تتوجه الأنظار نحو سجن جزيرة إمرالي التركية حيث يعتزم عبد الله أوجلان، زعيم حزب العُمال الكردستاني المسجون منذ 26 عامًا، البعث بنداء تاريخي عبر الفيديو يتضمن دعوة محتملة لإلقاء السلاح والتأكيد على أهمية الحل السلمي للقضية الكردية ضمن إطار الدولة التركية والانخراط في عملية سياسية، ومن ثم يكتسب هذا الخطاب أهمية محورية كونه، إلى جانب طبيعة استجابة أجنحة الحزب الأربعة في تركيا وسوريا والعراق وأوروبا، سيرسم المسار الذي ستتحرك في إطاره القضية الكردية خلال المرحلة المقبلة وشكل العلاقة بين هذا المكون العرقي والدولة التركية. وفي هذا الإطار، تناقش الورقة مضمون النداء المرتقب وتعاطي أجنحة الحزب الأربعة مع خطواته التمهيدية وما يحمله ذلك من دلالات بشأن طبيعة استجابتهم له، والسياق الإقليمي المحفز لعملية السلام الجديد، وأبرز عوامل الهشاشة المحيطة بها.
مضمون النداء
لم يُعرف حتى الآن محاور النداء الذي سيوجه أوجلان، وهل سيكون لفظيًا أم مكتوبًا أم مرئيًا، وفي أي توقيت، فرغم ورود تاريخ 15 فبراير – بالتزامن مع الذكرى السادسة والعشرين لاعتقاله – كتوقيت للنداء، إلا أن استمرار المفاوضات مع جناح قنديل تسبب في تأخير الموعد الذي لم يُحدد بعد، لكنه يُرجح أن يكون خلال فبراير أو أوائل مارس بحيث يسبق عيد النوروز في 21 مارس (رأس السنة الكردية)، حيث أُبلِغ أوجلان عن طريق مسؤول حكومي رفيع المستوى بأنه لا يجب أن يتزامن النداء مع عيد النوروز، كما يُرجح أن يتم عبر تسجيل مقطع فيديو من محبسه في سجن إمرالي، ومن غير المعروف إذا ما سيكون بمفرده أم سيرافقه أعضاء وفد التفاوض.
ويتوقع أن يوجه أوجلان نداءه إلى أجنحة حزب العُمال الأربعة؛ عناصر الحزب داخل تركيا، وفرعي سوريا وجبال قنديل بالعراق، والجناح الأوروبي، يتضمن دعوة لإلقاء السلاح والبدء في عملية سياسية مع الحكومة التركية، وقد أكد المسؤول الحكومي لأوجلان – وهو بالتأكيد شخصية استخباراتية – ضرورة أن تتسم رسالته دعوة واضحة جدًا لإلقاء السلام دون أن تحتوي على أي كلمات أو جمل مشفرة يمكن تفسيرها على أنها رسالة سرية، وأن يُقصد بنزع السلاح أن يسلم الحزب الأسلحة التي بحوزته دون قيد أو شرط وليس دفن الأسلحة أو إنهاء الصراع أو وقف إطلاق النار. ويبدو لافتًا تراجع الحكومة عن عرض دولت بهتشلي بمنح أوجلان الإمكانية لإلقاء كلمة أمام مجموعة حزب المساواة الشعبية والديموقراطية داخل الجمعية الوطنية الكبرى، إذ جرى إبلاغه أيضًا من قِبل المسؤول الحكومي بأنه لن يتحدث أمام البرلمان ولن يكون هناك أي مجال للعفو أو الإقامة الجبرية خارج إمرالي لصعوبة الإجراءات التأمينية، على أن يتم توفير مكان أكثر راحة في إمرالي يضمن تسهيل فرص التواصل مع العالم الخارجي عن طريق السماح بالزيارات له ومشاهدة منصات البث المباشر مثل Netflix وDisney Plus وPrime Video وBlue TV.
فرص الاستجابة
يُظهِر تعاطي كبار المسؤولين في أجنحة الحزب المسبق مع نداء أوجلان المرتقب استعدادًا للاستجابة له وانفتاحًا إيجابيًا على عملية السلام، فرغم الحديث عن ضرورة الإفراج عن أوجلان أولًا، وكيل الاتهامات لأردوغان وحزبه العدالة والتنمية بالمسؤولية عن تدهور القضية الكردية واستمرارها دون حل، والتأكيد على صعوبة إلقاء السلاح فجأة ودون ضمانات تركية واضحة، فإن تعليقات هؤلاء القادة تحمل لغة مهادنة؛ حيث أكد عضو مجلس إدارة مؤتمر المجتمع الديمقراطي الكردستاني في أوروبا، موسى فارس أوغولاري، أن أي بيان يدلي به أوجلان بمثابة تعليمات وسيحظى بالدعم على كل المستويات، كما تُشير مصادر تركية إلى اعتزام حزب الاتحاد الديموقراطي السوري قبول النداء بعد التوصل لصيغة توافقية بشأن بعض القضايا، رغم غياب وجود اتفاق نهائي، وربما يُشكل ذلك أحد عوامل تأجيل إطلاق النداء.
وبحسب المصدر التركي ذاته، تم الاتفاق على خروج أعضاء حزب العمال الكردستاني الذين أدرجتهم تركيا على القائمة من سوريا، وحل وحدات حماية الشعب وانضمام أعضائها إلى الجيش السوري وقوات الأمن (الشرطة والدرك في المناطق الكردية)، مقابل بعض الحقوق الثقافية مثل أن يكون محافظو المحافظات التي يشكل الأكراد أغلبية سكانها من الأكراد وقبول اللغة الكردية كلغة ثانية فيها، على ألا تُمنح مناصب المحافظين لحزب الاتحاد الديمقراطي وحده وإنما لهيكل يكون ممثلًا فيه أنصار الحزب وقوات البشمركة التابعين لبارزاني، حيث سيتمكن الأكراد الذين طردهم حزب الاتحاد إلى شمال العراق من العودة إلى سوريا، وستنضم قوات البشمركة إلى قوات الأمن أيضًا. فيما بقيت بعض القضايا غير محسومة بما في ذلك؛ عدد أعضاء وحدات حماية الشعب الذين سينضمون إلى الجيش؛ ومن الذي سيقرر أيهم ينضم إلى الجيش وأيهم ينضم إلى قوات الأمن؛ وكيف سيتم اختيار المحافظين، فبينما يريد حزب الاتحاد الاختيار من خلال انتخابات على مرحلة واحدة أو مرحلتين، تريد هيئة تحرير الشام أن تتولى حكومة دمشق تعيينهم؛ ومقدار الأرباح من عائدات النفط والغاز والبوابات الحدودية التي ستترك للحكومة المركزية ومقدار ما سيترك للمحافظات؛ ووضع منطقتين في حلب يعيش فيها أكراد متعاطفون مع حزب الاتحاد الديمقراطي؛ وإجراءات عودة أنصار حزب الاتحاد الديمقراطي المهاجرين من المناطق الخاضعة للسيطرة التركية إلى مدنهم الأصلية.
وتدعم هذه المعطيات احتمالية استجابة جناح سوريا لدعوة إلقاء السلاح حتى وإن استمرت عمليات التفاوض بشأن الصيغة النهائية للاتفاق مع حكومتي دمشق وأنقرة بشأن المصير السياسي والقانوني لعناصر وحدات حماية الشعب وقسد، ودور المكون الكردي في مستقبل سوريا، والحقوق الثقافية المُقررة لهم. وبالنظر إلى حقيقة ضعف جناح تركيا بعد تلقيه ضربات عسكرية تركية أضعفت وجوده التنظيمي إلى الحد الذي ترى معه بعض التقييمات أنه انتهي نسبيًا ولم يعد يتمتع بالقدرة على التعبئة التي كانت لديه خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أو التسعينيات، وانخفض عدد مسلحيه في الداخل إلى الحد الأدنى، ولا يمكنه سوى تنظيم هجمات فردية، فإنه والمكون الكردي السياسي المتمثل في حزب المساواة الشعبية والديموقراطية سوف يستجيبان بالإيجاب لنداء أوجلان.
وتُشكل الاستجابة الثلاثية المتوقعة من أجنحة تركيا وسوريا وأوروبا ضغطًا على جناح قنديل بالعراق، والذي لن يكون أمامه سوى لاتباع المسار ذاته بقبول النداء، وقد أظهر جميل بايق – الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي لمنظومة المجتمع الكردستاني وأحد قادة قنديل الذين عارضوا العملية خلال مراحلها الأولى – مؤخرًا استعدادًا للامتثال إلى نداء أوجلان، ففي تصريحات لتلفزيون ستيرك –TV التابع للكردستاني أكد أن “أوجلان يعمل على إخراج القضية الكردية من دائرة الحرب إلى أرضية ديمقراطية الأمر الذي يتطلب من الجميع تحمل مسؤولياتهم ودعم العملية”.
لكن البيان الأكثر أهمية هو ما أصدره حزب العمال الكردستاني في 12 فبراير الجاري، والذي جاء فيه إنه “في الذكرى السادسة والعشرين (يُقصد لاعتقال أوجلان)، ينتظر الجميع في العالم، وخاصة في كردستان وتركيا، بداية جديدة من القائد آبو (العم باللغة الكردية ويُقصد به أوجلان)، ويبدو أنه ما لم تكن هناك معارضة وتدخل انقلابي، فإن الزعيم آبو سيبدأ عملية جديدة، عملية تغيير وتحول وإعادة بناء للجميع، إذ سيتغير حزب العمال الكردستاني والأكراد، وستتغير الجمهورية التركية والبيئة التركية، وسيتغير الشرق الأوسط والعالم أجمع”. ويُشير البيان إلى وجود تفاهمات واتفاقات مسبقة مع حزب العُمال تسبق النداء، ويحمل مدلولات عديدة؛ أولها التركيز على الولاء لأوجلان فقد ركز البيان على أهميته وإبراز هويته كزعيم للحزب، وثانيها نية الحزب استمرار عملية السلام الجديدة، وثالثها إرسال رسائل طمأنة للحكومة التركية حيث تضمن التأكيد على أن العملية لن تؤدي إلى تقسيم تركيا، ورابعها الإشارة إلى تغيير يطال الحزب والأكراد وربما يُقصد به تقديم نموذج جديد للحزب يركز على العملية السياسية ويُنهي مرحلة الكفاح المسلح.
سياق محفز
رغم أن القضية الكردية مشكلة تركية داخلية بالأساس بينما تشعباتها الخارجية في سوريا والعراق مجرد مظاهر عرضية لها، فإن المتغيرات الإقليمية باتت المحرك الرئيسي لتوجهات الحكومة التركية لمعالجة القضية اتصالًا بمجموعة من المتغيرات يُمكن توضيحها على النحو التالي:
• الديناميكيات الجديدة للقضية السورية: تنظر الحكومة التركية إلى المشكلة الكردية من منظور المخاطر الإقليمية وتتعامل معها بعقلية استباقية، ومن ثم لا يُمكن تقديم عملية السلام الراهنة باعتبارها عملية داخلية بين الحكومة التركية والحركة الكردية، وإنما ترتبط أساسًا بالديناميكيات السورية الجديدة على خلفية سقوط نظام بشار الأسد وما يتصل بها من مكاسب محتملة قد تحققها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. وقد امتنعت الإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع عن تبني سياسات عسكرية مناهضة للإدارة الذاتية وقسد تجنبًا لإغضاب الولايات المتحدة التي أرسلت رسائل مباشرة لأنقرة تُفيد بأن التطورات في مناطق الشمال الشرقي لاتزال تحت سيطرتها، حتى مع مساعي الجيش الوطني السوري توسيع احتلاله لمناطق الأكراد.
وبدا لافتًا أن للشرع حسابات مستقلة نسبيًا عن تركيا حينما يتعلق بالأمر بالملفات المشتركة مع الولايات المتحدة وأوروبا وفي مقدمتها الملف الكردي، الأمر الذي تجلى – على سبيل المثال – في استخدامه لهجة مخففة خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع أردوغان إبان زيارته لأنقرة في 4 فبراير الجاري، إذ لم يتحدث باللهجة أو اللغة نفسها التي يتحدث بها أردوغان ووزير خارجيته بشأن القضية الكردية، ولم ينطق بكلمة كردي أو يستخدم مفردات تهديد مثل “سنضرب” و”سنسحق” بل كانت هناك جمل تعبر عن الرغبة في حل هذه القضية من خلال الحوار، وتحدث عن قائد قوات قسد مظلوم عبدي ببلاغة شديدة قبل وبعد زيارته لتركيا، كما أصبح وزير الدفاع مرهف أبو قصرة – الذي كان يتحدث في السابق بلهجة حادة ويستخدم كلمات تهديدية – يتبنى لغة أكثر حذرًا ويتحدث عن الحوار.
إضافة إلى ذلك، فقدت تركيا – بانهيار عملية أستانا – شريكيها روسيا وإيران اللذان كانت تستخدمهما لتحقيق التوازن في مواجهة الولايات المتحدة وتنفيذ العمليات ضد الأكراد، فعلى مدى عقد من الصراع السوري، استغلت تركيا ببراعة المنافسة بين روسيا والولايات المتحدة لصالح منع تشكيل منطقة حكم ذاتي كردية؛ ففي عمليات مثل عفرين عام 2018 لعبت روسيًا دورًا محوريًا بسحب قواتها من المنطقة ومنح تركيا إمكانية الوصول إلى المجال الجوي السوري، مما مكن أنقرة من استهداف المناطق التي يسيطر عليها الأكراد خارج الأراضي الخاضعة للحماية الأمريكية، كما تشاركت تركيا وإيران الرؤية بشأن معاداة الأكراد، وربما تسامحت أيضًا مع التدخلات الإيرانية لمواجهة طموحات الحكم الذاتي الكردي. ومع ذلك، باتت إيران وروسيا حاليًا بعيدتان تمامًا عن المشهد السياسي السوري، وتركتا أنقرة تواجه بيئة جيوسياسية أكثر تعقيدًا، وتدير علاقاتها منفردة مع الولايات المتحدة – التي تستمر في دعم الأكراد السوريين – دون فرص للتوازن مع أطراف خارجية، كما عزز إقصاء روسيا وإيران من سوريا دور إسرائيل كحليف رئيسي مؤيد للأكراد والولايات المتحدة في المنطقة، مما أدى إلى تصعيد مخاوف تركيا، الأمر الذي بات ضروريًا معه البحث عن آلية سياسية تضمن إخراج كوادر حزب العمال الكردستاني من سوريا، وعزل وحل قوات سوريا الديمقراطية، وإغلاق الطريق أمام الحكم الذاتي، ومن ثم جاء استدعاء النظام التركي لعبد الله أوجلان نظرًا للنفوذ الذي يمتلكه على قسد.
• محاولات إسرائيل توظيف الورقة الكردية: يُمكن قراءة عملية السلام الجديدة في إطار المنافسة الإقليمية بين تركيا وإسرائيل، حيث تستشعر أنقرة القلق من حقيقة أن أحد جوانب مساعي إسرائيل إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية للشرق الأوسط يستند إلى التعاون مع الأقليات العرقية في المنطقة بما في ذلك الأكراد والدروز؛ فعقب دعوته إلى تعزيز العلاقات مع المجتمعات الكردية والدرزية في الشرق الأوسط خلال نوفمبر الماضي، اتخذ وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر مؤخرًا خطوة جديدة نحو تطوير التعاون مع الأكراد من خلال إجراء محادثة هاتفية مع رئيسة مكتب الشؤون الخارجية في الإدارة الذاتية إلهام أحمد. وتعتقد تركيا أن تحرك إسرائيل لتطوير علاقات مع الأكراد السوريين يهدد طموحتها التوسعية ومكانتها الإقليمية، ومن ثم أراد أردوغان ومعالجة المظالم المحلية التي تغذي تمرد حزب العمال الكردستاني لمنع الأطراف الإقليمية من توظيفها لصالحها، وقد بدا لافتًا تزامن خطاب أردوغان أما الجمعية الوطنية الكبرى خلال افتتاح العام التشريعي الجديد في سبتمبر 2024 الذي تحدث فيه عن التهديد الإسرائيلي للأراضي التركية، مع اتخاذ شريكه دولت بهتشلي الخطوات الأولى في عملية السلام الجديدة بمصافحة نواب حزب المساواة الشعبية والديموقراطية. كما تجلى الارتباط بين القلق المتزايد في تركيا بشأن القضية الكردية ودور إسرائيل في سوريا واضحًا خلال خطاب لأردوغان في ولاية ديار بكر يوم 11 يناير 2025، حيث اتهم الأكراد الذين يرحبون بالدعم الإسرائيلي بخيانة إرث صلاح الدين، قائلًا إن أحدًا لا يستطيع جعل أحفاد صلاح الدين خدمًا أو عبيدًا على أبواب الصهاينة.
• غموض إدارة ترامب بشأن مصير القوات الأمريكية بسوريا: شكَّل الموقف الضبابي للولايات المتحدة بشأن مستقبل الانتشار العسكري شمال شرق سوريا عامل ضغط مزدوج؛ فمن ناحية يستشعر الأكراد القلق بشأن ميل إدارة ترامب لإعادة تقييم سياستها تجاه سوريا، لاسيَّما مع ورود أنباء بثتها قنوات أمريكية وإسرائيلية تُفيد بتخطيط البنتاجون للانسحاب عسكريًا من سوريا وإعداد سيناريوهات لمدة 30 أو 60 أو 90 يومًا، كما أشار الكاتب التركي يحيى بستان في مقال بصحيفة يني شفق إلى جمع الولايات المتحدة بعض الأسلحة الخفيفة التي قدمتها للقوات الكردية ونقلها إلى القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، إضافة إلى ذلك يُدرك الأكراد أهمية تركيا للمصالح الجيوسياسية الأمريكية في الشرق الأوسط ومن ثم فإنها لن تتخلى عنها لصالح التحالف مع الأكراد على الأمد الطويل. ومن ناحية أخرى، فإن معارضة الولايات المتحدة لعملية عسكرية تركية جديدة شمال سوريا، وعدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترامب في السياسة الخارجية تثير تساؤلات بشأن ما إذا كانت الإدارة ستعطي الأولوية للتحالفات القديمة مع تركيا أو ستحافظ على دعم القوات الكردية، لاسيَّما أن إسرائيل تشجع الإدارة الأميركية والمسؤولين الأوروبيين على دعم الأكراد.
• الضغوط المرتبطة بالمتغيرات الإقليمية: يواجه فرعي حزب العُمال الكردستاني السوري والعراقي ضغوطًا متزايدة ذات صلة بالديناميكيات الإقليمية المتغيرة؛ فالجناح السوري يبدو في أضعف مواقفه حاليًا عقب انهيار نظام الأسد، إذ لم يعد النموذج الفيدرالي مقبولًا أو مطروحًا لدى الإدارة السورية الانتقالية الحليفة لأنقرة، وترفض الأخيرة أيضًا تمثيل قوات قسد في لجنة الحوار الوطني المزمع انعقادها قريبًا، ما لم تقوم بتسليم سلاحها وحل نفسها والانضمام كعناصر منفردة إلى الجيش السوري الجديد. كما أن إيران التي قدمت لحزب العمال الكردستاني العمق الجغرافي عندما حوصر في جبال قنديل، وسهلت له فرص العمل مع الحشد الشعبي في مناطق الشمال الغربي العراقي وبالأخص سنجار كفاعل رئيسي في إتمام الدور الوظيفي للعراق كإحدى محطات جسر الإمداد اللوجستي البري بين إيران وحلفائها في سوريا ولبنان، فقدت جزءًا كبيرًا من مكانتها الإقليمية، ولا يكفي دعم بافل طالباني في السليمانية لإبقاء حزب العمال الكردستاني قادرًا على العمل بفعالية. وبالتوازي تتعرض بغداد لضغوط تركية لتصنيف الكردستاني “منظمة إرهابية” كان آخرها خلال زيارة وزير الخارجية هاكان فيدان إلى العراق خلال يناير الفائت. علاوة على أن عدم استجابة قنديل أو قسد لخيار السلام الذي سيطرحه أوجلان سيمنح أنقرة مبررًا مشروعًا لشن عملية عسكرية شاملة في مناطق الشمال السوري والعراقي باعتبارها استنفدت الحلول السياسية والسلمية دون استجابة.
عوامل هشاشة
مع ما يبدو استجابة متوقعة لنداء أوجلان يظل تركيز العملية الحالية وفق ما هو ظاهر حتى الآن على إنهاء الكفاح المسلح بينما تظل الجوانب السياسية والحقوقية غير مُحددة بشكل واضح حتى الآن رغم ضروريتها لضمان سلام مستدام، ويُمكن استعراض بعض عوامل الهشاشة المرتبطة بالعملية الحالية كالتالي:
• غياب خريطة طريق لمعالجة القضية الكردية: تُعد القضية الكردية مشكلة ذات أبعاد اجتماعية وثقافية وسياسية متجذرة في المجتمع التركي منذ عشرات السنوات وبقيت دون معالجات حقيقية فيما اقتصر التعاطي معها على منطق “المسكنات الاحتوائية المؤقتة” التي لطالما ارتبطت بمتغيرات سياسية داخلية أو إقليمية ضاغطة، ورغم أن عملية الحل الجديدة تبدو مُخططة بعناية من قِبل جهاز الاستخبارات قبل أن يطرحها دولت بهتشلي كمبادرة في أكتوبر الفائت، غير أن جانبها المعلن اقتصر على مطالبات عبد الله أوجلان بإطلاق الدعوة لإلقاء السلاح بينما غاب عن الساحة السياسية مناقشة خارطة طريق ذات أليات وتوقيتات مُحددة لإيجاد حلول جذرية للمشكلة الكردية كقضية قومية ذات صلة وثيقة بالأمن القومي التركي، لاسيَّما فيما يتعلق بمنح الأكراد حقوقًا ثقافية ولغوية وسياسية أوسع، ومصير السجناء السياسيين الأكراد بما في ذلك صلاح الدين دميرطاش وأعضاء حزب العُمال المسجونين، والتوقف عن ملاحقة المسؤولين المحليين المنتخبين المنتمين لحزب المساواة الشعبية والديموقراطية وتجريد البرلمانيين الأكراد من الحصانة البرلمانية واتهامهم بدعم الإرهاب، والبحث في مصير أولئك الذين تم استبعادهم واعتقالهم، وتحديد الوضع القانوني الذي سيتمتع به مقاتلو الحزب عقب تسليم السلاح، وإجراء تعديلات قانونية ودستورية، وجميعها تدابير لازمة لبناء الثقة ولضمان عدم انهيار المصالحة، ولعل ذلك يُفسر وصف سري سورايا أوندر، أحد أعضاء وفد حزب المساواة والديموقراطية الشعبية المسؤول عن التواصل مع أوجلان، العملية الحالية بـ “السلام” وليس “الحل” معتبرًا أن الحل هو النضال الديمقراطي والمهمة طويلة الأمد لاستعادة حقوق الأكراد وليست مجرد إغلاق صفحات الماضي الدموية.
• استمرار الممارسات الحكومية المناهضة للأكراد: لاتزال الحكومة التركية تُمارس سياسات مُعادية للأكراد؛ فبينما تتكثف المحادثات بشأن نداء أوجلان المرتقب، تتواصل عمليات الاعتقالات والتحقيقيات والملاحقة بحق المسؤولين المحليين المنتخبين المنتمين لحزب المساواة الشعبية والديموقراطية وتعيين أمناء حكوميين بدلًا منهم، ففي 29 يناير الماضي عزلت وزارة الداخلية رئيسة بلدية سيرت، صوفيا ألاغاش، بسبب صدور حكم سابق بحبسها 6 سنوات و3 أشهر، لإدانتها بالانتماء إلى اتحاد المجتمعات الكردستانية التابع لحزب العمال، كما أعلنت الوزارة يوم 15 فبراير الجاري تعيين وصي حكومي لبلدية ڨان بدلًا من رئيس البلدية المنتخب عبد الله زيدان بعد الحكم عليه بالسجن 3 سنوات و9 أشهر بتهمة محاولة مساعدة منظمة إرهابية، علاوة على أنه خلال اليوم ذاته للقاء الثاني بين أوجلان ووفد حزب المساواة الشعبية والديموقراطية في إمرالي، وهو نفسه الذي شهد اجتماع مجلس الأمن القومي، أُعلن تجديد وثيقة الأمن القومي التركية (الكتاب الأحمر) وتضمن التعديل التأكيد على أنه لن يُسمح لحزب العمال الكردستاني/ حزب الاتحاد الديمقراطي باستغلال الوضع الحالي والتطورات المحتملة في سوريا.
ختامًا، يُشكل نداء أوجلان المرتقب لحظة مفصلية كونه يُنهي فصلًا عنيفًا من الصراع المسلح وينتقل بالقضية الكردية إلى مرحلة جديدة لكنها سوف تتطلب جهدًا سياسيًا وقانونيًا مطولًا لإزالة جذور المشكلة وضمان السلام المستدام.