في الوقت الذي تتسابق فيه الشركات الطبية للتوصل لعلاجٍ لفيروس “كورونا”، تلعب تقنيات الذكاء الاصطناعي هي الأخرى دورًا في التنبؤ بمساره، والوقوف على سماته الجينية، والكشف عن المصابين به، وإيجاد العلاج اللازم له، وذلك من خلال تحليل ومعالجة البيانات العلمية الضخمة، وتوظيف تقنيات معالجة اللغة، والتعلم الآلي. فلم يعد التعاطي مع الفيروس مقصورًا على القطاعات الطبية فحسب، بعد أن امتد الأمر إلى كبرى الشركات التكنولوجية أيضًا.
التنبؤ بالفيروس
طورت شركةٌ كنديةٌ ناشئةٌ تُدعى “BlueDot” خوارزمية تحمل الاسم نفسه، لتتبع الفيروس القاتل، وإرسال التحذيرات في الوقت المناسب وبأقصى سرعةٍ إلى منظمة الصحة العالمية والمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، بهدف اتخاذ الإجراءات اللازمة، قبل انتقال المرض إلى مكانٍ آخر. وتستند الخوارزمية إلى محركٍ برمجيٍ قادر على التمييز بين بؤر انتشار الفيروسات والإنذار الكاذب، ما يُتيح للأطباء والمتخصصين متابعة النتائج الصادرة عن الخوارزمية، والإبلاغ المبكر عن التطورات المحتملة.
وتمكّنت تقنيات الذكاء الاصطناعي من التنبؤ بالفيروس قبل انتشاره. ومن هنا، لعب مبرمجو الحواسيب دورًا في الكشف المبكر عنه، بل والتحذير منه. ففي 31 ديسمبر الماضي، وطبقًا لصحيفة Economic Times، أبلغت منصة الصحة الكندية المتخصصة في مراقبة الأمراض المعدية عن مخاطر انتشار الفيروس. كما حذرت عملاءها من السفر إلى مناطق الخطر قبل أن تفرض الحكومات الأجنبية حظر السفر إلى الصين، وقبل أن تتواتر الأنباء عن انتشار الفيروس في 10 يناير (2020).
وقبل أن تشق أنباء الفيروس طريقها إلى وسائل الإعلام العالمية، وقبل امتداد الفيروس إلى مناطق صينيةٍ أخرى وصولًا إلى ما يزيد على 17 دولة حول العالم، ومن خلال بيانات تذاكر شركات الطيران العالمية، تنبأت منصة الصحة الكندية بشكلٍ صحيحٍ بالمناطق والدول التي سينتشر بها الفيروس، والتي وصلت إلى 20 دولةً؛ من بينها: بكين، وبانكوك، وسيول، وتاييه، وطوكيو، والولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية.
وبالإضافة إلى استخدام خوارزمية “BlueDot” للكشف المبكر عن الفيروس، تُستخدم تلك الخوارزمية أيضًا في توقع مناطق انتشاره، وذلك من خلال متابعة التقارير الإخبارية ذات الصلة بشبكات الأمراض الحيوانية والنباتية، بجانب استخراج المعلومات من المنتديات والمدونات، ناهيك عن بيانات تذاكر الطيران التي تساهم وبدقة في تحديد المدن المعرضة للإصابة ومسارات الفيروس المحتملة. وقد اعتمد النظام في تحليله لتلك البيانات على ما يزيد عن 65 لغة.
وجديرٌ بالذكر أن تلك الخوارزمية لا تعتمد على البيانات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، نظرًا لعدم دقتها. كما أن معالجة البيانات المستخلصة لا تتم من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي، وإن خضعت في المقابل للتدخل البشري للتيقن من صحتها؛ فعقب استخلاص البيانات المطلوبة وتحليل البيانات الضخمة، ينظر علماء الأوبئة في النتائج الآلية للتحقق من منطقية الاستنتاجات المستخلصة.
وعلى خلفية ذلك، ترسل الشركة تنبيهاتٍ إلى عملائها في القطاعين العام والخاص، ثم إلى مسئولي الصحة العامة في أكثر من عشر دول بما في ذلك الولايات المتحدة، وكندا، بالإضافة إلى شركات الطيران، ومستشفيات الخطوط الأمامية حيث قد ينتهي المطاف بالمرضى المصابين.
الروبوتات والمكالمات
مع استمرار تفشي الفيروس استُخدمت الروبوتات -التي طورتها الصين بالتعاون مع شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة “بايدو”- لأخذ عينات اللعاب من فم المرضى المشتبه بإصابتهم بفيروس “كورونا”، في محاولة للاستفادة من الذكاء الصناعي في عمليات المكافحة، بدلًا من نقل العدوى من المصابين. فقد استعانت مستشفياتٌ صينيةٌ بروبوتاتٍ قادرةٍ على التعامل مع المرضى وتطهير نفسها ذاتيًّا من أي آثارٍ محتملةٍ للفيروس. ووفقًا للجنة الوطنية للصحة، تستطيع تلك الروبوتات فتح الأبواب وارتياد المصاعد وتجنب العوائق، ما مكّنها من تأدية مهام توصيل الأدوية والطعام للمصابين بإحدى المستشفيات بمقاطعة غوانغدونغ، بجانب تغيير وجمع فُرُش الأسرة والمخلفات الطبية الخطرة.
وبالإضافة لذلك، استخدمت السلطات الصينية المعدات التي تعتمد على القيادة الذاتية وآلات الشحن الذاتي للحد من أعباء الأطقم الطبية من ناحية، ومخاطر انتقال العدوى من ناحيةٍ أخرى. وتتجلى أهمية تلك الروبوتات بالنظر إلى خطورة إصابة الأطقم الطبية بالفيروس أثناء تصديهم له ومداواة المصابين. وطبقًا لصحيفة “ديلي ميل” البريطانية، يمكن لتلك الروبوتات إرسال الأدوية للمصابين بدلًا من الأطباء والممرضين، وهو ما يحدّ من حاجتهم لمغادرة الحجر الصحي.
وقد تولت أكاديمية العلوم الصينية وعددٌ من الخبراء في بعض الهيئات الحكومية الصينية تصميم الروبوتات التي يتم التحكم فيها عن بعد، بحيث يمكن أخذ عينات اللعاب من فم المريض باستخدام مسحة قطنية خاصة. ولم تتوقف الصين عن الاستفادة من الذكاء الصناعي عند ذلك، ولكنها أنشأت ما سُمّي نظام “تسانغشان الذكي”. وعلى خلفيته، تلقى عددٌ من المواطنين في حي “تسانغشان” (بمدينة فوتشو بمقاطعة فوجيان بجنوب شرقي الصين) سلسلةً من المكالمات الهاتفية، التي تضمنت أسئلةً من قبيل: هل اتصلت مع حالات فيروس كورونا مؤكدة؟ هل لديك أعراض مثل السعال والحمى؟
وفي هذا الإطار، قال نائب مركز تسانغشان الذكي “لين هوي” إن منصة الذكاء الاصطناعي ستُجري مكالماتٍ هاتفية فردية لمجموعاتٍ بعينها، لجمع المعلومات اللازمة لكتابة التقارير ورفعها للمسئولين. ووفقًا له، تستطيع الروبوتات إجراء أكثر من 5000 مكالمةً هاتفيةً في الساعة، ما يُحسّن بشكلٍ كبيرٍ من قدرة الصين على مراقبة المرض، والوقوف على صحة المواطنين، وتقديم التوجيه للمرضى المحتملين. وقد تمت تجربة الأمر بالفعل لمدة يومين، وأُجريت 30 ألف مكالمة للمقيمين.
تدابير الكشف والعلاج
عمل مركز علوم وهندسة النظم بجامعة جون هوبكنز الأمريكية على تطوير منصة معلومات على شبكة الإنترنت لتتبع الحالات المصابة على مدار الساعة، وتوفير خرائط تفاعلية ترصد حالات الإصابة المؤكدة والوفيات والمتعافين من العدوى. كما تشترك المؤسسات التكنولوجية مع شركات الأدوية والمراكز البحثية في جهود إنتاج مصلٍ فعال لفيروس “كورونا”، عبر الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي المتخصصة في مجال الجينوم، والتي تتيح الوصول السريع للنمو الجيني للفيروس، من خلال استخدام أساليب تشخيصية متقدمة.
وفي هذا السياق، أعلنت مجموعة G42 الإماراتية المتخصصة في مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية عن اتخاذها إجراءاتٍ فورية للمساعدة في الكشف عن عدوى الفيروس وعلاجه والوقاية منه في أقرب وقتٍ ممكن، من خلال ممارسات الرعاية الصحية ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي، تماشيًا مع إعلان ولي عهد أبو ظبي “الشيخ محمد بن زايد آل نهيان” استعداد الإمارات لدعم الصين والمجتمع الدولي للتصدي للفيروس.
وتعتمد مجموعة G42 على خبرتها في مجال الجينوم للتوصل للنمط الجيني للفيروس، من خلال استخدام مجموعات التشخيص المتقدمة المحمولة التي يمكن أن تساعد في تحديد تسلسل الكواشف، وصولًا إلى إيجاد علاج لاحتوائه. وتعمل المجموعة أيضًا -إلى جانب الجهات الرسمية- على حماية الحدود ومنع انتشار الفيروس محليًّا، مستفيدةً من البنية التحتية السحابية ومنصة الذكاء الاصطناعي لدعم تخزين البيانات وتوفير تحليلات للبيانات المتقدمة عن تطور الفيروس.
وقد صرّح “بينج تشاو”، الرئيس التنفيذي للمجموعة، أنه “مع استمرار حالة الطوارئ المتزايدة بخصوص انتشار الفيروس، شعرنا بمسئوليتنا عن توفير خبراتنا ومواردنا لأولئك الذين يحتاجون إلى المساعدة في تخفيف هذا الوضع، حيث يعمل فريقنا عن كثب مع شركائنا من أجل دعم السلطات الصينية والأجنبية، في محاولة تهدف إلى الحدّ من انتشار المرض واكتشاف علاجٍ له في أقرب وقتٍ ممكن”.
وبالإضافة إلى ذلك، استخدمت شركة Insilico Medicine (وهي شركة ناشئة مقرها روكفيل بماريلاند) الذكاء الاصطناعي لتحديد الجزيئات التي يمكن أن تشكل أساسًا لعلاجٍ فعالٍ ضد فيروس “كورونا”، بعد أن حددت الشركة في أربعة أيام آلاف الجزيئات الجديدة التي قد تتحول إلى أدويةٍ محتملةٍ ضد الفيروس، وذلك من خلال تقنيات التعلم الآلي. وتختبر الشركة مئات الجزيئات المحتملة، لتضعها في تجارب سريريةٍ بشريةٍ في أقل من أسبوعين. وتتجلى أهمية ذلك بالنظر للسنوات التي تستغرقها تلك العملية عادةً.
ومنذ 31 يناير الماضي، بدأت الشركة في استخدام 28 نموذجًا مختلفًا للتعلم الآلي ليولد الذكاء الاصطناعي جزيئاتٍ صغيرة جديدة قد تفيد في العلاج عبر توليفاتٍ عدةٍ بين مختلف العناصر التي قد تُشكِّل أساسًا للمستحضرات الصيدلانية، والتنبؤ بنتائج التجارب السريرية. وقد نشرت الشركة أبحاثها وتصاميمها لجميع جزيئاتها ذات الفائدة المحتملة على موقعها الإلكتروني. ولدى الشركة شراكاتٍ مع شركة الأدوية الصينية العملاقة لتساعدها في العثور على جزيئات الدواء الجديد المحتمل.
أبرز الدلالات
تتصاعد حدة القلق والمخاوف عالميًّا من سرعة انتشار فيروس “كورونا”، ومع ارتفاع عدد الحالات المصابة إلى مئات الحالات، ثار تساؤل عن قدرة تقنيات الذكاء الاصطناعي على مواجهة ذلك الفيروس. وبالفعل، لجأ العلماء في منظمة الصحة العالمية ومركز السيطرة على الأمراض لتتبع انتشاره عبر نظام الذكاء الاصطناعي Bluedot، الذي تنبأ منذ الأيام الأولى بانتشار المرض من منبعه في مدينة ووهان إلى مدن بانكوك، وسيول، وتايبيه، وطوكيو، وهو ما حدث بالفعل.
ويُعد عنصر الوقت أحد أهم العناصر في مواجهة الأمراض الوبائية؛ فكلما توفرت المعلومات سريعًا، اتخذ المسئولون الاحتياطات اللازمة لمواجهة انتشار الفيروس. وعلى الرغم من ذلك، لم تتجه الصين في بداية الأمر لمشاركة المعلومات المتاحة عن المرض، كما حدث سلفًا مع وباء “سارس” في عام 2003، متسببًا في مقتل ما يزيد عن 700 شخص. ومع اعتماد مسئولي الصحة العامة في منظمة الصحة العالمية ومركز السيطرة على الأمراض CDC على الصين لمتابعة انتشار الفيروس، قد يكون الذكاء الاصطناعي هو الحل الأسرع لمشاركة البيانات المتاحة.
في هذا الإطار، قال مؤسس BlueDot ومديرها التنفيذي “كمران خان” يصعب الاعتماد على الحكومات لتوفير المعلومات في الوقت المناسب؛ لذلك نستخدم المنتديات الصغيرة والمدونات لمتابعة تطورات الأحداث غير العادية. وبذلك تصبح تقنيات الذكاء الاصطناعي بديلًا عن المعلومات التي ترفض الحكومة الصينية إتاحتها أو الإدلاء بها لاعتباراتٍ عدة.
“خان” سبق أن عمل أخصائيًا للأمراض المعدية في مستشفيات تورنتو خلال تفشي وباء سارس، بعد أن انتشر في إحدى مقاطعات الصين، ثم في هونغ كونج، وصولًا لتورونتو. ومنذ ذلك الحين، أطلق “خان” خوارزمية “بلو دوت” في عام 2014، وجمع تمويلًا قدره 9.4 ملايين دولار لتطويرها. ومع التقدم التقني والتكنولوجي الهائل منذ ذلك الحين، يأمل “خان” وغيره في توظيف الوسائل والتقنيات الأكثر تطورًا لمكافحة الفيروس.
ولا شك أن حالة الطوارئ العالمية الناجمة عن انتشار الفيروس تختبر إلى حدٍّ كبيرٍ التقنيات الطبية الحيوية الجديدة، والمنظمات الدولية، وهيئات التمويل الجديدة، سعيًا لتقليل الوقت الذي يستغرقه إنشاء وتطوير لقاحاتٍ وأدويةٍ جديدةٍ لمكافحة الأوبئة الناشئة.
ختامًا، يمكن القول إن عشرات الدول تستفيد من تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات والتقارير المستخلصة، ناهيك عن المطارات والمستشفيات، ما يؤكد أهمية تلك التقنيات وبخاصة مع تراجع الثقة بالأرقام والتصريحات الحكومية الرسمية عبر العالم. وهي التقنيات التي لا تستخدم في كشف الحقائق وتوقع المسارات المحتملة فحسب، ولكن في إيجاد الحلول الطبية وعلاج الفيروس أيضًا، وهو ما تعمل عليه بالفعل شركاتٌ رائدةٌ في مجال الذكاء الصناعي رغم ارتفاع التكلفة المادية.