يُشكل الهجوم المستمر من قبل الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” على مصر، وسياستها وقيادتها، منذ ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣؛ ظاهرة تستدعي التوقف أمامها من جانبين أساسيين. الأول: العوامل الظاهرة والخفية وراء هذا العداء، والثاني: مدى تعبير هذا العداء عن سياسة تركية خارجية تستند إلى معايير موضوعية ومقبولة محليًّا ودوليًّا وإقليميًّا، تؤهلها لتحقيق أهدافها.
بدون استغراق في التاريخ القديم، يمكن القول إن مصر قد شكلت دومًا تحديًا للطموحات التركية إقليميًّا ودوليًّا، وكما كان الزعيم الفرنسي “شارل ديجول” يُحذّر الأوروبيين من روسيا بقوله: “إن روسيا تظل مصدر قلق للغرب، سواء كانت إمبراطورية أو شيوعية أو مجرد دولة”، فإن قول “ديجول” هذا يصدق حقًّا على روسيا التي استمرت في إزعاج الغرب حتى بعد نهاية إمبراطوريتها الشيوعية. وتبقى كذلك مصر مصدرًا لقلق تركيا في الماضي والحاضر، كونها دولة تتمتع بهوية وطنية متماسكة، وبقوة ناعمة أكسبتها تأثيرًا قويًّا على محيطها العربي برغم مشكلاتها الاقتصادية. في الماضي هدد مشروع “محمد علي” في أربعينيات القرن التاسع عشر الإمبراطورية العثمانية، وكاد أن يقضي عليها بجيشه الذي أسسه من الفلاحين المصريين، لولا تدخل القوى الأوروبية الخمس الكبرى -آنذاك- لإيقافه ومنع سقوطها.
وفي بدايات الحرب العالمية الأولى التي انضمت فيها الدولة العثمانية إلى ألمانيا ضد إنجلترا وفرنسا، كانت هزيمة الجيش العثماني على أبواب سيناء بداية نهاية الإمبراطورية العثمانية. وعندما ألغى “أتاتورك” الخلافة العثمانية في عام ١٩٢٤، بادر الملك “فؤاد” (ملك مصر في ذلك الوقت) لمحاولة وراثة الخلافة الزائلة في تحرك رمزي نحو إضعاف أي فرصة لتركيا الأتاتوركية للعودة إلى تأثيرها القديم في المنطقة العربية. ورغم فشل هذه المحاولة، عادت مصر لتشكل مصدر قلق لتركيا التي أَمِلَت بعد انضمامها إلى حلف الناتو عام ١٩٥٢، ومشاركتها في تأسيس حلف بغداد عام ١٩٥٥، في أن تلعب دور القوة الإقليمية الكبرى في الشرق الأوسط في مواجهة الاتحاد السوفيتي. غير أن صعود مصر كدولة مؤسسة في حركة عدم الانحياز في نفس عام تأسيس حلف بغداد، والتي نظر الغرب إليها (الحركة) على أنها خطوة تقلل من قدرة الغرب على مواجهة التهديد الشيوعي، قد أدى إلى فقدان الحلف أهميته، خاصة مع صعود المشروع القومي العربي المعادي للغرب، بقيادة الرئيس المصري “جمال عبدالناصر”. ولم تكن تركيا لتقنع الغرب بعد فشل حلف بغداد بأن تكون أداة مواجهة ملائمة لمواجهة هذه التحولات. وحتى بعد انكفاء المشروع القومي الناصري عقب هزيمة يونيو ١٩٦٧، لم يكن بوسع تركيا التفكير في طموحاتها الإقليمية المكبوتة بسبب انشغالها في مشاكلها الداخلية المتزايدة حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي.
مصر وتركيا بعد انهيار نظام القطبية الثنائية
مع تفكك الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة واجهت تركيا خطرًا كبيرًا تَمَثَّلَ في احتمال تراجع أهميتها التي كانت تستند فيها فقط إلى عضويتها بحلف الناتو؛ فقد كانت المخاوف تراودها من أن يقلل الغرب من اهتمامه بهذا الحلف بعد زوال الخطر السوفيتي. وربما كانت مصادفة أن يصعد في نفس التوقيت تقريبًا “تورجوت أوزال” رئيس الوزراء التركي ذو الطموحات الهادفة لإعادة تأسيس ما سُمي “العثمانية الجديدة” التي تحافظ على علاقتها بالغرب، وتثبت أهميتها له بعد زوال الخطر الشيوعي، عبر إقناعه بأهمية دور تركيا بأن تكون نموذجًا للإسلام المعتدل الذي كان المفكرون السياسيون في الغرب -مثل “صموئيل هنتجتون”- يعتقدون أنه أصبح ضرورة مع وجود توقعات بأن يكون الإسلام السني العنيف القادم من المنطقة العربية هو العدو المنتظر مواجهته في السنوات القادمة. كان توجه “أوزال” مغريًا للغرب في مرحلة مبكرة وقبل وصول “أردوغان” للسلطة بنحو عشر سنوات كاملة للتفكير في خلق هذا النموذج الذي بوسعه اختراق العالم العربي، السني المذهب، وتقليل تأثير ومخاطر الإسلام المتطرف في حال نجاحه في الوصول إلى السلطة في دول عربية محورية متحالفة مع الغرب. بالتزامن مع ذلك، وجدت تركيا في تراجع تأثير مصر عربيًّا، بسبب حفاظها على اتفاقية السلام التي وقعتها مع إسرائيل عام ١٩٧٩، فرصة لتقديم نفسها للعالم العربي كقيادة إسلامية سنية “معتدلة” لها جسور وثيقة مع الغرب، ولا تؤثر حقيقة إقامتها لعلاقات مع إسرائيل منذ عام ١٩٤٩ على مصداقيتها وقوتها كبديل لمصر التي أقامت علاقات مماثلة مع الدولة العبرية منذ أواخر السبعينيات. ومما لا شك فيه، فإن الولايات المتحدة وأوروبا قد ازدادا اقتناعًا بأهمية المساعدة على جعل تركيا نموذجًا إسلاميًّا ديمقراطيًّا يتسم بالاعتدال والنجاح الاقتصادي، وذلك بعد ارتفاع حدة الصدام مع التنظيمات الجهادية الإسلامية القادمة من العالم العربي والتي بلغ خطرها حد توجيه ضربة قوية للولايات المتحدة داخل أراضيها ولأهم رموزها ومؤسساتها في الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١.
تركيا والفوضى الخلاقة
أدى غضب الولايات المتحدة الأمريكية من حلفائها العرب عقب حادث ١١ سبتمبر بسبب فشلهم في مواجهة التنظيمات الجهادية، إلى الانتقال إلى مرحلة محاولة تقديم تركيا كنموذج للإسلام المعتدل المتصالح مع القيم الغربية، والتي يمكن أن تقود العالم العربي السني، ليس فقط في مواجهة الإسلام الجهادي، بل في مواجهة توسع النفوذ الإيراني في المنطقة أيضًا. من أجل ذلك، بدا مشروع “الفوضى الخلاقة” -في جانب منه على الأقل- والذي أطلقته وزيرة الخارجية الأمريكية “كونداليزا رايس” عام ٢٠٠٥، والذي استهدف -ظاهريًّا- الضغط من أجل دمقرطة العالم العربي، كاستثمار في تركيا التي وصل إلى الحكم فيها حزب إسلامي ذو توجهات معتدلة في عام ٢٠٠٢. في هذا الإطار، بدأ حزب “العدالة والتنمية”، بزعامة “رجب طيب أردوغان”، في عملية انفتاح على العالم العربي، مع محاولة التواؤم -في الوقت نفسه- مع المعايير التي وضعها الاتحاد الأوروبي لقبول الدول الأوروبية في عضويته (وكانت تركيا تسعى حثيثًا للحصول على هذه العضوية منذ تسعينيات القرن الماضي على الأقل). غير أن التوجه الجديد لأردوغان وحزبه، حتى بعد أن تمكن من تسريع نمو الاقتصاد التركي والوصول به إلى مصاف الاقتصادات الناشئة في غضون أقل من عقد من الزمان، لم يكن من السهل ترجمته مباشرة إلى تأثير قوي في سياساته الخارجية عامة، وسياساته تجاه العالم العربي السني خاصة.
أفول رهان الغرب على النموذج التركي
حاول “أردوغان” بناء سياسة خارجية بدت متعارضة في أهدافها وأدواتها، لذا كان الفشل مصيرها. وكانت مصر سببًا أو جزءًا مهمًّا من أسباب هذا الفشل. فقد حاول إقناع الغرب بأنه يتبنى إسلامًا معتدلًا، حيث قام بتعديلات قانونية لامست المعايير الغربية في قضايا حقوق الإنسان، مثل: إلغاء حكم الإعدام، والاعتراف بحقوق المثليين. كما حاول تخفيض حدة السياسات الإقصائية المفروضة على المواطنين الأكراد منذ سنوات طويلة، لكنه -في المقابل- وفِي إطار سعيه لكسب ود الشعوب العربية التي يسعى لإقناعها بتبني النموذج التركي، اضطر إلى تبني سياسات أقلقت الغرب، حيث بدأ في الصدام مع إسرائيل (أهم حليف للولايات المتحدة الأمريكية)، وصولًا إلى تقوية علاقاته الاقتصادية والسياسية بالقوى المناوئة للغرب (مثل: روسيا، والصين، وإيران). ورغم أن وصول جماعة الإخوان إلى السلطة في مصر عام ٢٠١٢ قد بدا لأردوغان فرصةً لتأكيد زعامته للإسلام المعتدل الذي يتوق الغرب إلى التعامل معه؛ إلا أن الفرصة سرعان ما تبددت بثورة المصريين على حكم الجماعة في يونيو ٢٠١٣. كما لم تتمكن الجماعة نفسها في تونس وحزبها (النهضة) من الانفراد بالحكم هناك. أيضًا كانت محاولات تركيا لمساعدة إيران على تفادي تأثير العقوبات الأمريكية، سواء قبل توقيع اتفاق (٥+١) عام ٢٠١٥، أو بعدها، سببًا في تزايد شكوك الولايات المتحدة وأوروبا في نوايا “أردوغان”.
على جانب آخر، بدأ “أردوغان” عمليًّا في التراجع عن الالتزام بالمعايير الغربية لحقوق الإنسان منذ عام ٢٠٠٩ عندما تشدد في مطاردة معارضيه، والتضييق على حرية الرأي والتعبير، وهي السياسة التي أفزعت الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما” الذي كان يأمل في أن تقدم تركيا نموذجًا في الالتزام بالديمقراطية واحترام القيم الإنسانية، وفقًا للتعريف الغربي، وأن تُقنع العالم العربي بالتحول نحو مفهوم سلمي للإسلام السياسي بقيادة جماعة الإخوان المسلمين. ومع محاولة الانقلاب الفاشلة ضده في عام ٢٠١٦، بات النجاح الذي حققه “أردوغان” على وشك الانهيار الكامل على كافة الأصعدة، حيث توترت علاقته مع الولايات المتحدة وأوروبا بعد أن توسع في سياسته القمعية تجاه معارضيه. كما بدأ الاقتصاد التركي في الانكشاف أمام أزمة الديون المرتفعة وتباطؤ النمو، وانسحاب الاستثمارات الأجنبية من السوق التركية. كما ازدادت حدة المواجهات مع العالم العربي الذي دعم أغلبه ثورة الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ في مصر، وبدا عجز أنقرة واضحًا في التعامل مع الأزمة السورية، وشكك في قدراتها السياسية والعسكرية في آن واحد. بل إن “أردوغان” حاول أن يتلاعب بالولايات المتحدة وأوروبا، على غرار السياسة التي اتّبعها الرئيس اليمني السابق “علي عبدالله صالح” الذي كان يتلقى الدعم الأمريكي والأوروبي تحت شعار مواجهة الإرهاب في الوقت الذي كان يدعم فيه سرًّا التنظيمات الإرهابية. فقد أظهرت العديد من التقارير الغربية حقيقة توظيف “أردوغان” تنظيم “داعش” في معركته ضد الأكراد في شمال سوريا والعراق. كما أنه لم يلتزم بالاتفاق الذي وقّعه مع الاتحاد الأوروبي عام ٢٠١٦ للحد من تدفق اللاجئين السوريين إلى أوروبا، بل حاول استغلال ورقة اللاجئين لابتزاز الأوروبيين والضغط عليهم لإيقاف الانتقادات الموجّهة لنظام حكمه بسبب انتهاكاته لحقوق الإنسان.
بعد هذا الاستعراض الموجز، يمكن القول إن الجماعة الحاكمة في تركيا تنظر إلى مصر على أنها رقم عصي في معادلة طموحاتها الإقليمية، وأن سقوط حكم الإخوان في مصر بعد ثورة يونيو ٢٠١٣ لم يكن سوى مفجر للعقدة التي ترسخت لدى تركيا على مدى ما يقرب من قرنين من الزمان، والتي تجعل الصعود التركي مرهونًا بإضعاف مصر على الدوام، والعكس صحيح، فكل صعود مصري سيكون حتمًا على حساب تركيا وطموحاتها الإقليمية ومكانتها الدولية، بل وحتى على أمنها القومي نفسه.
الرئيس “السيسي” وترسيخ العقدة التركية
ليس من قبيل الديماجوجية القول بأن سياسة الرئيس “السيسي” الخارجية تسببت في تفكيك أي منظور عقلاني للسياسة الخارجية التركية؛ فالرئيس التركي فقد الاتصال بالواقع تمامًا، وباتت سياسته حيال مصر تركز على الهجوم على شخص الرئيس “السيسي” الذي نجح منذ وصوله للحكم في عام ٢٠١٤ في مواجهة الضغوط والعقوبات التي فرضتها واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي على مصر بزعم أن ثورة يونيو كانت انقلابًا عسكريًّا. وعلى مدى ولايته الأولى، نجح الرئيس “السيسي” في استعادة ثقة واشنطن والاتحاد الأوروبي في أهمية الدور المصري في مواجهة خطر الإرهاب، ومحاولة استعادة الاستقرار في الشرق الأوسط. لكن بالنسبة لتركيا بدت سياسة الرئيس “السيسي” وكأنها تستهدف تركيا وما حققته قبل عام ٢٠١٦ من نجاحات؛ فقد أصبحت مصر مركزًا للمؤتمرات والحوارات الإقليمية حول قضايا محورية، مثل: الإصلاح الديني، ومكافحة الفساد، وتحسين العلاقات العربية-الأوروبية، وهي ظواهر كانت تركيا قد حققت فيها نجاحات ملحوظة قبل عام ٢٠١٣، ليأتي الدور المصري الجديد على حسابها (من ذلك على سبيل المثال مؤتمر أوروبا والعالم العربي في فبراير 2019. ومصر وإفريقيا في مواجهة الفساد في شهر يونيو 2019). إلى جانب وقوف مصر بقوة مع الدولة الليبية في مواجهة التدخل التركي-القطري، وسعيها نحو مساعدة السودان على الابتعاد عن التأثير التركي بعد سقوط نظام “البشير”، والعمل على إعادة الاستقرار في أسرع وقت ممكن. وأخيرًا التصريحات التي أدلى بها الرئيس “السيسي” حول قضية اللاجئين، والدور الذي تلعبه مصر في احتواء أكثر من خمسة ملايين لاجئ (ملمحًا إلى أن مصر لا تلجأ لابتزاز الغرب بهذه الورقة كما تفعل تركيا)، وإمكانية أن يصبح الدور المصري أكثر أهمية في السنوات القادمة بعد تحول اللاجئين للتدفق إلى أوروبا عبر مصر ودول الشمال الإفريقي وليس عبر الحدود التركية. في الوقت نفسه، تزيد سياسة “أردوغان” الخارجية من تردي علاقاته بأوروبا والولايات المتحدة ودول الخليج وإسرائيل بسبب موقفه في الأزمة السورية، وعلاقته بداعش، ورغبته في شراء أسلحة روسية، وتقوية علاقته بايران.
ما يمكن قوله في النهاية، إن الخسائر الهائلة لتركيا في علاقتها الإقليمية والدولية، قد قوضت الأسس العقلانية التي تقوم عليها سياساتها الداخلية والخارجية. كما أصبحت عملية شخصنة هذه السياسة على يد “أردوغان” علامة مؤكدة على فقدان تركيا القدرة على صياغة سياسة خارجية جديدة تُعيد إليها التوازن المفقود. وقد يستمر هذا الوضع لسنوات قادمة ما لم تؤدِّ الأزمات الاقتصادية التي تمر بها تركيا حاليًّا إلى التعجيل بنهاية حكم “أردوغان”.