يواجه قيادات العالم والمخططون الاستراتيجيون إشكالية كبرى وهى كيفية التوفيق بين مواجهة وباء «كورونا» وحماية أرواح الناس من جانب، واستعادة النشاط الاقتصادى من جانب آخر، أى حياة الناس وبقاءهم من خلال دورة إنتاج توفر لهم مقومات الحياة. وفى القرارات التى اتخذها الكثير من الدول، نجد أن الفكرة الرئيسية الغالبة هى تقديم إعانات للفئات المتضرّرة كالعمالة اليومية والأنشطة الصغيرة، ومساعدات وتسهيلات للقطاعات الاقتصادية الأكثر تضرّراً، كالسياحة والطيران والصناعات الاستراتيجية، من قبيل تأجيل سداد القروض عدة أشهر، وتوفير تمويلات ائتمانية بفائدة محدودة تقترب من الصفر أحياناً. ففى فرنسا سيتم توفير 300 مليار يورو لدعم الأنشطة الصغيرة، لتجاوز صدمة العزل، وتقديم قروض للصناعات الاستراتيجية كشركات الطيران والمطارات وصناعة الأسلحة، أو تحصل الحكومة على نسبة فى الملكية، وقد يصل الحال إلى تأميمها. وهو التفكير ذاته وبتعديلات محدودة تم إقراره فى بريطانيا، وإسبانيا. وفى مصر تم تخصيص 200 مليار جنيه لدعم الأنشطة الصغيرة وتوفير مساعدات للعمالة اليومية.
كما تسعى الحكومات لدى المؤسسات التمويلية الدولية كالبنك الدولى للحصول على مساعدات عاجلة باعتبار أن ما تواجهه هذه الدول يدخل فى إطار مواجهة ظروف طارئة وكوارث أكبر من قدرة الدولة على المواجهة وحدها. والبنك الدولى بدوره يتوقع طلبات حكومية، كإعانات عاجلة وتمويلات سريعة تصل إلى 50 مليار دولار. كما اعتمدت الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية ويونيسيف مليارى دولار لمساعدة الدول على مواجهة الوباء ودعم أنظمتها الصحية وتعزيز قدراتها.
التحركات الدولية والمحلية بلا شك هى جهود مقدرة، لكنها تظل فى إطار تخفيف الأضرار المؤكدة على الاقتصاد العالمى ككل، ومن ثم تظل الإشكالية قائمة، وهى كيف تستعيد الاقتصادات الوطنية نشاطها فى ظل الإجراءات الصحية التى تفرض العزل ومحدودية الحركة والتباعد الاجتماعى وتوقف أنشطة اقتصادية وصناعات استراتيجية كبرى، وتعطل سلاسل التوريد العالمية، وأنشطة الخدمات، ومن ثم انخفاض التوقعات الخاصة بالنمو فى كل البلدان تقريباً، والأفضل قد يحقّق ما بين أقل من نصف إلى واحد ونصف فى المائة، شرط التعافى وبدء دوران الاقتصاد فى أقرب فرصة ممكنة. وهنا يطرح خبراء دوليون ومسئولون محليون ثلاثة مسارات؛ أولها استمرار إجراءات العزل وتوقف النشاط الاقتصادى عدة أشهر أخرى، ما دام الفيروس يحصد أرواح الناس ويسبب القلق العام ويشل يد الحكومات. وجوهر الأزمة هنا أنه سيأتى يوم لا تستطيع فيه الحكومات الوفاء بالتزاماتها تجاه شعوبها. والنتيجة المحتملة لهذا المسار أن تندلع المشاحنات الاجتماعية وترتفع احتمالات الفوضى العامة، مما يسبّب المزيد من حصد الأرواح وانهيار الدول. ففى بلد كالولايات المتحدة ارتفعت نسبة مبيعات الأسلحة الشخصية إلى مستويات قياسية فسّرها المشترون بالاستعداد لحماية أنفسهم وممتلكاتهم فى حال تعرّضوا للاعتداء من قِبل الغاضبين الفقراء. مما يعنى أن مشاهد الفوضى المجتمعية لن تقتصر على دول بعينها، بل ستعم الجميع.
المسار الثانى ويتعلق بالنجاح السريع لجهود التحالفات الطبية والدوائية العابر للحدود ومع منظمة الصحة العالمية فى السيطرة على تفشى الوباء فى مدى لا يتجاوز شهرين أو ثلاثة على الأكثر، ومن ثم يتم تنشيط القطاعات الاقتصادية وتعود الأمور إلى طبيعتها تدريجياً. بيد أن احتمال التوصّل إلى علاج فعّال أولاً، ثم لقاح موثوق ثانياً بعد أشهر محدودة، غير مضمون تماماً، فالفيروس ما زال غامضاً فى تطوره الجينى قبل وبعد تمكنه من جسم المريض، والعلاجات التى قدّمت فى دول مختلفة، ورغم نجاحها فى بعض الحالات، فهى لم تصل بعد إلى مرحلة اليقين أنها العلاج الناجع الذى يعتمد عليه. وما دام عدم اليقين فى احتواء تفشى الوباء قائماً تظل استعادة كامل النشاط الاقتصادى أمراً مشكوكاً فيه إلى حد كبير.
المسار الثالث، ويدعو إلى التعايش مع الفيروس مع الاستمرار فى جهود السيطرة عليه، استناداً إلى أن حالة عدم اليقين، التى تصاحبها جهود للسيطرة على الفيروس، يجب ألا تعطل النشاط الاقتصادى بأى حال، وأنه يجب التفكير فى صيغة مجتمعية تعيد النشاط الاقتصادى مع التعايش مع الفيروس، حتى يتم القضاء عليه، أى التخفيف التدريجى من إجراءات العزل الاجتماعى والعودة إلى النشاط الاقتصادى، مع استمرار جهود مواجهة الوباء. ومبرر هؤلاء أن استشراء الجوع وما يسبّبه من توترات اجتماعية هو أخطر من موت بعض المصابين. ولأن استعادة النشاط الاقتصادى سوف تمكن المجتمع من توفير أموال أكثر لمواجهة الفيروس ودعم الصحة العامة. وتبدو حالتا كوريا الجنوبية والسويد ملهمتين فى هذا السياق، ولكل منهما خصوصيتها، لكنهما تجسدان مبدأ أهمية الاعتماد على وعى المجتمع لمواجهة الفيروس، والتخفّف من إجراءات العزل الجماعى كما فى كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان، مع توظيف تكنولوجيا الرصد الجماعى للتعرّف المباشر والسريع أولاً بأول على الأشخاص المصابين والمخالطين لهم، وسرعة عزلهم عن باقى المجتمع وتقديم العلاج لهم، وهو ما أدى إلى انخفاض معدلات الإصابة تدريجياً، مما يفتح الباب أمام تطبيق نموذج التعايش ومواجهة الفيروس جنباً إلى جنب استعادة الاقتصاد دورته العادية، ولو بتدرّج، ووفق إجراءات تتبعها كل الشركات والمصانع، ويلتزم بها الأفراد التزاماً صارماً. أما حالة السويد فتعتمد أساساً على ارتفاع مستويات التعليم وقوة مرفق الصحة العامة والبيئة الأكثر نظافة وعدم نشر الفزع والخوف، مما أدى إلى التزام طوعى مجتمعى بالتعليمات دون مقاومة أو استهتار، وفى الآن نفسه استمرار النشاط العام كما هو. وفى الحالتين هناك غنى اقتصادى ووفرة مالية وتقدم تكنولوجى تم توظيفه لصالح السيطرة على تفشى الوباء. وهى شروط لا تتوافر لدى غالبية المجتمعات والدول بما فيها دول متقدمة اقتصادياً، لكنها هشّة صحياً.
على الصعيد العالمى، يبدو الاتجاه العام فى عدم الاكتفاء على مواجهة الوباء وتداعياته الاقتصادية محلياً وفردياً فقط، بل من خلال تعاون دولى كبير، أبرزته الدعوات إلى ضرورة تبنى مشروع مارشال دولى ومشروع مارشال أوروبى وفقاً لرئيس وزراء إسبانيا، وخطط البنك الدولى فى توفير مليارات الدولارات للدول الفقيرة والنامية، غير أن أبرز عائق يأتى من الولايات المتحدة التى يظل دورها العالمى مهماً وغير قابل للاستغناء عنه، إذ الأولوية فى ظل التوجّهات الشعبوية للرئيس ترامب هى للداخل الأمريكى بغض النظر عما يجرى فى باقى العالم. وإذا تغيرت تلك النظرة فمن المتوقع أن يتحرك العالم باعتباره وحدة واحدة لإنقاذ نفسه من مصير مجهول سيضرب الجميع فى مقتل.
نقلا عن جريدة الوطن، نُشر في 7 أبريل 2020