تُشير السجالات والخطابات الحادة بين قادة الأحزاب الإسرائيلية على وسائل الإعلام الصحفية والتليفزيونية في الساعات الماضية، إلى أن انتخابات الكنيست الـ23 لم تنتهِ بعد، وأن الجميع لا يزالون يحاولون كسب التأييد من أجل تعظيم فرصهم في تشكيل حكومة ائتلافية وإكسابها صفة الشرعية. هذا هو المشهد العام في إسرائيل منذ إعلان نتائج الانتخابات العامة رسميًّا (5 مارس 2020). ويبرز في هذا المشهد زعماء أحزاب الليكود، وأزرق أبيض، ويسرائيل بيتينو، وهم: بنيامين نتنياهو، وبيني جانتس، وأفيجدور ليبرمان، على الترتيب.
في 5 مارس اتّهم “ليبرمان” “نتنياهو” بأن الأخير يقصد تشويه صورته قانونيًّا من خلال تقديم مذكرات اتهام ضده (أي ضد ليبرمان)، وتشويه صورته أمام ناخبيه بأنه يتعاون مع الأحزاب العربية (القائمة المشتركة) من أجل إسقاط “نتنياهو”. أما “نتنياهو” فقد ظهر أمام الإسرائيليين في بيان إعلامي (7 مارس 2020) يتهم فيه حزب “أزرق أبيض” بزعامة “بيني جانتس” بالتواطؤ مع الأحزاب العربية في إقصاء “نتنياهو” من الحياة السياسية في إسرائيل. وفي اليوم نفسه رد “جانتس” الاتهام باتهام “نتنياهو” بأنه المسئول الأول عن التعاون مع الأحزاب العربية. وبذلك أصبحت الأحزاب العربية في إسرائيل (التي حصلت على 15 مقعدًا بزيادة مقعدين اثنين عن انتخابات سبتمبر 2019) هي “كرة النار” التي تتقاذفها الأحزاب الإسرائيلية المتصارعة على تشكيل الحكومة.
جميع السيناريوهات تؤدي إلى القائمة المشتركة
يمكن وصف القائمة المشتركة (تكتل الأحزاب العربية في إسرائيل) بثاني أكبر رابح (بعد حزب الليكود) في انتخابات الكنيست 23؛ بسبب حصولها على 15 مقعدًا مقارنة بـ13 مقعدًا في الانتخابات قبل الماضية (سبتمبر 2019). وتعود هذه الزيادة إلى عاملين اثنين: الأول، الزيادة الملحوظة في عدد الناخبين العرب الذين تقدموا بالإدلاء بأصواتهم بزيادة تقترب من 4%. الثاني، الزيادة الملحوظة في عدد الناخبين اليهود الذين منحوا أصواتهم للقائمة المشتركة، والذين وصل عددهم إلى ما يقرب من 20 ألف يهودي، وهو الارتداد العكسي الذي طرأ على المجتمع اليهودي جراء الإعلان عن خطة السلام الأمريكية. هؤلاء الإسرائيليون الذين يرفضون خطة السلام الأمريكية التي قدمها الرئيس الأمريكي “ترامب” عبّروا عن رفضهم بالتصويت للقائمة المشتركة. وبذلك باتت القائمة المشتركة بمثابة “عقدة” في المشهد السياسي الإسرائيلي، ورقم فاعل في معادلة تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة.
إذ يمكن القول إن جميع سيناريوهات تشكيل حكومة إسرائيلية يجب أن تمر من خلال القائمة المشتركة. ويمكن توضيح هذه المسارات فيما يلي:
1- سيناريو إقصاء “نتنياهو” من المشهد السياسي
حصل حزب الليكود في هذه الانتخابات على 36 مقعدًا (وهو الرابح الأول كما أشير سابقًا)؛ لأنه قد حصل في الانتخابات قبل الماضية (سبتمبر 2019) على 32 مقعدًا فقط ليحتل المركز الثاني بعد حزب أزرق أبيض، وبذلك فشل في تشكيل حكومة.
لكن من ضمن أدوات الضغط على “نتنياهو” (من أجل تقليل فرصه في تشكيل حكومة) التي يعتمدها معسكر “الوسط – اليسار” الذي يجمع أحزاب: أزرق أبيض، وحزب يسرائيل بيتيتنو بزعامة ليبرمان، وتكتل العمل-ميرتس-جيشر؛ هو تحقيق سيناريو إقصاء “نتنياهو” من الحياة السياسية قانونيًّا عبر تقديم مشروع قانون للكنيست يمنع أي عضو كنيست مُدان في قضايا اتهام من تشكيل حكومة، وهو قانون موجه شخصيًّا ضد “نتنياهو”، وهو ما قد لا تسمح به لوائح الكنيست في سن القوانين (التي تخرج ضمنيًّا ضد أشخاص بعد الانتخابات مباشرة)، ولكنه يبقى سيناريو مطروحًا بقوة ويجب في النهاية أثناء التصويت على مشروع القانون أن يوافق عليه أعضاء القائمة المشتركة، ليشكلوا أغلبية في الكنيست تصل إلى 62 عضوًا من أصل 120.
2- سيناريو تشكيل حكومة أقلية بين معسكر الوسط – اليسار و”ليبرمان”
قد ينجح “ليبرمان” (زعيم حزب يسرائيل بيتينو) و”بيني جانتس” (زعيم حزب أزرق أبيض)، بالإضافة إلى تكتل العمل-ميرتس-جيشر، في تحقيق الشروط النهائية التي بموجبها يشرعون في تشكيل حكومة أقلية بعدد أعضاء يبلغ 47 عضوًا. ومن ثم، تحتاج هذه الحكومة إلى القائمة المشتركة (15 مقعدًا) للتصويت بالموافقة عليها من أجل أن يتم التصديق عليها في الكنيست وتبدأ أعمالها.
كما سترتهن الحكومة الإسرائيلية الجديدة حسب هذا المسار في جميع قراراتها التي تمر من خلال الكنيست للتصويت بالموافقة من قبل القائمة المشتركة، وإلا سقطت عنها الأغلبية، وهو ما يضع “نتنياهو” في مأزق سياسي معقد ينفي عنه الانتصار “الكبير” الذي حققه من نتائج الانتخابات، ويقلل من فرصه في تشكيل حكومة يمينية، تضمن له البقاء بعيدًا عن السجن.
“نتنياهو” في مأزق.. إذن الدولة اليهودية في خطر
بهدف حل هذا التعقيد الذي اعترى تحركات “نتنياهو” السياسية، تبنى الأخير خطابًا سياسيًّا اعتمد فيه على مجموعة من العناصر التي تحل الأزمة التي تواجه حزبه الذي يمثل بدوره قاطرة حزبية للأحزاب اليمينية المتطرفة في إسرائيل. ويمكن الإشارة إلى هذه العناصر فيما يلي:
1- شيطنة المعسكر المنافس: لا يرى “نتنياهو” أن هناك 62 مقعدًا هي مجموع مقاعد الأحزاب المنافسة في معسكر الوسط-اليسار، تضمن لهم أغلبية في الكنيست حتى ولو شابها بعض التصدعات الأيديولوجية؛ ولكنه (أي نتنياهو) يرى أن الانتخابات الأخيرة ما هي إلا استفتاء على استمراره من عدمه رغم قضايا الاتهام التي تلاحقه.
لذا يُلاحَظ في خطاب “نتنياهو” (الذي أذاعه في 7 مارس 2020) استمراره في الإشارة إلى عدد المصوتين لحزب الليكود الذي يقود الأحزاب اليهودية اليمينية التي تعمل على بقاء إسرائيل. بجانب إشارته إلى أن الأحزاب المنافِسة (بالتحديد ليبرمان وجانتس) “يسرقون” إرادة الإسرائيليين، وهي مصطلحات لا تعكس سياسات تنافسية طبيعية خاصة بعد الانتخابات، بل تعكس تحركات غير قانونية.
2- الدولة اليهودية في خطر: لم يُشر “نتنياهو” في خطابه إلى نيته خدمة دولة “يهودية-ديمقراطية”، بل اكتفى بالإشارة إلى أنه يعمل على إنقاذ الدولة اليهودية، وأن يهودية إسرائيل في خطر في ظل تحركات ليبرمان وجانتس التي تحاول إقصاء “نتنياهو” من الحياة السياسية.
ويهدف “نتنياهو” من هذا الخطاب (أي الدولة اليهودية في خطر) إلى أمرين اثنين: الأول، هو إحباط محاولات “ليبرمان” و”جانتس” تقديم مشروع القانون الذي يمنع “نتنياهو” من تشكيل الحكومة، واعتباره عملًا منافيًا للقيم اليهودية. الثاني، هو محاولة شق الصف داخل الأحزاب المنافسة، خاصة داخل حزب “أزرق أبيض” الذي يحمل بعض الأفكار المتطرفة من قبل بعض المنتسبين إليه، بما يُنتج انشقاق بعض أعضاء الأحزاب المنافسة (مثل أزرق أبيض) في الوقت الحالي والانضمام إلى الليكود، وهو ما حدث بالفعل سابقًا. كما يتضح في مستجدات الاجتماعات التي تنعقد داخل حزب “أزرق أبيض” ظهور اختلاف في وجهات النظر حول مسألة الاتفاق بين “أزرق أبيض” والقائمة المشتركة، إذ خرجت أصوات ترفض هذا الاتجاه.
3- شيطنة القائمة المشتركة: يدرك “نتنياهو” حيوية الدور الذي قد تلعبه القائمة المشتركة في ترتيب المشهد السياسي في إسرائيل، والذي لن يتقاطع مع مصالح “نتنياهو” بالطبع. لذا حرص “نتنياهو” في خطابه على شيطنة القائمة من خلال: 1- نسبها إلى الفصائل الفلسطينية في غزة مثل حماس والجهاد الإسلامي. 2- التأكيد على سعيها لإحباط تنفيذ خطة السلام الأمريكية. 3- التأكيد على سعيها لإقامة دولة فلسطينية.
ختامًا، يمكن القول إن المشهد السياسي في إسرائيل يضم مسارين رئيسيين؛ الأول: يتضمن سعي أحزاب تميل إلى تيارات الوسط واليسار، بالإضافة إلى حزب “ليبرمان” العلماني، إلى إحباط أي تحرك سياسي لنتنياهو، حتى بات يمكن وصفهم بالمعسكر “المناهض لنتنياهو” anti- Netanyahu، وذلك رغم أن هذا النمط يُعد السبب الأول في تقلص حظوظهم في كسب مقاعد أكثر مقارنة بالانتخابات السابقة. أما المسار الثاني فيتضمن سعي “نتنياهو” إلى صد جهود المعسكر الأول، والعمل على الجلوس على كرسي رئاسة الحكومة حتى لو انتهت ولايتها، فقط ضمانًا لعدم إعلان وثيقة الاتهام ومن ثم دخوله السجن.
لذا، يمكن القول كذلك إن هناك مؤشرات تتراكم لتزيد من تعقد المشهد تتشابه مع تلك التي سبقت الانتخابات (أي بعد إعلان نتائج انتخابات سبتمبر 2019) لا تمنع من حدوث انتخابات رابعة، لكن في هذه الحالة ستكون نتائجها في صالح “نتنياهو”، وستقلل من حجم حزبي “بيني جانتس” (أزرق أبيض) و”ليبرمان” (يسرائيل بيتينو).
باحث بوحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية