من محددات الدور الإقليمي للدولة وقيوده في نفس الوقت إمكانيات الدولة بما في ذلك الثمن الذي تدفعه الدولة لممارسة هذا الدور ومدى نجاحها في تحقيق أهداف هذا الدور، خاصة في الوقت الراهن الذي يتسم بتغييرات حادة في جميع عناصر الموقف السياسي، ذلك لأن المنطقة العربية هي البيئة الاستراتيجية لمصر بالدرجة الأولى. ورغم نجاح مصر في التعامل مع عدد من المتغيرات المؤثرة على هذه البيئة مثل مواجهة الإرهاب في محور العريش– الشيخ زايد– رفح، وهدم الانفاق، وإعادة التوازن الاستراتيجي في المشرق العربي، وتعديل الموقف في ليبيا، إلا أن عدم اليقين السياسي لايزال سيد الموقف مما يؤدي إلى صعوبة التنبؤ باتجاه التحولات السياسية التي تتسم بالانقلابية في مجمل المنطقة العربية.
وترجع صعوبة السيطرة على التحولات الاستراتيجية في المنطقة إلى وجود نوعين متزامنين من التحولات الاستراتيجية في الوقت الراهن:
النمط الأول، يشمل التحولات العالمية التي لا يد لنا فيها، وهي تحولات ناتجة عن طبيعة الثورة الرقمية التي تصبغ العصر بصبغتها، وهذه الثورة ناتجة عن تفاعل البيوتكنولوجي مع المعلوماتية مع النانو تكنولوجي، مما فتح آفاق واسعة لزيادة رفاهية الإنسان والارتفاع بمستوى معيشته، وارتفاع مستواه الصحي، وبالتالي ارتفاع معدل سن وفاته، وهي تحولات تؤثر على:
– تغيير طبيعة الدولة القومية على المستوى الكلي وظهور أنماط جديدة من القوة والفواعل السياسية وكثافة وعمق العلاقات بينها.
– تغيير بعض وظائف أو ملامح الدولة القومية على المستوى الجزئي مما أدى إلى ظهور تيارات سياسية لم تكن موجودة من قبل مثل التيارات اليمينية.
– تغيير حاد في القيم مما يؤدي لتغييرات علاقات التفاعل بين دول الإقليم، وأنماط التحالفات والصراعات، بالرغم من استمرار حدود سايكس- بيكو.
النمط الثاني، هو التحولات التي تشهدها دول الإقليم، أو التحولات الإقليمية، ويقصد بها مساعي مختلف دول الإقليم إلى تحقيق ما تصبو إليه من سياسات تحقق مصالحها وأهدافها، ويتم ذلك أحيانا دون تنسيق مع دول الإقليم، وأحيانا بصورة متعارضة مع مختلف دول المنطقة، ومع أدنى متطلبات الأمن القومي العربي لأسباب مختلفة مما يزيد من صعوبة حركة مصر للحفاظ على دواعي ومتطلبات الأمن القومي العربي.
ويندرج في هذا الإطار أيضا تحركات قوى عالمية بالإقليم لتحقيق مشروعات تحقق مصالحها –سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة– بمسميات مختلفة مثل الشرق الأوسط الموسع أو الدين الإبراهيمي أو صفقة القرن أو مكافحة الإرهاب أو غير ذلك من المسميات التي تستهدف إعادة رسم خرائط دول الإقليم لتناسب حدود القوة الإسرائيلية حاليا ومستقبلا.
وكان نتيجة تفاعل هذين النمطين من التحولات تغير مفهوم القوة تغييرا حادا نتيجة تغيير مقومات القوة؛ ففي عام ١٩٩٠ تنبأ عالمي الدراسات المستقبلية ألفين وهايدي توفلر بأن جميع هياكل السلطة على مستوى العالم تتجه للتحلل والتفكك نتيجة تغيير مقومات السلطة ذاتها. فبعد أن كانت تستند إلى العنف والثروة، أى سيف المعز وذهبه، أو القوات المسلحة والاقتصاد بالنسبة للدول، صارت تستند كذلك إلى المعلومة التى أصبحت ليست مجرد مكونا من مكونات السلطة فقط، وإنما صارت أهم مكون لها لمرونتها ورخصها وعدم فنائها وتجددها حتى أنها أضحت قوة فى حد ذاتها مما تطلب إعادة دراستها مجددا، فظهر جيل جديد من الأسلحة الأكثر فاعلية والأكثر تدميرا ذاتي التوجية، بفضل دمج السلاح بالكومبيوتر بصور مختلفة، ثم إثراء القوة الافتراضية أو القوة السيبرية أخيرا CYBER POWER بكل ما يرتبط بها من ذكاء اصطناعي، وتطوير أبحاث الإنسان الآلي لدمجه بالإنتاج.
مجمل هذه التحولات أدت إلى سقوط جميع أنواع الحواجز من حياة الإنسان، ومظاهر ذلك عديدة منها سقوط جميع الحواجز الجغرافية والزمنية والسياسية والاقتصادية، وتغير في طبيعة دور الجغرافيا بوصفها مكون من مكونات الأمن القومي، وفشل جميع النظم الثقافية التى تدعى احتكار الحقيقة. وسقطت الحواجز بين الإنسان والآلة، فظهرت مفاهيم جديدة للذكاء الاصطناعي واستخداماته المختلفة.
وترتب على ذلك تأثيرات حادة على وظائف الدولة، منها تشعب وانتشار الوظيفة الكونية للدولة، وظهر تأثير الفاعلون الجدد الأكثر قوة، فاستطاعوا تشكيل سوق رأس المال العالمي، وتشكيل سوق السلع العالمي عبر التجارة الإليكترونية، وسوق العمل الكوني. ويبدو هذا الدور في القدرات الفنية الجديدة المرتبطة بتطورات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وتزايد المكونات غير القومية في نشاطات الدولة وأصبحت مستويات التحليل ثلاثة: كونية وإقليمية ومحلية.
وترتب على ذلك أيضا رد ما هو قومي إلى السمات الجوهرية للمجتمع في الدولة، أي أن الهدف كان إعلاء المجتمع والمواطن الفرد في القانون، والسلطة والهوية والإقليم والأمن والسوق والاقتصاد إجمالا (تحولات المجال العام).
كما أن تغير الفاعلين الدوليين أوضح أن فئة الفاعلين الجدد تشمل مجموعة من الفاعلين الذين لا ينتمون إلى الدولة، بل إلى صور التعاون الدولي والصراعات عابرة الحدود مثل شبكات الأعمال الكونية، وصور المواطنة العالمية للمحافظة على البيئة وشبكات المنظمات غير الحكومية، وفي أماكن مثل المدن الكونية والمجالات العامة العابرة للحدود، ووضح أن نظرية العلاقات الدولية أصبحت قاصرة بتأثير من الربط بين العولمة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة وتحولات القوة في العالم، فالعلاقات الدولية تركز على دور الدولة في النظام الدولي. وهذا النظام أصبح نظاما عولميا، وتزايد دور النشطاء غير المنتمين للدولة القومية وزيادة العمليات العابرة للحدود، وتغيرت كفاءة الدولة للسيطرة على إقليمها ومواطنيها بفعل ظهور القانون الإنساني وإعادة تقنين علاقة الدولة بمواطنيها.
في هذا الإطار من التغييرات الشاملة على كافة المستويات كان لابد أن يشمل التغيير في الدور الإقليمي للدولة مما أدى إلى ارتفاع تكلفة هذا الدور مع ارتفاع درجة عدم اليقين السياسي المرتبطة به وتحقيقة، وهو ما يتطلب في المرحلة الحالية ربط الحركة الخارجية بالمراوحة بين الحفاظ على تأمين حدودها كحد أدنى للحركة وبين التنسيق لضبط إيقاع التطورات في دول الجوار المباشر، وتحديدا في السودان وليبيا والخليج وحماية مصالحها البترولية والغازية في شرق المتوسط، مع الاندماج في دورها العولمي كلما تيسر ذلك، لجعل هذه العولمة أكثر عدالة وأكثر إنسانية كحد أقصى.
هذا الاطار للتحرك يحقق لمصر عدة مزايا أهمها عدم انعزالها عن دورها القومي؛ فمصر لا تملك حق الانعزال عنه، وتأمين حد معقول من حدود الحركة السياسية الإقليمية، والحفاظ على مصالحها داخليا وخارجيا وتأمين دور فاعل في حده الأدنى عالميا.