من المتوقع أن يؤدي تنفيذ منطقة التجارة الحرة الإفريقية -في ظل سيناريو تحرير الرسوم الجمركية بنسبة 100٪ على تجارة السلع- إلى تحقق العديد من المكاسب للقارة الإفريقية، يتمثل أبرزها في زيادة إجمالي العمالة بنسبة 1.2٪، مع زيادة تتراوح بين 1 – 3٪ في الناتج المحلي الاجمالي، بالإضافة إلى تحقيق مكاسب في الرفاهة بقيمة 16.1 مليار دولار، فضلًا عن الزيادة المتوقعة في حجم التجارة البينية الإفريقية بنسبة 33٪، والانخفاض في حجم العجز التجاري بنسبة تصل إلى50٪.
لكنّ تحقيق هذه المكاسب يظل مرهونًا بقدرة الدول الإفريقية مجتمعة على التغلب على مجموعة من التحديات التي تواجه جهود التكامل في القارة، والتي يمكن تقسيمها إلى نوعين من التحديات: تحديات تقليدية، مثل ضعف البنية التحتية، وتشابه هياكل الإنتاج، والصراعات المسلحة والإرهاب، وتحديات أخرى جديدة فرضتها ظروف استثنائية مثل: إغلاق الحدود، ورُهاب الأجانب Xenophobia. في الفترة الأخيرة حمل النوع الثاني من التحديات أهمية متزايدة ألقت بظلالها السلبية على آفاق التكامل الاقتصادي بين دول القارة الإفريقي، خاصة بعد أن ظهر هذا النوع من التهديدات في الدول الإفريقية الرائدة التي تمثل القوى الاقتصادية الأهم في إفريقيا جنوب الصحراء، وهما نيجيريا وجنوب إفريقيا.
إغلاق الحدود بين الدول الإفريقية
كانت نيجيريا قد قررت تمديد إغلاق حدودها البرية حتى 31 يناير 2020، وفقًا لوثيقة رسمية صدرت يوم الأحد 3 نوفمبر 2019. وكانت نيجيريا قد أغلقت حدودها البرية مع كلٍّ من بنين والنيجر والكاميرون في شهر أغسطس 2019، لتصبح بذلك آخر دولة إفريقية تغلق حدودها، بعد ثلاثة أشهر فقط من توقيعها على اتفاقية التجارة الحرة القارية الإفريقية. وجاء هذا القرار في إطار محاولة نيجيريا للحد من تهريب البضائع، وعلى وجه الخصوص الوقود والمواد الغذائية مثل الأرز والطماطم والدواجن، بالإضافة إلى منع الأنشطة غير القانونية، فضلًا عن رغبة نيجيريا في تحفيز صناعتها الزراعية المحلية. ويرجع البعض السبب وراء إغلاق نيجيريا لحدودها إلى محاولتها استعادة مكانتها الإقليمية، خاصة بعد الإهانات التي تعرضت لها في الفترات الأخيرة من قبل دول إفريقية أخرى، بما فيها غانا التي تغلق منذ شهور محلات النيجيريين المقيمين بها، وجنوب إفريقيا التي اندلعت بينهما أعمال عنف مطلع شهر سبتمبر 2019، والتي سميت بـ”هجمات رُهاب الأجانب” وتسببت في زيادة حدة التوترات بين جنوب إفريقيا ونيجيريا، وتم على إثرها حرق ممتلكات النيجيريين في جنوب إفريقيا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن إغلاق الحدود في القارة الإفريقية ليس بالأمر الجديد. ففي وقت سابق من عام 2019 أغلقت السودان حدودها مع ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى، وعلقت كينيا في يونيو التجارة العابرة للحدود مع الصومال لأسباب أمنية، بينما تسعى غينيا الاستوائية إلى بناء جدار على طول حدودها مع الكاميرون. وكانت رواندا قد أغلقت معبرًا حدوديًا مزدحمًا مع أوغندا في فبراير 2019، متهمة جارتها بمضايقة مواطنيها ودعم جماعات المتمردين ضد حكومة كيغالي. كما أغلقت رواندا حدودها أيضًا مع الكونغو الديمقراطية خوفًا من تفشي فيروس إيبولا. وفي السياق نفسه، أغلقت حكومة إريتريا العديد من النقاط الحدودية مع إثيوبيا، في أبريل 2019، بعد مرور عام تقريبًا على احتفال الإثيوبيين والإريتريين بإعادة فتح حدودهم، دون إعطاء جارتها أي تفسيرات رسمية.
“رُهاب الأجانب”
شهدت جنوب إفريقيا مطلع شهر سبتمبر 2019 هجمات راح ضحيتها ما لا يقل عن 12 شخصًا بينهم أجنبيان، أُطلق عليها “هجمات رُهاب الأجانب”، وأدت إلى زيادة حدة التوترات بين جنوب إفريقيا وبعض الدول الإفريقية، خاصة نيجيريا التي أبدى العديد من سكانها ردود فعل عنيفة، حيث شنوا عدة هجمات انتقامية على الشركات الجنوب إفريقية العاملة في السوق النيجيرية كرد فعل على هجمات “رُهاب الأجانب” التي ظنوا أنها استهدفت نيجيريين.
ومن بين تلك الشركات التي تعرضت للهجمات كانت سلسلة متاجر Shoprite، وشركة Pepkor لبيع الملابس التي أغلقت نحو 21 متجرًا في لاغوس، وشركة MTN، أكبر شركة للهواتف المحمولة في البلاد والتي تعرضت منافذها للهجوم في ثلاث ولايات نيجيرية، وقررت إغلاق جميع منافذها في نيجيريا لحين انتهاء الأزمة. وعلى إثر هذه التطورات قامت الحكومة النيجيرية باستدعاء سفيرها بجنوب إفريقيا، والإخلاء الطوعي لأكثر من 600 مواطن نيجيري في جنوب إفريقيا.
وعلى الرغم من أنه لم يُقتل أي نيجيري في هجمات كراهية الأجانب، التي بدأت في الأول من سبتمبر 2019، إلا أن 118 نيجيريًا قُتلوا بين عامي 2015 و2016 في جنوب إفريقيا، كما قُتل 88 نيجيريًّا إضافيًّا منذ ذلك الحين وحتى عام 2018. وخلال الفترة من يناير حتى يونيو 2019 قُتل نحو 10 نيجيريين على أيدي شرطة أو مواطنين من جنوب إفريقيا، الأمر الذي ساعد على تأجيج مشاعر النيجيريين تجاه المواطنين الجنوب إفريقيين، وهو ما يبرر الغضب والعنف في الرد على الهجمات الأخيرة.
وعلى صعيد آخر، فإننا في الواقع لا نستطيع أن نغفل أثر التوترات الاقتصادية المتصاعدة وعدم المساواة المتزايد والحروب الطبقية بين الفقراء والأغنياء التي تغذيها إخفاقات القيادة السياسية في كلا البلدين على هذه الأحداث الأخيرة، حيث يعاني كل من نيجيريا وجنوب إفريقيا، وهما أكبر الاقتصادات في إفريقيا جنوب الصحراء، من ارتفاع نسبة البطالة التي تبلغ 29%، وتصل إلى 56.5% بين الشباب في جنوب إفريقيا، فضلًا عن وقوع أكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر، بينما بلغ معدل البطالة في نيجيريا 23%، ووصلت نسبته بين الشباب إلى 38%، وأشارت تقارير إلى أن نحو 90 مليون نيجيري يقعون تحت خط الفقر وهو أكبر عدد من الفقراء تحتوي عليه دولة في العالم.
ولم تكن تلك الهجمات هي الأولى من نوعها في جنوب إفريقيا، حيث وقع أكثر من 500 هجوم خلال الفترة (1994-2018)، وبلغت ذروتها في عام 2008 حيث أودى أكثر من 100 هجوم بحياة 62 شخصًا، كما وقع أكثر من 70 هجومًا في عام 2015، ونتج عن تلك الهجمات نزوح الآلاف من المهاجرين الأفارقة ونهب متاجرهم وشركاتهم التجارية. وفي هذا السياق، تم تسجيل أكثر من 40 حادثًا في النصف الأول من عام 2019، أكثر من نصفها وقع في جوهانسبرغ.
وقد أثرت هجمات الكراهية على جميع المهاجرين الأفارقة بجنوب إفريقيا، من ملاوي وزيمبابوي وموزمبيق وكينيا والصومال وإثيوبيا ونيجيريا، وظل كره الأجانب مصدر قلق دائمًا في العلاقات بين جنوب إفريقيا وتلك الدول وتحديدًا نيجيريا التي تنافست معها لسنوات طويلة في الحصول على مكانة “الاقتصاد الرائد في القارة”.
وعلى الرغم من تكرار هجمات العنف التي تنم عن كراهية الأجانب، لم تبذل حكومة جنوب إفريقيا جهدًا كبيرًا للتصدي لهذه الهجمات، باستثناء إصدار خطة عمل وطنية لمكافحة كراهية الأجانب في 25 مارس 2019. وتشمل التدابير المطروحة في الخطة دمج المهاجرين، وتحسين إنفاذ القانون، والتربية المدنية، وزيادة وصول المهاجرين إلى الحقوق الدستورية، ولكن لم تدخل تلك الخطة مرحلة التنفيذ بعد.
مستقبل التكامل الإفريقي في ظل التحديات الجديدة
يُعد إغلاق نيجيريا لحدودها تحديًا واضحًا لأحكام اتفاقية التجارة الحرة لإفريقيا (AfCFTA) التي التزمت بها منذ بضعة أشهر فقط، والتي تنص على إزالة القيود الجمركية أمام حركة التجارة بين الدول الأعضاء في المنطقة، وإلغاء الحواجز غير التعريفية، وحرية حركة الأفراد، فضلًا عن رفع مستوى التبادل التجاري الداخلي في القارة. كما يضع هذا الإغلاق علامات استفهام حول إمكانية تحقيق التكامل الاقتصادي المنشود للقارة الإفريقية، خاصة أن نيجيريا هي أكبر اقتصاد في إفريقيا، والأسوأ من ذلك أن هذا الإجراء انتهجته دول إفريقية أخرى وقّعت على الاتفاقية ذاتها، مما يُعطي مؤشرًا حول مواقف الدول الإفريقية تجاه التكامل الاقتصادي واستعدادها الحقيقي لتقبل التجارة في “منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية” التي ستنطلق في الأول من يوليو 2020. فنيجيريا -على سبيل المثال- لم توقِّع على اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية إلا بعد سلسلة من المفاوضات من جانب الاتحاد الإفريقي وقادة الدول الإفريقية، ومشاورات طويلة مع نقابات مختلفة داخل نيجيريا.
علاوة على ذلك، فإن مثل الاعتداءات على الاجانب تعرقل جهود التنمية في القارة الإفريقية، وتبعد أكبر اقتصادين في إفريقيا عن قيامهما بدورهما، وتضيع على البلدين معًا فرص شراكة ستكون مفيدة لهما وللمنطقة برمتها، خاصة في ظل توجه القارة الإفريقية نحو المضيّ قدمًا في إنشاء منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية لتحقيق تكامل اقتصادي للقارة. فكيف ستأمن القوة العاملة الإفريقية الانتقال للعمل في بلد يخرب أهله منشآتهم، ويحرقون منازلهم، ويعرضون حياتهم للخطر، والسبب في ذلك ليس حروبًا أهلية أو إرهاب وإنما هو نوع آخر من التحديات تحت اسم “رُهاب الأجانب” الذي لا ينفك يعطي ذات النتائج الكارثية على الاقتصاد، لذا سيكون أمام جنوب إفريقيا تحديات عديدة لإنشاء مجتمع إنساني وعادل للجنوب إفريقيين والمهاجرين من القارة الإفريقية على حد سواء.
كل هذا يؤكد أن هناك تحديات كبيرة ومشاكل أساسية يجب معالجتها كي تنجح منطقة التجارة الحرة الإفريقية، وأنه لا يوجد لدى بعض الدول التزام سياسي قوي، أو الترتيبات المؤسسية اللازمة للانخراط في منطقة تجارة حرة تجمع كل الدول الإفريقية، والحاجة إلى وضع لبنات تعاون سليم لمستقبل أفضل للقارة.
وأخيرًا، إذا كانت الحكومات الإفريقية ملتزمة حقًا بنجاح اتفاقية التجارة الحرة لإفريقيا، فإنها ستحتاج إلى إظهار جدية الإرادة السياسية لحل النزاعات التجارية من خلال الحوار بدلًا من القيود التجارية الأحادية، وأن مشاكل مثل “إغلاق الحدود” و”رُهاب الأجانب” باتت ضرورة يتعين على الاتحاد الإفريقي التدخل لحلها في أسرع وقت ممكن، حرصًا على استمرار جهود التكامل الاقتصادي في القارة. كما ينبغي على القادة الأفارقة أن يُعيدوا النظر فيما يفكرون به ويتقبلوا التغيير ويُظهروا أنهم يؤمنون حقًا بإمكانيات السوق القارية في المساهمة في الرخاء والتنمية للدول الإفريقية على المدى الطويل. وفي نهاية المطاف، فإن التحديات الجديدة التي فرضت نفسها على ساحة التكامل تضعنا أمام حقيقة مفادها أن توقيع اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية لا يمثل سوى نقطة البداية، وأن العمل الحقيقي يأتي بعد ذلك، فالرغبة في النجاح لن تكون كافية وحدها، ما لم تقترن بجهود صادقة.