أسواق الكربون تمثل واحدة من الأدوات الرئيسية التي تستخدمها الدول والشركات لمواجهة تغير المناخ من خلال تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة. هذه الأسواق تسمح للشركات التي تمتلك فائضًا من الانبعاثات ببيع أرصدة الكربون إلى شركات أخرى تحتاج إلى تجاوز حدود الانبعاثات المسموح بها. تهدف أسواق الكربون إلى وضع حد لانبعاثات غازات الدفيئة وتشجيع الشركات على تبني ممارسات أكثر حفاظًا على البيئة.
وفي إطار الأهمية المتزايدة لأسواق الكربون وتعزيز دورها في مواجهة تغير المناخ وتسريع الأهداف المناخية الطموحة بحلول منتصف القرن، أعلنت العديد من دول العالم تطور أسواق الكربون لديها وإنشاء منصات لتداول أرصدة الكربون. وفي أغسطس 2024 أعلنت الهيئة العامة للرقابة المالية، عن أول سوق كربون طوعي في مصر وأفريقيا منظم ومراقب من جهات الرقابة على أسواق المال. وقد أصدرت البورصة المصرية قواعد تداول شهادات خفض الانبعاثات الكربونية وعقودها الآجلة في مصر وإطلاق منصة مصرية للتداول.
ما أسواق الكربون؟
أسواق الكربون هي أنظمة تداول تتيح للشركات والمؤسسات شراء وبيع أرصدة انبعاثات غازات الدفيئة، بما في ذلك ثاني أكسيد الكربون( (CO2. تنقسم هذه الأسواق إلى نوعين رئيسيين:
أسواق الكربون الإلزامية
وهي الأسواق التي تتطلب من المشاركين الالتزام بمعايير أو أهداف معينة للانبعاثات، مثل أشهر وأكبر سوق أوروبية “نظام تجارة الانبعاثات” في الاتحاد الأوروبي (EU ETS). والذي يضع حدودًا للانبعاثات، ويتم تداول التصاريح وفقًا لمتطلبات قانونية ملزمة.
أسواق الكربون الطوعية
حيث يمكن للشركات أو المؤسسات أو الأفراد شراء وبيع أرصدة الكربون للإسهام في تقليل انبعاثاتهم الكربونية الضارة بشكل طوعي وغير ملزم قانونيًا. وتعتبر الأسواق الطوعية حاليًا هي الأكثر فاعلية لمواجهة زيادة الاحتباس الحراري.
وتعد هذه الآلية طريقة فاعلة للتشجيع على خفض الانبعاثات والالتزام بالحدود والمعايير الدولية المسموح بها، بالإضافة إلى تشجيع الابتكار والتكنولوجيا في تقنيات كفاءة الطاقة وخفض الانبعاثات وتقليل التكلفة. علاوة على تحقيق أرباح من بيع الأرصدة يمكن أن تستخدم في تمويل المشروعات المستدامة. بالإضافة إلى تعزيز قدرة الدول على الالتزام بتنفيذ إسهاماتها المحددة وطنيًّا في إطار اتفاق باريس.
ويعد المبدأ الرئيسي لبداية العمل بفكرة أسواق الكربون هي أن طنًا واحدًا من الانبعاثات في الغلاف الجوي له التأثير نفسه في المناخ بغض النظر عن مكان الدولة المسببة لهذه الانبعاثات. ومن ثَمّ، فإن خفض طن واحد من انبعاثات الكربون إلى الغلاف الجوي، سيكون له الفائدة نفسها على الغلاف الجوي العالمي، وفي الواقع تعد أسواق الكربون الطوعية التي تأسست لأول مرة عام 1990، أداة مالية بيئية تستخدم لمواجهة تغير المناخ. وتمثل كل شهادة للكربون طنًا واحدًا من ثاني أكسيد الكربون الذي تم تخفيضه أو تجنبه من القطاعات المختلفة، وعليه يمكن الاستفادة منها ماديًا على قدر الخفض من الانبعاثات الكربونية المحقق في المشروعات المختلفة. يتم تحقيق هذه الاستفادة من خلال بيع أرصدة الخفض من الانبعاثات المتحقق أو من خلال التداول.
وهناك ثلاثة أنواع من شهادات أو أرصدة الكربون التي يمكن التداول عليها هي:
- أرصدة تجنب انبعاثات الكربون: تهدف تلك الأرصدة إلى منع حدوث نشاط يسبب زيادة في الانبعاثات الكربونية.
- أرصدة تقليل انبعاثات الكربون: تهدف تلك الأرصدة إلى تقليل انبعاثات الكربون التي تسبب الاحتباس الحراري.
- أرصدة إزالة انبعاثات الكربون: تهدف تلك الأرصدة إلى إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي من خلال احتجاز الكربون من الهواء بشكل مباشر.
حجم سوق الكربون عالميًا
يمكن القول إنه منذ اعتماد الأمم المتحدة لأهداف التنمية المستدامة عام 2015، وارتباط المشروعات التنموية والاستراتيجيات بتحقيق الاستدامة البيئية بجانب الأهداف الاقتصادية والاجتماعية. ومع تحقيق الخطوة الأهم في مجال العمل المناخي بتوقيع 196 دولة على اتفاقية باريس للمناخ عام 2015. ظهرت أهمية أسواق الكربون الطوعية كأداة فاعلة لمساعدة الدول على تحقيق أهدافها المناخية والوفاء بالتزاماتها في خفض أو تجنب الانبعاثات الكربونية.
وشهدت الفترة الماضية تطورًا ملحوظًا في أسواق الكربون عالميًا، ووفقًا لتقرير حالة واتجاهات تسعير الكربون عام 2024، الصادر عن البنك الدولي، فقد بلغت إيرادات تسعير الكربون في عام 2023 نحو 104 مليارات دولار أمريكي، وقد تم تفعيل 75 أداة لتسعير الكربون على مستوى العالم، ومن المتوقع أن يزداد التوجه عالمي نحو زيادة المشاركة في تلك الأسواق، وهو ما نتج عنه ارتفاع القيمة العالمية لأسواق الكربون الطوعية.
أهم الأسواق العالمية في تداول أرصدة الكربون
- السوق الأوروبية
السوق الأوروبية لشهادات الكربون هي إحدى أكبر وأقدم أسواق الكربون في العالم. وقد تم تأسيسها عام 2005، كجزء من نظام الاتحاد الأوروبي لتداول الانبعاثات (EU ETS)، والذي يعتبر أكبر نظام تداول انبعاثات في العالم؛ حيث بلغت قيمة التداول نحو 804.47 مليارات دولار لعام 2023. وفيه يتم تداول شهادات الانبعاثات بين الشركات، حيث تحصل كل منشأة صناعية على عدد محدد من الشهادات، والتي تسمح لها بإطلاق كمية معينة من الانبعاثات. وإذا أرادت شركة زيادة إنتاجها وتبعًا لذلك زيادة انبعاثاتها، فعليها شراء شهادات إضافية من الشركات التي لديها فائض. واعتبارًا من عام 2021، فإن القطاعات التي تسهم في حوالي 41٪ من الانبعاثات الكربونية مشمولة بنظام تداول الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي. ويغطي أكثر من 10,000 منشأة صناعية في 30 دولة أوروبية.
- السوق الأمريكية
السوق الامريكية تعتبر من الأسواق المتنوعة والناجحة في تجارة الكربون؛ حيث هناك نظام محدد لكل ولاية. وهناك عدة ولايات تعتبر تجربة ناجحة في أسواق الكربون ومنها ولاية كاليفورنيا، شيكاغو، وأكثر من 12 ولاية أخرى. ويعتبر برنامج ولاية كاليفورنيا أحد أكبر أنظمة تداول الانبعاثات متعددة القطاعات في العالم. وحققت كاليفورنيا وحدها حاليًا تغطية حوالي85% من الانبعاثات بسعر 15 دولارًا لكل طن كافئ من الانبعاثات، ومنذ تنفيذ البرنامج عام 2013 حققت كاليفورنيا إيرادات بلغت 12.5 مليار دولار.
وفي عام 2009 تم إطلاق المبادرة الإقليمية للغازات المسببة للاحتباس الحراري (RGGI) Regional Greenhouse Gas Initiative، وهو أول برنامج إلزامي لتحديد سقف وتداول الانبعاثات في الولايات المتحدة للحد من انبعاثات الكربون من قطاع الطاقة. ثم أنشأت كل ولاية برامج فردية لتداول الكربون. ونفذت ولاية ماساتشوستس لوائح لإنشاء برنامج إضافي لتحديد سقف وتداول الانبعاثات لقطاع الطاقة لديها والذي يعمل بالتوازي مع نظام RGGI ولكنه يمتد حتى عام 2050. كما سنت ولاية واشنطن تشريعًا جديدًا لتحديد سقف واستثمار الانبعاثات دخل حيز التنفيذ في عام 2023. وتستعد نيويورك لبرنامج تحديد سقف واستثمار على مستوى الاقتصاد بأكمله ومن المتوقع إطلاقه في عام 2025، إما بالإضافة إلى مشاركتها في نظام RGGI أو بدلًا منها. وبدأت ولاية أوريجون عملية وضع القواعد لإعادة إنشاء برنامج يضع سقفًا متناقصًا للانبعاثات المرتبطة باحتراق الوقود الأحفوري في الولاية.
- السوق الصينية
في عام 2017، تم إطلاق سوق الكربون الإلزامي، ولكن في عام 2021 تم إطلاق نظام تجارة الانبعاثات الوطني (National ETS Market) في الصين رسميًا وتم تعيين بورصة شنغهاي للطاقة والبيئة كسوق للتداول. وتركز السوق على قطاع الطاقة في الصين، الذي يمثل أكبر نسبة من الانبعاثات حوالي 40% من الانبعاثات الصينية. وخلال عامين فقط من إطلاقه تم تداول حوالي 240 مليون طن من الانبعاثات في السوق، وبلغ إجمالي التداول 11.03 مليار يوان (1.54 مليار دولار أمريكي). ويتراوح سعر الكربون في النظام الوطني الصيني لتجارة الانبعاثات حاليًا 8 دولارات أمريكية للطن. ويعتبر السوق الصيني هو الأكبر من نوعه في العالم من حيث الانبعاثات الخاضعة للتنظيم، الشركات التي تنبعث منها مجتمعة ثلاثة أمثال الانبعاثات التي يغطيها نظام تجارة الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي.
- نظام تجارة الانبعاثات في كوريا الجنوبية (Korea ETS)
في عام 2023، بلغت قيمة سوق الكربون في كوريا الجنوبية حوالي 845.2 مليون دولار أمريكي منذ بدء نظام تداول الانبعاثات الكوري (K-ETS). هذا النظام، الذي تم إطلاقه في عام 2015 كأول نظام وطني لتداول الانبعاثات في شرق آسيا، يغطّي 73% من الانبعاثات في البلاد. وبالنسبة للعام 2023، تم تغطية حوالي 589.3 مليون طن مكافئ لثاني أكسيد الكربون في هذا النظام. تم تصميم سوق الكربون الكوري كأداة لتحقيق أهداف كوريا الجنوبية الخاصة بخفض الانبعاثات بنسبة 40% بحلول عام 2030.
الاستثمار في سوق الكربون الطوعي
أعلنت مؤسسة ” Abatable ” مؤشر جاذبية الاستثمار في سوق الكربون الطوعي، وقدمت تقييم وتصنيف الدول على أساس جاذبية الاستثمار في سوق الكربون الطوعي وفرص التنمية، وذلك باستخدام مؤشرات فرعية تعكس الظروف الاقتصادية والسياسية والبيئية لكل دولة، وقدم تقرير بأفضل 40 دولة لعام 2023. وجاءت كينيا في المرتبة الأولى نتيجة لجهودها في تعزيز الوصول إلى الطهي النظيف في المناطق الريفية، بالإضافة إلى النظام البيئي المتطور للمستثمرين في مشروعات إدارة الكربون. وقد بلغ متوسط سعر أرصدة سوق الكربون الطوعية في عام 2023 حوالي 6.53 دولارات لكل طن مكافئ من ثاني أكسيد الكربون.
وقد بلغ عدد المشروعات والبرامج في سوق الكربون الطوعي العالمي في جميع القطاعات 4661 مشروعًا، وتصدر معظم أرصدة الكربون في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل. وتتركز معظم المشروعات في جنوب وشرق آسيا -شرق وجنوب أفريقيا- وأمريكا اللاتينية.
أول سوق كربون طوعية في مصر وأفريقيا
في أغسطس 2024، أعلنت الهيئة العامة للرقابة المالية تدشين أول سوق كربون طوعي في مصر مراقبًا ومنظمًا من الجهات المصرية، كإحدى الخطوات المهمة في دعم جهود الدولة المصرية للحد من التغيرات المناخية والمساعدة في تبني سياسات مبتكرة تسهم في جذب الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية صديقة البيئة. وجدير بالذكر أنه أُجري أول ثلاث عمليات لتداول أرصدة الكربون الطوعي على منصة الكربون التي أطلقتها الهيئة العامة للرقابة المالية.
وفي سبتمبر 2024، أعلنت الهيئة عن تسجيل نحو 14 مشروعًا، وتنفيذ أكثر من 12 عملية تداول في السوق، وقد بلغ عدد شهادات الكربون الطوعية التي تم تداولها 4500 شهادة، في حين بلغ عدد شهادات الكربون التي تم تسجيلها بقاعدة بيانات الهيئة 18,375 شهادة.
ويُتوقع أن يشهد سوق الكربون الطوعي طفرة سريعة في النمو بحلول عام 2030، وتقديم فرص واسعة للشركات لتعويض انبعاثاتهم. مدفوعة بالتطور التكنولوجي السريع، وتنوع مشاركة كافة القطاعات، وتعزيز تطور السياسات والأطر المنظمة، وتعزيز كفاءة السوق ومصداقيته، بالإضافة إلى توحيد معايير أرصدة الكربون لتتلاءم مع كافة المشروعات والقطاعات.
وختامًا، فإن إطلاق أول سوق كربون طوعي في مصر يعد خطوة مهمة نحو الاستدامة الاقتصادية والبيئية، ومن المتوقع أن يجذب سوق الكربون الطوعي في مصر استثمارات كبيرة، سواء من قبل الشركات المحلية أو العالمية الراغبة في تعويض انبعاثاتها الكربونية، ومن المتوقع أيضًا نمو الصناعات المرتبطة بإدارة الكربون؛ مثل مشروعات الطاقة المتجددة، وإنتاج الهيدروجين منخفض الكربون ومشتقاته ( الأمونيا الخضراء والميثانول الأخضر)، والاستفادة من الموقع الجغرافي لمصر، لتعزيز دورها كمركز إقليمي لتجارة الهيدروجين الأخضر في المنطقة.