منذ دخول العقوبات الأمريكية ضد إيران بصورتها الكاملة حيز التنفيذ في الثاني من مايو الجاري، بعد إلغاء الاستثناءات المقررة لثماني دول من بين الدول المستوردة للنفط الإيراني (الصين، الهند، اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان، تركيا، اليونان، إيطاليا)؛ اتخذت الحرب الكلامية والدعائية بين الجانبين مسارًا تصعيديًّا حادًّا، كان أحد مؤشراته تعيين قائد جديد لمؤسسة الحرس الثوري الإيراني، هو الجنرال المشهور بخطاباته اللاذعة ضد الولايات المتحدة الأمريكية “حسين سلامي”، إلى جانب تهديدات متوالية من جانب المسئولين الإيرانيين بإعاقة الملاحة التجارية في مضيق هرمز إذا مُنعت إيران من تصدير نفطها إلى الخارج.
في هذا الإطار، يمكن طرح عددٍ من السيناريوهات المحتملة لمستقبل حالة التصعيد الجارية.
السيناريو الأول: التزام إيران ضبط النفس
يبني هذا السيناريو افتراضه للمرحلة المقبلة من الصراع بين الولايات المتحدة وإيران على عدم إقدام طهران على أية خطوة تصعيدية تحقق الهدف الاستراتيجي الأكبر لواشنطن من العقوبات الأمريكية وهو استفزاز طهران للقيام بأحد خطأين استراتيجيين: إعادة التشغيل -ولو جزئيًّا- للبرنامج النووي، أو إغلاق مضيق هرمز.
جوهر الصراع الإيراني مع الولايات المتحدة ينطلق من افتراض أن إدارة الرئيس “ترامب” تريد من خلال هذه العقوبات ليس إضعاف إيران اقتصاديًّا فحسب؛ بل تفكيك اللحمة الوطنية الداخلية من خلال إيصال النخب السياسية والمجتمعية إلى حالة من حالات عدم التوافق بشأن الخيارات الاستراتيجية لمواجهة الولايات المتحدة. لذلك حرص الرئیس الإيراني “حسن روحاني” في خطاب ألقاه بمناسبة “العيد المئوي للمعلمين والمدرسين”، يوم السبت 4 مايو الجاري، على تأكيد أنه “لیس أمامنا خیار غیر الوحدة والتلاحم والتكاتف، وأن حربنا الیوم مع الولایات المتحدة الأمريكیة هي حرب الآمال، وأنهم یریدون نزع الأمل والرجاء بالنسبة لنا، ولا بد أن نواجه هذا القرار الأمريكي، وسنصبح منتصرین في نهایة المطاف في حرب الآمال”.
وتلجأ إيران إلى هذا السلوك لإدراكها أن هناك عددًا من الأطراف الإقليمية تريد تسخين الأجواء بينها وبين الولايات المتحدة، ذلك أنه وقت توقيع “الاتفاق النووي” في 14 يوليو 2015، كانت هناك دولٌ مناهضة للاتفاق، وعلى رأسها إسرائيل، التي تعد المستفيد الأكبر من أي تصعيد عسكري. وانعكس هذا الإدراك في خطاب “روحاني” الذي قال فيه: “حصلنا علی اتفاق مع الأسرة الدولیة علی أساس المنطق والعقلانیة خلال مائة یوم من مهام الحكومة الحادیة عشرة. ولم یسمح الكیان الصهیوني والمملكة العربیة السعودیة بأن یصبح الاتفاق النووي المبرم دائمًا”.
بمتابعة الصحف الإيرانية الرسمية الصادرة صباح الأحد 5 مايو الجاري، يتضح أن هذا هو التوجه الرسمي للدولة، فصحيفة مثل “جمهوري إسلامي” المحافظة المقربة من مكتب المرشد (كان المرشد الحالي “علي خامنئي” هو أول مدير تحرير للصحيفة في مارس 1979) أبرزت ما قاله “روحاني” في هذا الصدد، مؤكدةً أن الهدف بعيد المدى من عقوبات الولایات المتحدة هو إضعاف البنية الداخلية واستفزاز إيران، وهو ما يقتضي تفويت الفرصة على واشنطن في هذا الصدد.
من خلال هذا الإدراك يمكن التوصل بيسرٍ إلى أن الإدارة الإيرانية درست بمزيد من الاهتمام ورقة السياسات التي نشرها مستشار الأمن القومي الأمريكي (الحالي) “جون بولتون” في مجلة “ناشيونال ريفيو” National Review في 28 أغسطس 2017، والتي حملت عنوان “كيف يمكن الخروج من الاتفاق النووي الإيراني” How to Get Out of the Iran Nuclear Deal، والتي تطبق بحذافيرها الآن من جانب إدارة الرئيس “ترامب”، وتتمحور حول ضرورة دفع إيران خارج الاتفاق النووي، وإعادة فرض العقوبات لخلق حالة من الخلاف داخل النخب الحاكمة.
لذلك تدرك إيران جيدًا أن ضبط النفس للحيلولة دون نقل الصراع من حيز السياسة إلى المواجهة العسكرية يتطلب تحقيق أعلى درجة من التماسك الداخلي، لذلك قال “روحاني” نصًّا: “إن هدف أمريكا بث الخلاف والنزاع والانقسام في البلاد بهدف إضعاف الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. ومن المؤسف أن البعض لا یثقون بأننا في حالة من الحرب السیاسیة والاقتصادیة والنفسیة مع أمريکا، ویجب أن یصل الجمیع إلی هذا المعتقد”.
السيناريو الثاني: استمرار التصعيد دون الوصول إلى المواجهة العسكرية
يقوم هذا السيناريو على استمرار حالة التصعيد الكلامية من جانب الطرفين مع إجراءات عقابية أحادية متتالية تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية ضد إيران. غير أن حالة التصعيد تلك لن تتطور إلى حرب مسلحة، حتى لو كانت محدودة؛ وذلك لعدد من الاعتبارات الحيوية. ويأتي على رأس هذه الاعتبارات عدم رغبة الولايات المتحدة في فتح جبهة قتال جديدة في إقليم الشرق الأوسط في ضوء استراتيجية “الاتجاه شرقًا” التي تقضي بانسحاب القوات الأمريكية تدريجيًّا من الإقليم، والتوجه إلى جنوب شرق آسيا بهدف مواجهة النفوذ الصيني المتعاظم.
ويُعزز هذا السيناريو أيضًا وجود اتجاه داخل بعض الدوائر الإيرانية يرى أن الرئيس “دونالد ترامب” تلقّى تقديرًا للموقف من قبل الجهات الأمريكية ينصح بعدم خوض أية معركة مع إيران، وهو الأمر نفسه الذي تحدث عنه الجنرال “قاسم سليماني” (قائد قوات نخبة “فيلق القدس”، الذراع العسكرية الخارجية للحرس الثوري). فقد رجّح “سليماني” هذا السيناريو من خلال تدوينة له عبر حسابه على موقع “تويتر”، يوم السبت 4 مايو الجاري، أشار فيها إلى أن وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA أبلغت الرئيس “ترامب” بضرورة عدم الاشتباك مع إيران حتى لو كان اشتباكًا جزئيًّا. ونصح بأنه على إيران “أن لا تضخم قوة العدو دون معرفة حقيقة قدراته. العدو يتحدث عن ضرورة عدم الدخول في اشتباك مع إيران في الظروف الراهنة. يقولون إن أي اشتباك يمكن أن يتحول إلى حرب لا تُعرف نهايتها، وستُهدد مصالح الولايات المتحدة، وهي حقائق وليست استنتاجات”.
السيناريو الثالث: قيام إيران بضربة استباقية محدودة
يقوم هذا السيناريو على إمكانية تفكير قادة الأفرع الرئيسة في مؤسسة الحرس الثوري في تنفيذ عملية عسكرية محدودة ضد أيٍّ من المصالح الأمريكية في المنطقة، خاصة القوات والقواعد المنتشرة على الضفة الغربية للخليج العربي، بهدف إعطاء مسوغ لوزارة الدفاع الأمريكية للضغط على البيت الأبيض، والبدء العملي في الانسحاب من المنطقة برمتها.
هذا السيناريو تتداوله بعض الأوساط الفكرية المعنية بتحليل السياسات بالولايات المتحدة (مايكل آيزنشتات نموذجًا) على أساس أن عملية عسكرية محدودة ضد الولايات المتحدة هي أحد أفضل الخيارات بالنسبة للحرس الثوري للرد على سياسة العقوبات الأمريكية المتصاعدة، على طريقة خبرة الثمانينيات والتسعينيات. ففي عام 1983، دعمت الإدارة الإيرانية هجومًا مسلحًا على ثكنة مشاة البحرية الأمريكية في بيروت، وجددت الأمر نفسه في عام 1996 حين قامت بتفجير أبراج الخبر في المملكة العربية السعودية، وحاولت عرقلة بعض القطع البحرية الأمريكية في مياه الخليج العربي في أغسطس 1987.
ويرى عددٌ من العسكريين الإيرانيين أن الرئيس “دونالد ترامب” يبحث عن سبب لسحب الولايات المتحدة من المنطقة، ويعتبرون أن كل كلامه عن مواجهة إيران بالطرق العسكرية ما هو إلا “مخاتلة”، لذا فإن عليهم مساعدته في تنفيذ هذا الخداع من خلال تلك العملية العسكرية التي ستحقق أكثر من غرض استراتيجي في آن واحد. فمن ناحية، ستضمن هذه العملية حفظ ماء الوجه السياسي أمام الرأي العام الداخلي الإيراني. وستضمن، من ناحية ثانية، إقناع حلفاء إيران وشركائها وأذرعها في الإقليم بقدرتها على السبق والمبادأة. وستضمن، من ناحية ثالثة، منح الولايات المتحدة المسوغات التي تحتاجها لمغادرة المنطقة.
ويمكن قراءة هذا التوجه من خلال ما يتردد على ألسنة القادة العسكريين بأنهم يستشعرون قيام الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران، وأنه بدلًا من الانتظار في موقف رد الفعل فعليهم القيام بالفعل العسكري نفسه. على سبيل المثال، قال القائد العام للجيش الإيراني، اللواء “عبدالرحيم موسوي”، إن إيران تواجه تهديدات عسكرية “جدية”. ودعا جميع القوات المسلحة في إيران إلى التأهب للحرب والاستعداد لأي هجوم ليلي. وأضاف في كلمة ألقاها يوم الأربعاء الأول من مايو الجاري خلال الاجتماع الثاني عشر لقادة الوحدات الأساسية والمستقلة للقوة البرية التابعة للجيش: “على جميع قواتنا ووحداتنا أن تكون في أقصى حالات الجاهزية وكأنها تعيش ليلة الهجوم، وأن تتمرن دومًا على لعبة الحرب”.
الأمر نفسه أشار إليه الرئيس السابق لهيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية الإيرانية “محمد سرفراز”، وثيق الصلة بقادة الحرس الثوري، حيث توقع أن “تشن الولايات المتحدة هجومًا عسكريًّا على إيران بعد شهر رمضان”.
تحويل الصراع من السياسة إلى الدين
بعيدًا عن السيناريوهات المحتملة السابقة، من المتوقع أن تعمد إيران إلى محاولة تحويل الصراع من كونه صراعًا سياسيًّا إلى صراع ديني، كوسيلة لرأب الصدع الداخلي الآخذ في التفاقم على خلفية الانقسامات البنيوية الحادة بين أطراف صنع القرار في البلاد. ومن المتوقع أن تعتمد الحكومة الإيرانية في هذا الإطار على مدخلين أساسيين.
1- صبغ الصراع مع الولايات المتحدة بغطاء ديني
كان أحد المؤشرات على هذا التوجه ما جاء في خطبة الجمعة التي ألقاها خطيب جمعة طهران المؤقت “آية الله سيد أحمد خاتمي”، إذ قال نصًّا: “إن أمريكا في طليعة الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان، وإن مشكلتها الرئيسة مع إيران، أيديولوجية ودينية”. وتجدر الإشارة هنا إلى أن خطيب الجمعة المؤقت هو خطيب غير دائم، يحدده آية الله العظمى المرشد الأعلى “علي خامنئي”، ليخطب لمدة جمعة واحدة فقط نيابة عنه، وذلك وفقًا لنظرية ولاية الفقيه التي يقوم عليها النظام الإيراني. وبالنظر إلى أهمية خطبة جمعة طهران من حيث كونها مناسبة أسبوعية للحشد التوجيهي المعنوي، فإنها تعد حدثًا مهمًّا لا يمكن تفويته ولا تجاوزه لمعرفة ما يريد “خامنئي” قوله؛ لأن خطيب الجمعة الذي ينوب عن المرشد الأعلى للبلاد يحمل رسائل الولي الفقيه إلى جهات متعددة، وعليه فإن هذه الخطبة غالبًا ما تتضمن رسائل إلى الداخل والخارج معًا.
في المجمل، ستكون هذه الاستراتيجية مفيدة للغاية لإيران حال نشوب نزاع عسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أثبتت التعبئة الدينية نجاحًا كبيرًا في مراحل تاريخية سابقة، وعلى رأسها الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) التي تم فيها التعبئة للحرب ضد الجيش العراقي “نصرة للإمام الحسين”، وفقًا لتوجيهات مرشد الثورة وقتها آية الله روح الله الموسوي الخميني.
2- إقناع الرأي العام الداخلي بأن العقوبات تستهدف النيل من “العزة القومية”
تحليل الخطاب السياسي للمسئولين الإيرانيين خلال الأسابيع الأخيرة يشير إلى أن هناك تركيزًا كبيرًا على إرسال رسالة مفادها “أن العقوبات الأمريكية تستهدف إذلال وتركيع الأمة الإيرانية العظيمة”، ولذلك يتحدث كل المسئولين إلى الشعب بوصفه “الأمة صاحبة التاريخ العريق الذي يجهله ترامب”.
ففي لقائه بالعمال يوم 24 أبريل الماضي، تحدث المرشد “آية الله علي خامنئي” عن هذه المسألة بصيغة أن خطر الولايات المتحدة يكمن في “تغيير المفاهيم الثقافية التاريخية للأمة الفارسية العظيمة”، من خلال التأثير الثقافي التدريجي، وأن “هذه العقوبات إحدى صور هذا النمط من التعامل الغربي مع إيران”.
وفي هذا السياق، اتخذ “خامنئي” عددًا من الخطوات لمجابهة هذا التأثير، شملت حظر أغلب مواقع التواصل الاجتماعي، وحظر تعليم اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، وفي وقت سابق تم تجريم استخدام أطباق التقاط القنوات الفضائية المثبتة أعلى أسطح المنازل.
وهذا التوجّه عبّر عنه صراحةً رئيس مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) “علي لاريجاني”، يوم الأحد 5 مايو الجاري، في الجلسة العلنیة للمجلس بقوله: “إن الآراء غیر المنطقیة للمسئولین الأمریكیین لا انتهاء لها، وبدلًا من صنع السیاسة یقومون بالحرب النفسیة من خلال صنع مغامرات متتالیة، ویحاولون إثارة إخلال على الساحة الدولیة. وبعد الإجراءات غیر القانونیة ضد حرس الثورة الإسلامیة، فإنهم اتخذوا خطوة أخرى وأمروا بتصفیر النفط الإیراني والتي لا تتحقق، ویطلقون تصریحات غیر مدروسة أخرى حول التعاون النووي بین الدول في إطار الاتفاق النووي، بما في ذلك شراء الماء الثقیل أو المواد المخصبة أو بیع المواد الخام، إنها أمثلة على اضطراباتهم الفكریة تجاه الأمة”.
ويستهدف النظام الإيراني من خلال تلك السياسات صف أكبر قدرٍ من النخب والمواطنين خلف السياسات المناوئة للولايات المتحدة الأمريكية، مع علمه تمام العلم أن أساس الصراع مع الولايات المتحدة يتركز حول النفوذ السياسي لطهران في الإقليم وليس في أي أمر ديني أو ثقافي آخر. وللتدليل على ذلك، يمكن الرجوع إلى قائمة المطالب الاثني عشر التي توجه بها وزير الخارجية الأمريكية “مايك بومبيو” إلى النظام الإيراني، وملاحظة أن 9 مطالب منها تطالب إيران بالحد من سلوكها “المزعزع للاستقرار في الإقليم”.