فرضت الاستقطابات في مسألة سد النهضة عودة إلى نقاش بشأن العلاقات المصرية-السودانية، خصوصًا أن المقال السابق في الموضوع ذاته قد ألقى حجرًا في المياه الجارية، وجاءت عليه ردود فعل مكتوبة وشفوية من السودان، وأيضًا من عواصم الدنيا التي ينتشر فيها السودانيون، وحظي بردود فعل من بعض الصفحات الإثيوبية على وسائل التواصل الاجتماعي.
ربما يكون من الأهمية بمكان لفت الأنظار إلى أن حالات الحساسية المفضية إلى مشكلات لا تقتصر على العلاقات المصرية-السودانية، ولكنها ممتدة باتساع العالم العربي وإفريقيا أيضًا، فمشكلات العلاقات السودانية-الإثيوبية، والعلاقات بين دولتي السودان، وأيضًا العلاقات السورية-اللبنانية، والعلاقات الجزائرية-المغربية، والعلاقات السعودية-اليمنية؛ هي نماذج يمكن الإشارة إليها في سياق العلاقات العربية-العربية المحتقنة.
وفي ظني أن الإشارة السابقة مهمة في تحقيق انتباه أن حالة الاحتقانات المؤقتة أو الممتدة في العلاقات المصرية-السودانية هي حالة متكررة، وبالتالي لا بد وأن تكون في الحجم المناسب وألا تتضخم، فيتم الإساءة إلى مصالح الشعبين المصري والسوداني اللذين يحصدان خسائر غير مطلوبة، وهي المسألة الأصلية التي تقف وراء جهودنا الشخصية، وجهود آخرين على الجانبين المصري والسوداني لهم إسهامات مقدرة في هذا المجال.
وقد رأيت أنه من المناسب هنا طرح المستجدات في هذا المسار، انطلاقًا من منصة “المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية”، الذي يدشن اهتمامًا مطلوبًا بملفي العلاقات المصرية-السودانية، ودولتي السودان، انطلاقًا من أهميتهما الكبيرة لمصر على المستويين الرسمي والشعبي، وأيضًا تماشيًا مع اهتمامات المركز الأكاديمية التي نأمل أن تتوسع في هذا الملف.
ولعل تعميق النقاش في ملف العلاقات الثنائية يبدو مطلوبًا في ضوء ردود الفعل السودانية التي أَثْرَت الحوار بلا شك، وأضافت إليه نقاطًا جديدة، خصوصًا التي وردت شفويًّا من المفكر السوداني الكبير “د. حيد إبراهيم” مؤسس مركز الدراسات السودانية، وكذلك تلك المقالات التي أُتيح لي الاطلاع عليها وكتبها “د. صلاح البشير”، والسياسي الشاب “فتاح عرمان”، والكاتب الصحفي “محمد إبراهيم”، و”تاج السر حسين” على وجه الخصوص.
ويمكن القول إن القاسم المشترك في ردود الفعل السودانية أنها ركزت على الفاعل المصري (لا ننفي مسئوليته) في العلاقات دون الانتباه بالقدر الكافي لأمرين في تقديري؛ الأول: دور الفاعل السوداني، وتغير هذا الدور إزاء مصر، إما بسبب موقعه السياسي أو الحزبي أو انتمائه القبلي أو العرقي. الثاني: هو الإدراك السوداني لمصر والمتغيرات الثقافية والاجتماعية فيها. ولعل تأثر السودانيين بهذين العاملين جعل النخب السياسية المعارضة لنظام “البشير” التي تحكم الآن، أو القريبة من دوائر الحكم حاليًّا في السودان؛ تتقاعس عن مسئوليتها الأخلاقية في تصحيح الإدراكات السلبية لمصر في السودان، وذلك في ضوء أنها عاشت في مصر لأكثر من خمسة عشر عامًا، وقادت العمل المعارض من القاهرة ضد “البشير” حتى عام ٢٠٠٥، واستطاعت أن تتفاعل مع كافة الفئات الاجتماعية في مصر، بدءًا من النخب السياسية والفكرية وحتى سائقي التاكسي والبائعين الجائلين. بل إنها تعلم علم اليقين أن جزء من الإعلام المصري هو تعبير عن مصالح ضيقة لبعض الفئات أكثر منه تعبيرًا عن حالة الشارع المصري أو النخب المصرية تجاه السودان. ولعل من مارس استثناء -على حد علمي- في هذا الأمر هو السياسي المخضرم “الواثق كمير”.
لعل هذه المقدمة الطويلة نسبيًّا كانت مطلوبة للتركيز هنا على محورين في هذا المقال، هما التوسع في نقاش دور العامل الخارجي في ملف العلاقات بين القاهرة والخرطوم، والثاني العوامل الداخلية السودانية المؤثرة على العلاقات في الوقت الراهن، حيث سيتم تجاهل المسئولية المصرية في هذا المقال لظروف المساحة.
أولًا- أدوار الخارج في وادي النيل:
يبدو أن هناك استراتيجيات غربية لتقسيم القارة بين شمال عربي وجنوب زنجي، وسياسات انقسامية في هذا المجال مؤسسة على الأبعاد العرقية، والتي نستطيع أن نلمس أثرها في العلاقات المصرية-السودانية، أو في الاستقطابات الإقليمية المؤثرة عليها. فعلى المستوى الغربي، نستطيع القول إن هناك “فيتو” غربيًّا على التفاعل المصري في قضايا السلام في السودان، وهو موقف ممتد منذ ستينيات القرن الماضي حينما تم تهميش مصر في ملف مساعي السلام بالحرب الأهلية السودانية بين شمال وجنوب السودان، وهو الموقف الممتد راهنًا في محاولة لتهميش الدور الإقليمي المصري في السودان والقرن الإفريقي، وهو الموقف الذي يخلق الأدوات المناسبة لأطراف إقليمية أخرى لتكون أكثر تفاعلًا في قضايا السلام بالسودان، بل ويتم دعم ذلك دوليًّا على مستوى تمويل هذا الدور. ولعله ليس سرًّا أن مصر قد خاضت حروبًا في الكواليس كي تستطيع أن تساهم مساهمة فعالة في قوات حفظ السلام بدولة جنوب السودان، كما أنها سعت لعضوية منظمة “إيجاد”، وهي المنظمة المعنية بالتنمية في دول القرن الإفريقي، ولكن مجهوداتها باءت بالفشل، بسبب مقاومة غربية بالأساس وجدت استجابات إقليمية، مفارقة للمصالح الإفريقية-الإفريقية التي يسعى إليها الاتحاد الإفريقي مثلًا ولو نظريًّا.
هذا التقسيم على الأسس العرقية تم استخدامه ضد مصر من جانب قوى الهامش السوداني التي تتهم المركز النيلي السوداني ومصر معه باستهدافهم، ولا يمكن نكران محاولة نظام “البشير” توظيف المكون العروبي المصري لدعم نظامه، وهو ما كان يقابل عادةً بتحفظ مصري. وظهر ذلك في مناسبتين عايشتهما، إحداهما زيارة لـ”عبدالرحيم حسين” وزير الدفاع الأسبق في لقاء مع الهيئة العلمية لـ”مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية” عام ٢٠٠٦ على ما أذكر، والأخرى كانت في محاضرة ألقاها “غازي صلاح الدين” في صحيفة “الأهرام” بقاعة هيكل تحدث فيها عن ضرورة نصرة العروبة والإسلام في السودان، وهو ما رد عليه الحضور بالتحفظ والرفض. أما الاحتكاك الشخصي فكان على طائرة قادمة من الخرطوم للقاهرة مع “الطيب مصطفى” الذي قاد -وما يزال- تمييزًا عنصريًّا ضد المكون الزنجي السوداني، وكان خطابه من أسباب تقسيم السودان، وقال لي بالحرف: “نحن نشبهكم ولا نشبههم”!.
أما على المستوى الاقتصادي فإنه من المتواتر بالكواليس أيضًا أنه كان هناك فيتو أمريكي وقت الرئيس الأسبق “مبارك” على التوسع الزراعي في السودان، خصوصًا في مجال زراعة القمح، وهو ما أعرف أنه قد استجاب له، حيث تم احتضان حركة كوش في واشنطن بغرض ترهيب مصر وتخويف القطاع الخاص المصري من الإقدام على هذه الخطوة بتوسع، وهي الحركة التي تقول إن هناك نية مصرية للتغول بالولاية الشمالية في شمال السودان، وتحارب من على منصاتها أي محاولة مصرية للتواجد الزراعي، وتعتبره تواجدًا استعماريًّا، بينما لا تعلق على التوسع الزراعي الخليجي. وبطبيعة الحال تستخدم “كوش” كافة المفردات السلبية التاريخية في ماعون العلاقات المصرية-السودانية. وفي هذا السياق، كان من المتواتر، خصوصًا في العقد الأخير، نعت السلع المصرية بالفاسدة والمسرطنة، إلى حد أن وُصف البرتقال المصري المائل لونه إلى الاحمرار بأنه محقون دمًا ملوثًا، وهي ادعاءات لا يتم تفنيدها ولا يتصدى لها أحد على المستوى الإعلامي السوداني، وكانت أدوات في نظام “البشير” بالمحطات التي يقرر فيها رفع التوتر في العلاقات الثنائية.
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل الفاعلية الإثيوبية في تصعيد التوتر في العلاقات المصرية-السودانية، خصوصًا في الفترة الأخيرة، ذلك أن الربط الكهربائي بين مصر والسودان الذي تم خلال مارس الماضي ردت عليه إثيوبيا بالانتشار العسكري في مناطق الفشقة على الحدود بين البلدين، وهو الأمر الذي استدعى وجودًا لـ”عبدالفتاح البرهان” -رئيس المجلس السيادي السوداني- في المناطق ذاتها، وتأكيده فعالية القوات المسلحة السودانية في حماية التراب الوطني، وكذلك زيارة رئيس أركان الجيش الإثيوبي للخرطوم في أعقاب زيارة رئيس المخابرات المصري مباشرة، وهو مشهد يُشير بوضوح إلى طبيعة الاستقطابات الإقليمية وتأثر مشهد العلاقات في وادي النيل به.
ثانيًا- الدور السوداني في مشهد العلاقات الثنائية:
ربما يكون من اللافت تبرئة السيد “الصادق المهدي” -زعيم حزب الأمة، وإمام الأنصار- مؤخرًا للرئيس “حسني مبارك” من مسألة ضرب الجزيرة آبا بالطيران في أواخر عصر “السادات”. وإذا كان هذه التبرئة قد فات أوانها بالتأكيد؛ إلا أن هذا الاتهام قد لعب دورًا سلبيًّا في ضرب التعاون الاقتصادي بين مصر والسودان في مقتل، حين قرر “الصادق المهدي” كرئيس للوزراء في الديمقراطية الثالثة إنهاء اتفاق التكامل المصري السوداني، والذي كان قد أبرمه كل من الرئيس “السادات” والرئيس السوداني “جعفر نميري”، وهو التعاون الذي لم يستطع البلدان استعادة زخمه حتى اللحظة الراهنة، ولو كان قد كُتب له الاستمرار لكان موقف الاقتصادين المصري والسوداني في وضع أكثر تقدمًا بالتأكيد، ولصالح الشعبين، وليس خصمًا من أي قوى إقليمية أخرى، بل ربما كان مؤسِّسًا لبذرة الانطلاق لتعاون إقليمي متعدد الأطراف.
أما الموقف الثاني فهو من النخب السياسية الراهنة في السودان التي تتمترس وراء المخاوف من الدعم المصري للمكون العسكري في المجلس السيادي، وتقعد عن أدوارها في بلورة رؤى استراتيجية بشأن مستقبل السودان ذاته، وكيفية الاستفادة من القدرات المصرية الرسمية وغير الرسمية في هذه المرحلة، فهم يحافظون على تقليد سوداني تاريخي بأن التغيير السوداني السياسي لا بد وأن يرتبط بأفعال مصرية، وينسحب ذلك على أن المقتربين من الشأن السوداني بالتخصص العلمي أو المتابعة الإعلامية أو الصحفية لا بد وأن يكونوا أدوات للدولة المصرية العميقة، بينما هذا الفهم لا يمتد أبدًا للمتخصصين الغربيين في الشأن السوداني، ولا يتم التخوف منه، وهو ربما ما يطرح علامات الاستفهام.
وفي الحقيقة أن هذه النخب السياسية السودانية تتناسى أن العمل الأساسي في نجاح السودان نحو التطور الديمقراطي هو الانتباه في هذه اللحظة للعامل الاقتصادي، ودوره في المحافظة على الزخم الشعبي المساند للثورة، خصوصًا بعدما برزت كتابات سودانية تنتقد مسار تحالف الحرية والتغيير، وترى قصورًا في قدرات المكون المدني.
إن هذا التحدي الكبير يتطلب نظرة نحو الأفق الوطني السوداني الشامل، وليس التمترس وراء المحاصصات السياسية والعرقية، والتأثر بالاستقطابات الإقليمية. ومن ثم، فإن انخراط الجميع في بلورة المصالح السودانية الخالصة، وتحديث الهياكل الاقتصادية؛ هو مهمة المرحلة الوطنية، وهو أمر يستلزم من منظوري تكوين ماعون علمي مستقل عن السياسة والسياسيين السودانيين في إطار خلية تفكير استراتيجي لبلورة رؤية وطنية شاملة، تتضمن البحث والتمحيص، ضمن ما تتضمن من ملفات سودانية أساسية، في العلاقات المصرية السودانية وآفاق الاستفادة منها لصالح الشعبين ولتطوير الاقتصادين خصوصًا الاقتصاد السوداني الذي لا بد وأن تكون له الأولوية في هذه المرحلة.