جاء اللقاء الذي جمع مستشاري الأمن لكلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في سياق تطورات إقليمية ودولية عديدة، على رأسها وأهمها استمرار التصعيد بين إيران والولايات المتحدة في الخليج. وقد عُقد اللقاء في إسرائيل، واستهدف البحث عن صيغة توافقية حول التعامل مع التواجد الإيراني في سوريا.
الموقف الإسرائيلي-الأمريكي تمحور حول ضرورة إخراج إيران من سوريا لتهيئة حل نهائي للأزمة هناك، واستثمار مثل هذا الخروج -إن حدث- لتبريد الأزمة الدائرة بين إيران والولايات المتحدة في الخليج على أساس أن أحد مطالب واشنطن الاثني عشر التي طرحتها بعد سحب توقيعها على الاتفاق النووي مع إيران في عام ٢٠١٥، كان ضرورة أن تكف إيران عن التدخل في الشئون الداخلية لدول الشرق الأوسط، والامتناع عن دعم الجماعات المسلحة مثل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، والذي تسبب في هز استقرار المنطقة في السنوات الأخيرة.
لكن ماذا كانت ستقدم إسرائيل والولايات المتحدة لروسيا حال قبولها أن تلعب دورًا في إخراج إيران من سوريا؟
تشير تقارير منسوبة لمسئولين أمريكيين (لم تذكر أسماءهم) أن تل أبيب وواشنطن مستعدتان للقبول باستمرار نظام الأسد في سوريا، كونه الحليف الرئيسي لروسيا في الشرق الأوسط حاليًّا.
روسيا ترفض المقايضة الهزيلة
النتائج التي أسفرت عنها القمة التشاورية الثلاثية كانت هزيلة تماشيًا مع هزالة التصور الأمريكي-الإسرائيلي عن ثمن دور روسيا إذا ما قبلت إبعاد إيران عن سوريا، حيث وصف موقع Times of Israel نتائج الاجتماع بقوله: “تحدث مستشار الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف نيابة عن إيران خلال لقاء ثلاثي مع نظيريه الإسرائيلي والأمريكي في القدس الثلاثاء، وأعرب عن دعمه لمزاعم طهران ضد الولايات المتحدة فيما يتعلق بإسقاط الطائرة الأمريكية مؤخرًا، وتأييده لوجودها المستمر في سوريا”.
تصريحات “باتروشيف” قلبت الاتهامات الأمريكية-الإسرائيلية لإيران إلى اتهامات روسية لكليهما بأنهما يتسببان في هز استقرار الأوضاع في المنطقة، أو على حد تعبيره: لم تقدم الولايات المتحدة ما يثبت أن طائرتها التي أسقطتها إيران كانت تطير خارج المجال الجوي الإيراني، وأن غارات إسرائيل المستمرة على قواعد الحرس الثوري الإيراني في سوريا أمر غير مرغوب فيه!! كما أشاد “باتروشيف” بالوجود الإيراني المستمر في سوريا، والذي تعتبره إسرائيل تهديدًا غير مقبول. وقال المسئول الروسي إن إيران “تساهم كثيرًا في محاربة الإرهابيين على الأراضي السورية، وإضفاء الاستقرار على الوضع هناك”.
تصريحات مستشار الأمن الروسي عكست كما ذكرنا، استهجانه بشكل غير مباشر من اعتقاد واشنطن وتل أبيب بأن روسيا مضطرة لدفع ثمن لوجودها في سوريا، وتسديد الثمن لهما تحديدًا، أو أن ثمن حملها لإيران على الرحيل من سوريا سيكون مجرد إقرار لأمر واقع، وهو أن روسيا هي من نجحت في فرض إرادتها بمنع سقوط نظام الأسد، وبالتالي فوجودها العسكري في الأراضي السورية هو محصلة لقوتها، وليس لأن الولايات المتحدة وإسرائيل هما من سمحتا بذلك، بما يعني ضمنًا قدرتهما على إخراج روسيا من هناك لو أرادا. جزء من أسباب الرد الحاد الذي صاغه “باروشيف” ربما جاء من الكلمة الافتتاحية الصادرة عن مكتب رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” لتدشين هذا اللقاء الثلاثي الذي أزال حتى تصور مقايضة لعب روسيا دورًا في إخراج إيران من سوريا مقابل إقرار إسرائيلي-أمريكي بنفوذ روسيا ومصالحها في سوريا، حيث دعا “نتنياهو” صراحة إلى خروج كافة القوات الأجنبية من سوريا بما في ذلك القوات الروسية، مدعيًا أن الهدف المشترك بين الأطراف الثلاثة كان وما يزال متمثلًا في ضمان خروج القوات الأجنبية التي دخلت إلى سوريا بعد عام 2011.
تصريحات “باروشيف” القوية، قابلها اعتراض من جانب “جون بولتون” -مستشار الأمن القومي الأمريكي- الذي حاول إهانة “باروشيف” بالتشكيك في قوة موقعه داخل الإدارة الروسية، حيث قال: “أنا لا أعتقد بأن هذا هو الموقف الحقيقي لروسيا، وأن موسكو تأمل هي أيضًا في رؤية القوات الإيرانية والميليشيات المدعومة منها تغادر سوريا”. واستشهد “بولتون” بالتصريحات التي أدلى بها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في اجتماع عُقد مؤخرًا في موسكو بقوله: “لقد صرح الروس مرارًا وتكرارًا بأنهم يرغبون في رؤية القوات الإيرانية تغادر (سوريا)”.
ملف آخر طلب فيه “بولتون” دورًا روسيًّا بلا مقابل، وهو أن تسعى موسكو لإقناع طهران بالتراجع عن تهديدها باستئناف أنشطتها النووية. وكانت إيران قد ردت على قرار “ترامب” بسحب توقيع واشنطن على اتفاق عام ٢٠١٥ باستئناف بعض أنشطتها النووية المعلقة بموجب هذا الاتفاق، مع منح الدول التي شاركت فيه إلى جانب الولايات المتحدة (الصين، وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا) مهلة شهرين تنتهي قبل نهاية يونيو الجاري، لمساعدتها في التغلب على العقوبات التي فرضتها واشنطن على صادرات النفط الايرانية، وإلا اضطرت إلى التخلي عن التزامات إضافية في الاتفاقية التي انسحبت واشنطن منها.
هل فشل اللقاء الثلاثي؟
ظاهر الأمر أن تصريحات مستشار الأمن القومي الروسي لا تترك مجالًا للشك في أن اللقاء لم يحقق أهدافه، ولكن مستشار الأمن القومي الإسرائيلي “مائير بن شبات” كان له رأي آخر، حيث صرح قائلًا: “لقد سبق اللقاء محادثات معمقة ومطولة بين رئيس الوزراء وزعيمي البلدين على مستويات مهنية عززت الشعور بأن الظروف قد نضجت لهذا الحراك الدبلوماسي”. معتبرًا أن عقد اللقاء في القدس يُشكل دليلًا على مكانة إسرائيل، وعلى الثقة التي تحظى بها من قبل روسيا والولايات المتحدة، وعلى الوزن الذي يولَى لمواقفها حول القضايا العالقة على الأجندة الإقليمية والعالمية.
الهدف الأخير تحقق بالفعل وهو هدف دعائي محض أعاد “نتنياهو” التأكيد عليه بوصفه للقمة بأنها تاريخية، وعلل ذلك الوصف بالإشارة لكونه أول لقاء بين مستشاري الأمن القومي في الدول الثلاث، وهي تعقد في عاصمتنا القدس!
ذكر القدس في هذا السياق، وتكريس وضعها كعاصمة معترف بها وبمشاركة روسية؛ هدف ربما سعت إسرائيل إلى تحقيقه بغض النظر عن الأهداف المعلنة لهذا اللقاء من البداية، ولم يظهر اعتراض من جانب روسيا على وصف “نتنياهو” للقدس بعاصمة إسرائيل، بالرغم من أن روسيا لم تجارِ الولايات المتحدة في هذا الاعتراف، وكان لها موقف لم يتغير حيال القدس الشرقية التي تزعم إسرائيل أنها جزء من عاصمتها الموحدة، حيث تُصرّ موسكو على أن من حق إسرائيل أن تعلن القدس الغربية عاصمة لها، ولكن القدس الشرقية تبقى أرضًا فلسطينية محتلة يجب معالجة وضعها في إطار اتفاق سلام نهائي بين الفلسطينيين وإسرائيل.
أما مستشار الأمن القومي الروسي فقد بدا وكأنه يخفف مما سبق أن ذكره من اتهامات ضد إسرائيل والولايات المتحدة، حيث أكد في نهاية اللقاء: “إن جميع الأطراف كان لديها ما تتفاوض عليه”. وفي نهاية كلمته، شدد على أن المشاركين في الاجتماع التقوا من نواحٍ كثيرة في آرائهم؛ في المقام الأول على مسألة كيف يجب أن تكون سوريا في المستقبل، وسيكون علينا التحاور حول كيفية القيام بذلك.
هل تصل الرسائل إلى إيران؟
في سياق هذا اللقاء الثلاثي، عبّر “جون بولتون” عن رغبته في أن تؤكد روسيا لإيران عدة أمور برغم موقف “باتروشيف” الذي امتدحها، حيث صرح بأن الولايات المتحدة تُبقي الباب مفتوحًا أمام إيران لتعود إلى مائدة التفاوض، وأن الولايات المتحدة ستشدد العقوبات عليها إذا ما نفذت تهديدها باستئناف أنشطتها النووية، ولكنه في إطار الرسائل العديدة التي أطلقها خلال اللقاء أكد أن واشنطن لا تسعى لإسقاط النظام الإيراني أو تغييره.
الرسالة المتكررة بأن الولايات المتحدة لا تستهدف إنهاء حكم الملالي، يقابله شك من جانب إيران في مدى مصداقيتها، خاصة بعد فرض الولايات المتحدة عقوبات على مرشد الجمهورية الإيرانية، وعدد من المسئولين الإيرانيين، بعد أن سبق لها (أي واشنطن) أن اتخذت قرارًا بوضع الحرس الثوري -مهمته الأساسية حماية نظام الحكم- في قائمة الإرهاب. ومن ثم، ماذا يمكن لموسكو أن تفعل لإقناع طهران بالتخلي عن نهجها في الملفين السوري والنووي في ظل القرارات الأمريكية الموجهة ضدها وضد رموز نظامها الحاكم والتي أشرنا إليها سابقًا؟
واقع الأمر، أن “بولتون” يريد من موسكو أن تُقنع إيران بأن خروجها من سوريا الآن، ربما سيؤدي إلى تخفيض الأزمة الناشئة مع إيران في الخليج حاليًّا، حيث إن من شأن اتخاذ إيران مثل هذه الخطوة أن تقنع واشنطن وتل أبيب بأن إيران استجابت لبعض الشروط التي يمكن أن تفتح مجالًا أوسع للحوار وإزالة التوتر من المنطقة، وربما يأمل “بولتون” أيضًا أن مرشد إيران “علي خامنئي” يمكن أن يرى في سحب قواته من سوريا إجراء لا يتسبب في حرج لبلاده إذا ما تم تقديمه للرأي العام الإيراني على أنه يأتي في سياق تعزيز الأمن الداخلي للبلاد في مواجهة التهديدات الأمريكية في الخليج. ولكن يبقى السؤال المهم وهو: ما الذي يمكن أن تقدمه واشنطن وتل أبيب لموسكو بالقيام بهذا الدور؟
واقع الأمر، أن روسيا غير مستعدة للعب الدور المطلوب منها حيال إيران إلا لو حصلت على تنازلات أمريكية ملموسة فيما يتعلق بالأزمة مع أوكرانيا، وبالعقوبات التي فرضتها واشنطن والدول الأوروبية ضدها على خلفية ضمها لشبه جزيرة القرم، بالإضافة لمعالجة غضب روسيا من تجاهل الولايات المتحدة لها في ملف التسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو ما كانت روسيا قد قابلته بالتشكيك في جدوى “صفقة القرن” التي كانت واشنطن تخطط لها لمعالجة هذا الملف، كما أنها -أي روسيا- قاطعت ورشة البحرين من أجل الازدهار والسلام التي دعت إليها واشنطن، معتبرة إياها المدخل لتطبيق هذه الصفقة.
في كل الأحوال، الملفات المتشابكة بين الولايات المتحدة وروسيا تدفعنا للقول بأنه لا يمكن اعتبار القمة الثلاثية التي عُقدت في القدس اختراقًا للقضية الرئيسيّة التي تستهدف تحجيم إيران إقليميًّا. وبهذا المعنى، لم تكن هذه القمة قمة ناجحة، ومن المشكوك فيه أن تلعب دورًا مهمًّا في “تليين” المواقف الروسية والإيرانية، ولكنها -أي هذه القمة الأمنية التشاورية- أفادت إسرائيل دعائيًّا. ويبقى أن اللقاء الذي سيجري بين الرئيس الأمريكي “ترامب” والرئيس الروسي “بوتين” في قمة العشرين، هو الذي سيظهر مدى احتمالات حدوث اختراقات ذات بال في معالجة الأزمة مع إيران بشكل نهائي من عدمه.