شهدت مدينة “سيليكون فالي” الأمريكية، في 11 يوليو الماضي، قمة “منصات التواصل الاجتماعي”، بحضور قادة العالم الرقمي، لمناقشة الفرص والتحديات المتاحة في بيئة الإنترنت، والبيئة الرقمية الراهنة، والرقابة على وجهات نظر المحافظين، والتمييز ضدهم على مواقع التواصل الاجتماعي. وذلك على الرغم من غياب ثلاث من الشركات التكنولوجية الرائدة؛ وهي: جوجل، وفيسبوك، وتويتر، التي امتنعت عن التعليق.
فقد دعا البيت الأبيض عددًا من الشخصيات اليمينية البارزة التي تكررت انتقادتها لوسائل التواصل الاجتماعي للمشاركة في القمة، وهي الشخصيات التي تكررت ادعاءاتها بأن شركات -مثل: فيسبوك، وتويتر- تتحيز ضد المحافظين وتراقب خطاباتهم. في هذا الإطار، ضم المدعوون كلًّا من: مؤسس شركة “بروجكت فيريتاس” (وهي مجموعة ناشطة تدّعي أنها تخترق شركات التكنولوجيا)، بجانب بعض الشخصيات اليمينية، فضلًا عن “تشارلي كيرك”، و”جيمس أوكيف”، والثنائي الشهير “دياموند آند سيلك”.
بمعنى آخر، جمعت القمة العديد من المنظمات والشخصيات المحافظة التي تدّعى تعرضها الدائم للرقابة أو الحظر على وسائل التواصل الاجتماعي، للدفع بموقف “ترامب” القائل بأن شبكات التواصل الاجتماعي الكبرى تمارس التمييز ضد المحافظين، وذلك على الرغم من تزايد عدد متابعيه على تويتر، البالغ عددهم (62) مليون متابع. هذا بجانب ممثلين لموقع “براجر يو” (الذي ينشر أشرطةً مصورةً ذات توجهاتٍ يمينية تبرز العنف الإسلامي)، ومنظمة “تورننج بوينت يو إس أيه” (التي تزعم بأن الجامعات الأمريكية تقدم المصالح اليسارية على ما عداها).
وعلى الرغم من طبيعة القمة وأهمية موضوعها، لم تتلق الشركات التكنولوجية العملاقة دعوةً للحضور. وقد رفضت كلٌّ من: تويتر، وفيسبوك، وجوجل، إبداء أي تعليقاتٍ على عدم حضورهم للقمة. بينما أشار “ترامب” إلى إمكانية دعوة رؤساء شركات التواصل الاجتماعي إلى البيت الأبيض خلال شهر أغسطس الجاري.
أبرز فعاليات القمة
ألمح الرئيس الأمريكي أثناء القمة إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي ترتكب مخالفاتٍ لقوانين مكافحة الاحتكار، مقترحًا توقيع غراماتٍ مالية ضخمة عليها ومطالبتها بسدادها. وأسهب “ترامب” في حديثه عن عدد متابعيه على موقع تويتر، بعد أن اتهم الموقع بحذف جزءٍ منهم. ووفقًا لترامب، يضع تويتر صعوباتٍ أمام متابعة مزيدٍ من الأشخاص له، مؤكدًا إمكانية تزايد ذلك العدد في حال انتمائه للحزب الديمقراطي.
كما تطرق “ترامب” إلى الأنظمة الجديدة التي قد تطبقها إدارته على الإنترنت، بجانب احتمالات حظر بعض منصات التواصل الاجتماعي، وذلك على شاكلة المنصات التي تروج لنظريات المؤامرة و”ثقافة الميم” (MEME) (التي تنتشر في أوساط جمهور الإنترنت). فوفقًا له، يستحق هؤلاء المروجون الحظر من منصات التواصل الاجتماعي، وذلك على الرغم من معارضته السابقة لتلك الخطورة.
وبجانب ذلك، هاجم “ترامب” الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وكذا حركة “أنتيفا” (الجماعة اليسارية المسلحة التي تتكون من رجال مسلحين يظهرون في حالات المشاجرة بين مختلف الأشخاص أمام المدارس، لكنهم لا يشاركون في سباق دراجاتٍ نارية لدعم الرئيس).
أبرز ردود الأفعال
صرح “مايكل بيركمان” (رئيس رابطة الإنترنت التي تضم كلًا من: تويتر، وفيسبوك، وجوجل)، “بأن شركات الإنترنت غير منحازة ضد أي أيديولوجيا سياسية، وما يدلل على ذلك استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بفعاليةٍ متناهية؛ إذ تعتمد شركات الإنترنت على ثقة مستخدميها من قبل كافة الأطياف السياسية كي تنمو وتنجح”.
وطبقًا لرابطة الكمبيوتر وصناعة الاتصالات (وهي مجموعة تجارية تضم بين أعضائها فيسبوك وجوجل)، تُعد قمة وسائل التواصل الاجتماعي “ترهيبًا” للشركات، بهدف التأثير في مضمونها لصالح البيت الأبيض. وفي بيان رئيس الرابطة “إيد بلاك”، تم التشديد على عدم تعرض أي من الشركات للترهيب من قبل الحكومة، لتمرير مضامين مرفوضة تنتهك سياسات الشركة”.
كما صرح “إيد بلاك” بأنه قد تسمح مواقع التواصل الاجتماعي بأنواعٍ عدة من الخطابات، لكن ينبغي عدم مطالبتها بالبقاء محايدة فيما يتصل بالكراهية أو التعصب الديني. وتابع: “إذا كان أولئك الذين يعبرون عن تلك المظالم في الاجتماع الذي ينعقد هذا الأسبوع غير راضين عن سياسة شركة ومضامينها، فهناك عديد من المنافسين الذين يمكن الاختيار بينهم”.
واعتبر “دانيال كاسترو” (نائب رئيس مؤسسة تكنولوجيات الإعلام والتجديد) أن قمة وسائل التواصل الاجتماعي لا تعدو كونها ستارًا يكسب بعض الشخصيات -التي وصفها بالأكثر إثارة للجدل- شيئًا من المشروعية، ومن هنا تكمن خطورتها.
أما “آدم كيارا” (أستاذ الاتصالات في جامعة هارتفورت) فقد وصف القمة -في ظل غياب منصات التكنولوجيا الرئيسية الثلاث- بأنها “أقل من قمة وأكثر من مهرجان شكاوى”. ففي ظل غيابهم، من شأن القمة أن تفشل في التوصل إلى مخرجاتٍ محددة، أو أن تناقش إشكالياتٍ بعينها.
دلالات التوقيت
تزامنت القمة مع تصعيد “ترامب” اتهاماته لمنصات التواصل الاجتماعي بالتحيز وقمع الأصوات المحافظة. غير أن تلك الانتقادات لم تقتصر بطبيعة الحال عليه؛ فقد امتدت كذلك لشركات التكنولوجيا الكبرى التي باتت ترى في نمو عمالقة التواصل الاجتماعي ضررًا يهدد مصالحها، بعد أن “كبرت أكثر مما ينبغي”. فتزايدت الاتهامات الموجهة لوسائل التواصل الاجتماعي، كونها تروج لخطابات الكراهية المنتشرة على منصاتها. وهو الأمر الذي نفته شركات التكنولوجيا الكبرى، ذلك أن أي تحيّز من جانبها سينعكس سلبًا على أعمالها.
وفي اليوم الذي انعقدت فيه القمة، غرد “ترامب” عبر تويتر بقوله: “سنطرح موضوعًا كبيرًا اليوم في قمة منصات التواصل الاجتماعي بالبيت الأبيض، سيكون عن التضليل والتحيز والتمييز والقمع الذي تمارسه بعض الشركات. لن نسمح لها بالإفلات من العقاب بعد الآن”. وقد أثارت تغريدته المخاوف من احتمالات إلغاء البيت الأبيض للإطار القانوني الذي يحمي الخدمات الإلكترونية من المسئولية بسبب مضامين مؤذية ينشرها آخرون على منصات تلك الخدمات.
لذلك، حذر نشطاء الإنترنت من تداعيات إلغاء الحماية التي تنص عليها الفقرة 230 من قانون 1996 على حرية التعبير، وكذا التعديل الأول للدستور الأمريكي. كما وقعت (27) منظمة من منظمات الحقوق المدنية والرقمية و(50) باحثًا قانونيًّا رسالةً جاء فيها “على الحكومة ألا تطلب من -أو تجبر- وسطاء على إزالة كلامٍ يحميه الدستور، ولا تستطيع الحكومة أن تمنعه مباشرة. إن فرض مسئولية واسعة على خطاب المستخدم، يقدم حافزًا للخدمات كي تخطئ من ناحية إزالة الخطابات، ما يتسبب برقابةٍ مفرطة”.
دلالات التصعيد
عُقدت قمة وسائل التواصل الاجتماعي على خلفية حظر فيسبوك عددًا من الشخصيات اليمينية المتطرفة، بما في ذلك مناصرو نظرية المؤامرة، وتفوق العرق الأبيض. وقد شمل الحظر شخصياتٍ مثل: “بول نيلن” (المرشح الخاسر في انتخابات الكونجرس)، وكذا “أليكس جونز” (مؤسس موقع إنفو وار)، بجانب “بول جوزيف واتسون”، و”ميلو يانوبولوس”، و”لويس فرخان”، و”لورا لومير”.
وعلى الرغم من إشادة مستخدمي فيسبوك بهذه الخطوة، فقد هاجم “ترامب” ذلك بعنف في أعدادٍ متوالية من التغريدات، منتقدًا ذلك بوصفه “رقابة” على مواطنين أمريكيين على منصات التواصل الاجتماعي. وعلى خلفية ذلك، شارك “ترامب” لاحقًا رابطًا لمقالٍ منشورٍ على موقع “بريتبارت” اليميني المتطرف، معلقًا عليه بقوله: “أنا متفاجئ من رؤية مفكرين محافظين مثل “جيمس وودز” يمنع من تويتر و”بول واتسون” يحظر على فيسبوك”. وعلى الرغم من معارضة “ترامب” للقمع المفروض عليه وغيره من أصوات اليمين، أكدت التقارير ازدهار المحتوى المحافظ المنشور على مواقع التواصل الاجتماعي على مر السنين.
ويعكس ذلك -في مجمله- وجود حملاتٍ ممنهجةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي، وما يدلل على ذلك إطلاق البيت الأبيض في شهر مايو الماضي آلية يمكن للمستخدمين من خلالها الإبلاغ عن حالات الانحياز في وسائل التواصل الاجتماعي. كما عقد الكونجرس جلسات استماع -على مدار العام الماضي- لاستجواب مسئولي شركات وسائل التواصل الاجتماعي حول ممارسات شركاتهم. وانصرف الأمر كذلك إلى تلميحات “ترامب” بمحاسبة فيسبوك لانتهاكها المادة 230 من قانون حماية الاتصالات التي تنص على أنها ليست مسئولة عن معتقدات وآراء المستخدمين الذين ينشرون على منصتها، وذلك بحظر هؤلاء المستخدمين ومنعهم من التعبير عن رأيهم.
وطال الأمر عملة الفيسبوك “الليبرا” التي يفترض إطلاقها في العام القادم؛ فيجب على فيسبوك وفقًا لترامب أن يسعى لميثاقٍ مصرفي، بما يخضعه لكل من القواعد التنظيمية المصرفية الأمريكية والعالمية، على شاكلة كافة البنوك المحلية والدولية، ليتحول إلى بنكٍ تجاري. فوفقًا له، لا يمكن اعتبار العملات المشفرة أموالًا. ولا يمكنها كذلك الحلول محل الدولار الأمريكي، في ظل تذبذب قيمتها.
ويأتي هذا في الوقت الذي يعتزم فيه بنك “JPMorgan Chase” -أكبر بنك أمريكي من حيث الأصول- إطلاق عملةٍ افتراضيةٍ خاصة به، ويسعى “جيروم باول” رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى وقف مشروع عملة “ليبرا” لحين معالجة المخاوف المتعلقة بقضايا الخصوصية وغسيل الأموال، بناءً على طلب “ترامب”.
وختامًا، يتضح جليًّا تزايد الضغوط التي تتعرض لها وسائل التواصل الاجتماعي من قبل دولٍ عدة، خاصة الولايات المتحدة، لإجبارها على إزالة مضامين مسيئة تحض على الكراهية. ناهيك عن تعالي دعوات الحظر تارة، والغرامات المالية تارةً أخرى، وذلك في سياقٍ مماثلٍ للعقوبات الاقتصادية التي يوقعها “ترامب” على دولٍ مثل إيران، والصين، وغيرها. وهذه السياسة باتت تنصرف الآن إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت محلًّا لنظريات المؤامرة كتلك التي يدفع بها “ترامب” والبيت الأبيض.