توجد أحداث فارقة في التطور الناظم للعلاقات بين الدول، ومقدمة لتغير طبيعة النظام الدولي القائم. وقد مثلت الحرب العالمية الثانية نهاية لمرحلة التعددية القطبية (الأوروبية) وبداية لمرحلة جديدة للنظام الدولي اتسم فيها بالثنائية القطبية فيما عُرف باسم الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، مرحلة استمرت لأكثر من أربعة عقود، وانتهت بحدث جلل هو الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفيتي لتنتهي مرحلة وتبدأ مرحلة جديدة من الأحادية القطبية، حيث تقود الولايات المتحدة الأمريكية العالم منذ التسعينيات من القرن الماضي بدرجات مختلفة من الهيمنة على العالم. ومع هجوم فيروس كوفيد-19 على البشرية تبدأ أزمة عالمية لتُمثل حدثًا يغير العديد من الخصائص في طبيعة النظام العالمي القائم وتوازناته كما تشير التقديرات المختلفة.
لقد اهتمت الدوائر البحثية الكبرى بالتداعيات المحتملة لأزمة فيروس كوفيد-19 على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية، وتم استطلاع رأي العديد من الخبراء المتخصصين والسياسيين البارزين لتقدير هذه التداعيات المحتملة على مستقبل العلاقات الدولية، وعلى طبيعة النظام العالمي. وكانت هناك فوارق محدودة في تقديراتهم، لكن كان هناك العديد من المساحات المشتركة في هذه التقديرات النابعة من إشكاليات كبرى كشفتها هذه الأزمة.
أولًا- جدلية العلاقة بين الأمن والحرية
إن القيمة العليا في الثقافة الليبرالية هي “الحرية” وتحديدًا حرية الفرد التي تمثل ركيزة النظم الليبرالية. وتعتبر الحرية هي الركيزة لمنظومة حقوق الإنسان في المنظور الغربي، ولكن ما مدى التمسك بالحريات أمام التهديد الأمني الذي يمكن أن تواجهه الدولة؟ في تهديد أقل خطورة نسبيًّا من فيروس كورونا –إجراءات مكافحة الإرهاب في بريطانيا- أجاب رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “ديفيد كاميرون” عن هذا التساؤل بأنه عند الحديث عن الأمن لا مجال لحقوق الإنسان.
وفي مواجهة فيروس كوفيد-19 اتخذت الدول العديد من الإجراءات التي تحد من الحريات المدنية، مثل: زيادة المراقبة على المواطنين خاصة المراقبة على الإنترنت، وإطلاق تطبيق جديد للهواتف الذكية يجري تطبيقه حاليًّا في أستراليا والصين وإيطاليا والمكسيك وسنغافورة وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة وإسرائيل لتعقب تحركات المرضى، والتأكد من التزام المواطنين بالحجر الصحي المنزلي. بالإضافة إلى إجراءات حظر التجول الجزئي أو العام في العديد من الدول، وفرض موانع أو قيود على السفر، بالإضافة إلى تقييد حرية التعبير. على سبيل المثال، في روسيا زادت السلطات من تقييد وسائل الإعلام ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي للسيطرة على المعلومات المتداولة حول الفيروس، الأمر الذي قال معارضون إن الهدف منه هو قمع الحريات، ومنع تشارك الآراء وانتقاد الحكومة. وفي المجر، تم تشريع قانون يفرض عقوبة السجن لمدد تصل إلى خمس سنوات على من يعرقل إجراءات احتواء انتشار الفيروس، وعلى من ينشر معلومات خاطئة تتعلق بالأزمة. وأشارت جماعات حقوقية إلى أن القانون ربما يُستخدم لإسكات الصحفيين.
وقد عبر “ماسيمو موراتي”، الباحث في منظمة العفو الدولية، عن المخاوف الناتجة عن فرض بعض القيود على الحريات بدافع الإجراءات الأمنية لمواجهة الفيروس، قائلًا: “إن حالات الطوارئ مسموح بها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، لكن ينبغي أن تستمر هذه الإجراءات فقط لحين انتهاء المخاطر المتعلقة بالفيروس، ويجب الحذر من أن تصبح الإجراءات التقييدية وضعًا تقليديًّا جديدًا”. وفي السياق نفسه، قال رئيس مكتب حقوق الإنسان في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، إنه بينما يتفهم الحاجة للعمل بسرعة لحماية السكان من جائحة «كوفيد – 19»، يجب أن يتم تحديد مهلة زمنية لحالات الطوارئ المعلنة حديثًا، وأن يتم تطبيقها تحت إشراف برلماني.
ولا شك أن هناك تخوفًا مزدوجًا من استخدامات الفضاء السيبراني في هذه الأزمة، سواء في أعمال المراقبة الإلكترونية التي تقوم بها الدول، وعدم وجود ضمانات لتخليها عنها إذا ما انتهت الأزمة، أو التزامها بمبادرة النبض العالمي للأمم المتحدة لضمان تسخير البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيات الناشئة بأمان ومسئولية للصالح العام، من جهة. ومن جهة أخرى، قد يتعرض الأمن القومي للخطر عندما يزداد الاعتماد على الفضاء السيبراني ويضطر السياسيون والدبلوماسيون والمسئولون العسكريون إلى استبدال العمل عن بعد ومؤتمرات القمة الافتراضية للاجتماعات المباشرة، فيمثل فرصة للقرصنة الإلكترونية. وقد حاول المتسللون بالفعل اقتحام منظمة الصحة العالمية في بداية مارس 2020، كما يمكن أن تكون المخاطر مالية، مثل خرق الحسابات المصرفية الخاصة.
لقد كشفت الأزمة أنه لا مجال للتمتع بالحريات إذا كان هناك تهديد، وأنه لا تذمر من الإجراءات الأمنية إذا كانت تقي من الخطر، ولا فارق هنا بين دول ليبرالية أو غير ذلك، فلماذا تتقبل الدول الليبرالية هذه الحقيقة حينما تواجه هي تهديدًا وتنكره على الدول الأخرى في كثير من الأحيان، أي إن الأمن هنا هو القيمة العليا وليس الحرية، وحرية الدولة فيما تتخذه من إجراءات وسياسات لدعم وصيانة أمنها وأمن مواطنيها يسبق حريات الأفراد؛ لأن إرادة الدولة ليست مجرد مجموع إرادات أفرادها. وبالتالي لا يجب أن يكون تعريف الحرية ومتطلبات الديمقراطية التي تتشدق بها الدول الليبرالية هو ما يجب أن يكون، فالواقع الذي نعايشه بفعل فيروس كورونا المستجد يثبت أن هذه القيم في طريقها للمراجعة. وقد توقع “ستيفن والت” (أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأمريكية) هذا، وقال: “يخلق فيروس كورونا عالمًا أقل انفتاحًا وأقل ازدهارًا وأقل حرية، لم يكن الأمر كذلك بهذه الطريقة، لكن الجمع بين فيروس قاتل وتخطيط غير ملائم وقيادة غير كفؤة، وضع البشرية على مسار جديد ومثير للقلق”.
ثانيًا- مرونة النظم المركزية
بدأت أزمة فيروس كوفيد-19 في الصين، وانتشرت منها إلى العالم، واتخذت الصين عدة إجراءات للسيطرة على انتشاره. وبالفعل حققت هذه الإجراءات الغرض منها. وفي المقابل، كانت الدول الغربية (إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة) أقل قدرةً على السيطرة على انتشار الحالات، وتُعتبر من أكثر الدول التي تشهد تفشيًا للفيروس. ولم تكن الصين وحدها هي النموذج في السيطرة الأكثر نجاحًا على الفيروس، بل هناك العديد من الدول التي تتميز بمركزية نظامها السياسي، مثل روسيا وبولندا والصرب والدول العربية، وذلك في مقابل النظم الليبرالية في الدول الغربية. وأشارت الكتابات المختلفة إلى أن النظم المركزية كانت أكثر قدرة على فرض الإجراءات وشدة في الرقابة على تنفيذها، وأظهرت مرونة في التنفيذ واتخاذ إجراءات احترازية متشددة في فرض الحجر الصحي أو العزل التام في بعض الأحيان، وفرض حظر التجول وقيود السفر أو الإسراع في توجيه المؤسسات الأمنية لإلزام المواطنين بهذه الإجراءات.
هذه المفارقة أثارت التساؤل حول مدى تأثير طبيعة النظام السياسي على فعالية مواجهة الفيروس أو التهديدات الجسيمة؟ وهل ستتجه النظم الليبرالية لمزيد من المركزية إذا ما انتهت الأزمة؟ وتشير التقديرات المختلفة إلى أن هذا الوباء سيقوي الدولة، ويدفع الحكومات بجميع أنواعها لفرض إجراءات طارئة لإدارة الأزمة، وسيكره الكثيرون التخلي عن هذه السلطات الجديدة عند انتهاء الأزمة. ويستدل على نمو هذا الاتجاه بأن هناك بعض الحكومات التي يمكنها أن تستثمر حالة الطوارئ بسبب كوفيد-19 لتزيد من صلاحياتها وتزيد من سلطاتها. وتقدم صربيا مثالًا لهذا الاتجاه، فمنذ أن أعلن الرئيس الصربي “ألكسندر فوتشيتش”، حالة الطوارئ المفتوحة في 15 مارس، تم تهميش البرلمان، وإغلاق الحدود، وفرض حظر التجول لمدة 12 ساعة، وتم منع من تزيد أعمارهم عن 65 عامًا من مغادرة منازلهم، وهي بعض الإجراءات الصارمة المتبعة في أوروبا بشكل عام لمكافحة جائحة كوفيد–19؛ إلا أن الفارق هو أن الزعيم الصربي يقوم يوميًّا بإصدار مراسيم جديدة تعزز سُلطته الكاملة، ما أثار سخط وغضب المعارضين الذين يقولون إنه استغل فيروس كورونا للسيطرة على الدولة بطريقة غير دستورية ودون ضوابط. كذلك فإن روسيا قد استثمرت هذه الأزمة وتم تمرير قانون تعديل الفترة الرئاسية، وانسحبت من اتفاقها مع منظمة “أوبك” لتحقيق مكاسب خاصة بإثارة اضطراب في سوق الطاقة العالمي.
وبالتالي هل يمكن أن تصبح الصين نموذجًا سياسيًّا كما هي نموذج اقتصادي وتكنولوجي بعد انتهاء الأزمة، ويصبح تعزيز السلطات السياسية للدولة في اتجاه لمزيد من المركزية في نظم الحكم المختلفة، ليكون جانبًا آخر يتطلب مراجعة في المنظومة الليبرالية.
ثالثًا- العالمية في مقابل المحلية
تمثل أزمة فيروس كوفيد-19 أزمة معقدة لها العديد من الأبعاد وليست مجرد أزمة صحية، لعل أخطر التداعيات المحتملة التي يمكن استشرافها تتمثل في تحدي العولمة بمفرداتها الاقتصادية والسياسية أو القيمية. فالعولمة الاقتصادية التي تربط بين اقتصاديات الدول، شهدت تحديًا كبيرًا جراء الأزمة المالية العالمية عام 2008؛ حيث تضررت الدول بنسب متفاوتة بقدر انخراطها في الأسواق المالية والاقتصادية العالمية، لكن الخسائر الاقتصادية الهائلة التي تسببت فيها الأزمة حتى الآن تبدو أكثر ضخامة وأشد تأثيرًا.
ورغم الإجراءات التي اتخذتها العديد من الدول لوقاية الفئات الأكثر فقرًا من آثار الأزمة وتقديم تعويضات مؤقتة، أو لتأمين اقتصاداتها من الانهيار، خاصة في بعض القطاعات مثل الطاقة والسياحة؛ فإن التداعيات الاقتصادية المتوقعة أعمق من هذا، فقد يؤدي لمراجعة مدى قدرة الدولة على فك أو تخفيف الترابط نسبيًّا بالاقتصاد العالمي ومؤسساته وقواعده. فتقول “لوري غاريت” (الكاتبة العلمية الحائزة على جائزة بوليتزر): “الصدمة الأساسية للنظام المالي والاقتصادي العالمي هي الاعتراف بأن سلاسل التوريد وشبكات التوزيع العالمية معرضة بشدة للخلل، وبالتالي، لن يكون لوباء كورونا آثار اقتصادية طويلة الأمد فحسب، بل سيؤدي إلى تغيير أكثر جوهرية». كما يقول “كيشور محبوباني” (وزير خارجية سنغافورة سابقًا): “لن يغير فيروس كورونا بشكل أساسي الاتجاهات الاقتصادية العالمية، سوف يسرع فقط من التغيير الذي بدأ بالفعل، وسيتم الانتقال من العولمة التي تركز على الولايات المتحدة إلى العولمة التي تتمحور حول الصين. لقد فقد الشعب الأمريكي ثقته بالعولمة والتجارة الدولية واتفاقيات التجارة مع أو بدون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب”.
أما العولمة السياسية المرتبطة بالقيم السياسية الليبرالية ومنظومة الديمقراطية وحقوق الإنسان وانفتاح العالم الذي يسمح بتدخل الدول الكبرى في شئون الدول الأخرى، فتواجه هي الأخرى تحديًا كبيرًا في المستقبل. فكما سبقت الإشارة إلى القيم التي تتطلب مراجعة، فإن الاتجاه للداخل وتعزيز الاتجاهات القومية قد يزداد، وكما تجاوز شعار الولايات المتحدة “أمريكا أولًا” الحملة الانتخابية السابقة لترامب ليصبح اتجاهًا للسياسة الفعلية الأمريكية أكدته إدارتها –وبالأحرى عدم إدارتها- للأزمة العالمية الراهنة؛ فقد يصبح هذا الاتجاه للداخل وتنامي النزعات القومية اتجاهًا مستقبليًّا. ويقول “ريتشارد هاس” (رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية): “أعتقد أن أزمة الفيروس ستؤدي على الأقل لبضع سنوات على الأقل إلى تحول معظم الحكومات إلى الداخل، مع التركيز على ما يحدث داخل حدودها بدلًا من على ما يحدث بعدهم.. وأتوقع تحركات أكبر نحو الاكتفاء الذاتي الانتقائي”.
وبصفة عامة، يمكن القول إن الإشكالية التي ظهرت مع نهاية الحرب الباردة بين حدود العالمية والخصوصية التي تلاشت فيها تلك الحدود نسبيًّا وأصبح العالم قرية صغيرة، يعاد صياغتها مرة أخرى في الوقت الراهن لكن في الاتجاه المعاكس، فقد كشفت الأزمة أن التعاون بين الدول لمواجهة الفيروس كان مقيدًا بمصالح محلية ضيقة في بعض الأحيان، خاصة بين الدول التي تقود العولمة، ومن ثم يمكن أن يزداد اتجاه الدول لتنمية قدراتها الذاتية والاستعداد لمراحل أطول من الانغلاق أو العزلة وفرض خصوصيتها على حساب الانسياق التام للاتجاهات العالمية.
رابعًا- فراغ قمة النظام الدولي
تقول “كوري شاك” (نائب المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في الولايات المتحدة): “لن يُنظر إلى الولايات المتحدة بعد الآن على أنها رائدة دولية بسبب المصلحة الذاتية الضيقة لحكومتها وعدم الكفاءة الفادحة، كان من الممكن تخفيف الآثار العالمية لهذا الوباء إلى حد كبير، هذا شيء كان يمكن للولايات المتحدة تنظيمه، لكنها كان تهتم فقط في ذاتها، لقد فشلت واشنطن في اختبار القيادة”.
تتفق التقديرات على عدم قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم لمواجهة أزمة فيروس كوفيد-19، لكن تختلف حول انتقال القيادة للصين خاصة بعد أن وظفت الأزمة سياسيًّا بشكل جيد لتدعيم نفوذها الخارجي أمام فراغ قمة النظام الدولي، على اعتبار أن تكتم الصين في بداية الأزمة وتراجع اقتصادها نسبيًا، بالإضافة إلى اهتمام الدولتين بالتنافس بينهما في ظل هذه الأزمة بدرجة ملحوظة؛ يظهر أن استبدال الولايات المتحدة بالصين ليس هو الوضع الأفضل لبقية دول العالم.
وتتجه أغلب الكتابات إلى أن الأزمة كشفت عن صعوبة التعاون بين الولايات المتحدة والصين لقيادة النظام الدولي، أو صعوبة تكوينهما لتحالفات مستمرة، فيقول “ريتشارد هاس”: “أمام الولايات المتحدة خياران، إذا كان هدفها الأساسي هو الحفاظ على التفوق العالمي، فسيتعين عليها الانخراط في منافسة جيوسياسية صفرية محصلتها صفر، سياسيًا واقتصاديًا مع الصين. وإذا كان هدف الولايات المتحدة هو تحسين رفاهية الشعب الأمريكي -الذي تدهورت حالته الاجتماعية- فعليها أن تتعاون مع الصين. ويقترح أن يكون التعاون هو الخيار الأفضل. ومع ذلك، بالنظر إلى البيئة السياسية الأمريكية السامة تجاه الصين، قد لا تسود المشورة الأكثر حكمة”.
ويقول “جوزيف ناي جونيور”: “في عام 2017 أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استراتيجية جديدة للأمن القومي تركز على منافسة القوى العظمى، ويظهر فيروس كورونا أن هذه الاستراتيجية غير كافية، حتى لو سادت الولايات المتحدة كقوة عظمى، فإنها لا تستطيع حماية أمنها من خلال التصرف بمفردها”.
وعن مستقبل النظام الدولي ومدى ما يشهده من تغيرات محتملة بفعل أزمة فيروس كورونا المستجد، هناك وجهتا نظر؛ الأولى: يعتمد أصحابها على ما كشفته الأزمة من عناصر ضعف في النظام القائم على الأحادية الأمريكية مع صعود قوى دولية أخرى (الصين)، سواء في القيادة الأمريكية ذاتها وتأثر علاقتها بحلفائها سلبيًّا، أو في المؤسسات العالمية الاقتصادية أو غيرها من منظمات دولية، أو في القواعد التي تدير العلاقات بين الدول. ونتيجة لهذا الانكشاف تزداد حالة السيولة في النظام الدولي، ويعاد تشكيل التوازنات الدولية وتشكيل التحالفات الثنائية أو الجماعية، وربما تتفكك بعض المؤسسات كالاتحاد الأوروبي الذي تعاني أغلب دوله من انتشار الفيروس. بعبارة أخرى، ستقوم هذه الأزمة بتعديل هيكل القوة الدولية بطرق متعددة، فسوف يستمر الفيروس في خفض النشاط الاقتصادي وزيادة التوتر بين الدول على المدى الطويل.
وجهة النظر الثانية، يرى أصحابها أنه رغم ضخامة أزمة فيروس كورونا المستجد إلا أنها أزمة طارئة تؤدي إلى خسائر ضخمة، لكنها لن تغير بالضرورة في حالة النظام الدولي القائم. ويُبنى هذا الرأي على عدة اعتبارات، أهمها أن الولايات المتحدة قادرة على تعويض الخسائر الاقتصادية التي لحقت بها اتساقا مع اتساع اقتصادها وتعدد الأسواق التي تتواجد فيها، خاصة مع توجه الإدارة الأمريكية لطرح برامج لمساعدة الشركات الكبرى على تجاوز هذه الفترة وطمأنة الأسواق الداخلية والخارجية، أي إن عدم قدرة الولايات المتحدة على القيادة العالمية في هذه الأزمة لا يعني بالضرورة عدم قدرتها على السيطرة على تداعياتها. والاعتبار الثاني، يتمثل في أن نجاح الصين في الحد من انتشار الفيروس لا يعني نجاحًا حاسمًا، فما زالت تعاني وما زال الفيروس متواجدًا، ولم تطور العلاج اللازم له لتحقق مكسبًا يضمن لها مد نفوذها عالميًا. ولا يعد دعمها للدول الأوروبية في الأزمة دافعًا قويًّا لتحويل ولائهم من الولايات المتحدة للصين، باعتبارهم الحليف الأساسي للولايات المتحدة. أما الاعتبار الثالث، فيظهره عدم تدمير البنية التحتية لأي من الدولتين الكبيرتين (الولايات المتحدة والصين)، وبالتالي فإنه مع انتهاء الأزمة ستعمل كل منهما على احتواء الموقف وربما تهدئة حدة التنافس بينهما أو التعاون المرحلي ثم تعاود كل منهما بعد التعافي إعادة ترتيب أولوياتها، ويكون المعيار الحاسم هنا هو قدرة كل منهما على تنفيذ هذا الاحتواء بفعالية.
مجمل القول، إن أزمة فيروس كورونا المستجد تمثل لحظة فارقة في تطور العلاقات بين الدول وإعادة النظر في العديد من القواعد السائدة فيها، وما زال الوقت مبكرًا لحسم العديد من الإشكاليات التي تطرحها هذه الأزمة، لكن بمتابعة المؤشرات ربما يوفر الملامح الأوضح للاتجاهات المستقبلية لهذه العلاقات.