقها واستنزاف مواردها بما يزيد على طاقتها على الاحتمال. ستة تريليونات دولار هى التكلفة الإجمالية للحرب الأمريكية فى أفغانستان والعراق، بما يزيد عن أى صراع عسكرى دخلته الولايات المتحدة قبل ذلك. مع الفشل والتكلفة العالية فقدت الولايات المتحدة هيبة الدولة المهيمنة، وفقدت أيضا الرغبة والإرادة لتحمل كلفة القيادة الدولية. كان الأمريكيون يستنزفون مواردهم فى حروب فاشلة، بينما دول أخرى تبنى الاقتصاد والتكنولوجيا ومعاهد العلم والمدارس، مضيقين الفجوة مع الولايات المتحدة. أصبح الصغار كبارا، وراحوا يضغطون على أمريكا لإفساح مكان لهم إلى جانبها عند القمة. كفت أمريكا عن تقمص دور القائد المهيمن وحكومة العالم العرفية،فلم تعد مهتمة بتقديم خدمات تسهل عمل النظام الدولي،وانشغلت بدلا من ذلك بالتصدى لمطالب القوى الصاعدة، فعاد النظام الدولى إلى سيرته الأولي، تعتمد فيه الدول على نفسها، ويجرب فيه كل قادر حظوظه فى الاستحواذ على ما فى يد الجيران، وَلِمَ لا وليس هناك لا مؤسسات ولا قانون ولا قيادة تفرض قواعدها.صنع الأمريكيون النظام الدولى بعد الحرب الثانية، وأكدوا هيمنتهم عليه بعد انتهاء الحرب الباردة، ثم فعلوا كل شيء يؤدى إلى تقويض النظام وإشاعة الفوضي.وضع خطير يجب التحسب له لأن الأسوأ لم يأت بعد.