تمر منطقة شرق إفريقيا بكارثة جديدة ناشئة عن التغيرات المناخية تُضاف إلى مشكلات الجفاف والفيضانات والأعاصير، والتي تتمثل في غزو أسراب هائلة الحجم من الجراد الصحراوي، حيث تجتاح مليارات من هذه الحشرات مناطق شاسعة في شرق إفريقيا وجنوب غرب آسيا والمنطقة المحيطة بالبحر الأحمر. ويُعد الوضع مقلقًا بشكل خاص في إثيوبيا والصومال وكينيا. وقد حددت منظمة الأغذية والزراعة موجة الجراد الصحراوي في شرق إفريقيا بأنها هي الأسوأ من نوعها في إثيوبيا والصومال منذ 25 عامًا، وهي الأسوأ في كينيا منذ 70 عامًا، ووضعتها كإحدى أولوياتها الرئيسية.
وتشهد منطقة شرق إفريقيا انتشارًا للجراد بشكل طبيعي كل عام، لكن من الواضح أن انتشار الجراد الصحراوي ازداد سوءًا هذا العام بسبب حالة التدهور المناخي التي شهدتها المنطقة خلال عام 2019 وما ترتب عليها من تعاقب موجات الجفاف والأمطار الغزيرة والفيضانات. وقد خلقت هذه الأخيرة بيئة دافئة ورطبة مناسبة تمامًا لتكاثر الجراد.
ويعتبر الجراد الصحراوي من أكثر الحشرات المهاجرة تدميرًا في العالم، نظرًا لقدرته على الهجرة عبر مسافات طويلة تتراوح بين 100 إلى 150 كم في اليوم بسرعة 16 كم/ ساعة، وتتزايد أعداده بسرعة مع كل جيل، فتتضاعف 20 مرة بعد ثلاثة أشهر، و400 مرة بعد ستة أشهر، و8000 مرة بعد تسعة أشهر، حيث تضع الجرادة الواحدة حوالي 300 بيضة. ويتغذى الجراد الصحراوي على كميات كبيرة من كل أنواع النباتات الخضراء، بما في ذلك المحاصيل والمراعي والأعلاف، ويمكن لسرب صغير يغطي مساحة كيلومتر واحد أن يأكل نفس كمية الغذاء التي يأكلها 35000 شخص في يوم واحد.
تطور انتشار الجراد: توسع مطّرد
خلقت الفيضانات التي حدثت خلال عام 2019 في دول شرق إفريقيا ظروفًا خصبة لتكاثر الجراد الصحراوي. وقد تفاقم الوضع بسرعة خلال شهر يناير 2020 بعد أن وصل إعصار باوان إلى الساحل الشرقي لإفريقيا في أوائل ديسمبر 2019. كما ستسمح هذه الظروف بمزيد من التكاثر، وقد تؤدي إلى زيادة أعداد الجراد 500 مرة حتى يونيو 2020.
وفي الوقت الحالي تُعاني كلٌّ من كينيا وإثيوبيا والصومال من أسراب الجراد بالفعل، بما يُشكّل تهديدًا خطيرًا للأمن الغذائي في الدول الثلاث، حيث تم تدمير مئات الآلاف من الهكتارات من الأراضي الزراعية. كما انتشر الجراد الصحراوي بدرجة أقل خطورة في جيبوتي وإريتريا والسودان. وأفادت تحديثات مراقبة الجراد بأن جنوب السودان وأوغندا في حالة تأهب قصوى استعدادًا للخطر، حيث تقع أقرب الأسراب على بعد حوالي 200 كيلومتر في كينيا، ويمكن أن يظهر بهما عددٌ قليل من هذه الأسراب في أي وقت خلال الأيام القادمة، وذلك وفقًا لتحديثات شهر يناير من “نشرة الجراد الصحراوي” التي تُصدرها منظمة الأغذية والزراعة (الفاو).
خريطة رقم (1): خريطة توضح أماكن انتشار الجراد الصحراوي حتى يناير2020
المصدر: منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، نشرة الجراد الصحراوي، 3 فبراير2020
ويُذكر أنه بالإضافة إلى الدول الإفريقية، هناك العديد من المناطق الساخنة الأخرى التي يتطور فيها تفشي الجراد الصحراوي (مثل: اليمن، وعمان، والمملكة العربية السعودية، وإيران، وباكستان، والهند)، حيث تشير “فاو” إلى أن انتشار الجراد الصحراوي لن يقتصر على الدول المذكورة، وإنما يزداد احتمال أن يؤدي التكاثر الكبير للجراد الصحراوي خلال الشهور المقبلة إلى وصول مجموعات من الأسراب إلى كل من موريتانيا ومالي والنيجر والجزائر وليبيا والمغرب ومصر، ما لم يتم السيطرة عليهم ومكافحتهم قبل أبريل القادم، حيث من المتوقع أن تتشكل أسراب جديدة في أوائل أبريل، وبحلول ذلك الوقت ستكون عملية السيطرة أصعب بكثير.
الجراد يُهدد الأمن الغذائي في شرق إفريقيا
تُعد منطقة شرق إفريقيا واحدة من أكثر المناطق التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي في إفريقيا بسبب الجفاف والفيضانات والصراع وعدم الاستقرار الاقتصادي، حيث تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 23.6 مليون شخص في المنطقة يواجهون بالفعل نقصًا في الغذاء، وهو ما كان سببًا في تحذير الأمم المتحدة من أن حوالي 8.4 ملايين شخص في إثيوبيا وحدها قد يحتاجون إلى مساعدات غذائية بسبب خسائر المحاصيل من الجراد، حيث تضررت بالفعل مئات الآلاف من الهكتارات من الأراضي الزراعية والمراعي في إثيوبيا وكينيا والصومال مع عواقب وخيمة محتملة في المنطقة التي يُعاني سكانها بالفعل من انعدام الأمن الغذائي.
وفي كينيا قدّرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة أن سربًا واحدًا في كينيا ينتشر على مساحة تقدر بحوالي 2400 كيلومتر مربع، الأمر الذي يعني أنه يمكن أن يحتوي على ما يصل إلى 200 مليار جرادة. ويمكن لسرب بهذا الحجم أن يستهلك كمية طعام في يوم واحد بما يوازي ما يأكله حوالي 84 مليون شخص، وحتى 8 يناير 2020 كان قد تم تدمير نصف مليون هكتار من المراعي وأراضي المحاصيل في شمال وشرق كينيا، وهو الرقم القابل للزيادة. وفي جيبوتي أثّر الجراد على أكثر من 80% من المزارع الرعوية البالغ عددها 700 مزرعة في 23 موقعًا زراعيًّا. كما أثّرت الأضرار المرتبطة بالجراد على إنتاج الخضروات والفواكه، وتوافر الأعلاف للماشية.
وما يزيد الوضع سوءًا أن الدول المنتشر بها الجراد يعتمد اقتصادها بشكل متزايد على الزراعة، وعندما يُدمر الجراد المحاصيل الزراعية سيؤدي ذلك إلى خسارة اقتصادية كبيرة لكلٍّ من المزارعين والمجتمعات الرعوية، ويشكل خطرًا كبيرًا على الأمن الغذائي، مما يؤدي إلى تدهور وضع هو متدهور أصلًا. ومما يُفاقم من الخسائر الاقتصادية المترتبة على اجتياح أسراب الجراد التكلفة الكبيرة لجهود المكافحة، وكذلك تكلفة التعويضات التي ستقدمها الحكومات للمتضررين، فضلًا عن الخسائر التي ستَلحق بالثروة الحيوانية التي تفقد مصدر غذائها الأساسي، ومن ثم يُلقي بظلاله على أداء الاقتصاد الكلي للدول المتضررة. على سبيل المثال، فإن موجة الجراد التي تفشت في شمال إفريقيا بين عامي 2003 و2005 تسببت في إنفاق ما يقرب من 600 مليون دولار للسيطرة عليها، بما في ذلك حوالي 90 مليون دولار من المساعدات الغذائية الموزعة على الدول المتضررة، وتجاوزت خسائر ما بعد الحصاد 2.5 مليار دولار.
مكافحة الجراد الصحراوي: جهود ضعيفة وموارد محدودة
نظرًا لغياب أي استعدادات لدى دول شرق إفريقيا لمقاومة أسراب الجراد، حاول السكان المحليون في الدول المصابة استخدام وسائل بدائية لطرده، كإصدار الضوضاء العالية بإطلاق الأعيرة النارية وضجيج الأبواق، كما حاولت الشرطة المحلية إطلاق قنابل الغاز. لكن باءت كل هذه المحاولات بالفشل، حيث لم يساعد ذلك على ردع الجراد، بل وأدى في بعض الأحيان إلى انتشارها على نطاق أوسع.
وبالنظر إلى حجم الأسراب الحالية، أصبحت وسائل المكافحة التقليدية غير ذات جدوى، وبات التحكم الجوي هو الوسيلة الوحيدة الفعّالة لتشتيت أسراب الجراد، وهو ما جعل دول الإقليم في حاجة ماسّة للدعم الدولي الذي كانت منظمة الفاو أهم مقدميه، حيث تقدم تنبؤات دورية دقيقة بشأن توقيت وموقع الغزوات وحجم التكاثر، كما تسعى “الفاو” إلى حشد التمويل اللازم لتوفير دعم عاجل لعمليات مكافحة الجراد الصحراوي، خاصة في البلدان الثلاثة الأكثر تضررًا (الصومال وكينيا وإثيوبيا).
وفي الوقت الذي قدّرت فيه الفاو الحاجة العاجلة لتمويل عمليات المكافحة بنحو 75 مليون دولار، لم يتم تجميع سوى 15 مليون دولار فقط حتى الآن، الأمر الذي يُنبئ بكارثة حقيقية محدقة بالأمن الغذائي للمنطقة ما لم يتم تجميع المبلغ المطلوب قبل بداية شهر أبريل وقبل انتشار الجيل الجديد من الجراد الذي من المقدر أن يزداد حجمه 500 ضعف عن الجيل الحالي.
وبالإضافة إلى ضعف التمويل، لا تزال تعقيدات الوضع الأمني تعرقل جهود المكافحة في الصومال، فضلًا عن ضعف البنية التحتية الأساسية في العديد من البلدان المصابة، وصعوبة الوصول إلى جميع الحقول التي يتفشى بها الجراد. وإلى جانب أنشطة المكافحة، تحتاج الدول المصابة لمساعدات عينية ومادية لاستعادة سبل عيش المتضررين من غزو الجراد، خاصة في ظل ما تعانيه هذه الدول بالفعل من أوضاع صعبة نتيجة فترات الجفاف الطويلة والفيضانات التي مرت بها، مما أدى إلى تضاؤل قدراتها على زراعة الغذاء وكسب العيش.
ختامًا، فإن الجراد الصحراوي يمثل تهديدًا غير مسبوق للأمن الغذائي وسبل العيش في منطقة شرق إفريقيا، ولديه القدرة على الانتشار على نطاق أوسع مما قد يؤدي إلى تفشي ظواهر الفقر والنزوح والصراعات ما لم يتم اتخاذ تدابير مستدامة للسيطرة والقضاء عليه بصورة عاجلة.